فجأة قيل إنّ «إسرائيل» وافقت على الطرح اللبناني في مسألة الحدود براً وبحراً، وكاد البعض يصدق أن «إسرائيل» تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى كيان يسلّم بحقوق الآخرين ويتوقف عن اغتصابها، فهل هذا الكلام في موقعه من الحقيقة والصواب؟
للإجابة على التساؤل لا بدّ من الانطلاق أولاً من تحديد حقوق لبنان الحدودية، وبماذا يطالب وعلى ماذا وافقت «إسرائيل» أو قيل إنها وافقت؟
في مسألة الحدود ومشاكلها التي تبدو «إسرائيل» طرفاً فيها في مواجهة لبنان، هناك ثلاثة عناوين نتجت بسبب الاحتلال والسلوك والأداء الإسرائيلي، ولكل عنوان منها طبيعة منهج لحلها تختلف عن الأخرى.
العنوان الأول: الجزء من الحدود بين لبنان وسورية، وفي هذا الجزء تتشكل مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا نزولاً إلى الغجر السورية. والمرجعية في هذا الجزء هي للقرار 318 الصادر عن المفوّض السامي الفرنسي في العام 1920 والذي حدّد حدود لبنان الكبير، وبعده لنتائج أعمال لجنة غزاوي وخطيب السورية اللبنانية التي عملت في العام 1946 بعد جلاء القوات الفرنسية عن لبنان وسورية.
وجوهر المشكلة في هذا الجزء أن «إسرائيل» تحتلّ الأرض مدعومة من الأمم المتحدة التي اختلقت فكرة الصلاحية العملانية وقالت ليس لليونفيل ولاية على هذه المنطقة أنما الولاية العملانية او الصلاحية العملانية هي للأندوف أي القوات الدوليّة العاملة في الجولان. طبعاً، إن الادعاء الإسرائيلي والأممي مرفوض ومن كل الوجوه وما إطلاق هذه الذريعة ألا من أجل إبقاء الاحتلال أولاً ثم من أجل اقتطاع الأرض نهائياً ربطاً باقتطاع الجولان السوري وضمه إلى «إسرائيل» زوراً وعدواناً على سورية.
وعليه فإن الحل في هذا العنوان يكون بكل بساطة بالعمل بالخرائط اللبنانية والتي وافقت عليها سورية وانسحاب «إسرائيل» من كامل منطقة مزارع شبعا غربي وادي العسل وصولاً إلى قصر شبيب شمالاً ونزولاً إلى المجيدية ثم الغجر اللبنانية جنوباً وكل كلام آخر يكون نوعاً من التفاوض والجدل حول أرض لبنانية البتّ بلبنانيتها قطعيّ. فإذا كانت أميركا والأمم المتحدة معها فعلاً جادة في الموضوع فإن القضية سهلة الحل خاصة أن القرار 1701 أناط بالأمم المتحدة إيجاد مخرج للقضية وصولاً لتلبية المطالب اللبنانية في تحرير الأرض اللبنانية تلك. وهنا تهمنا الإشارة إلى أن إسرائيل انسحبت في العام 2000 من الجزء اللبناني من الغجر ثم عادت واحتلتها في العام 2006 ولا زالت رغم صراحة القرار 1701 بوجوب أخلائها.
العنوان الثاني: الجزء من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة: إن المرجعية في هذا الجزء هي لاتفاقية بوليه نيوكمب التي رسمت الحدود بين لبنان وفلسطين وهي الحدود التي باتت حدوداً دولية اعتباراً من العام 1932 تاريخ مصادقة عصبة الأمم على الاتفاقية، وهي أيضاً الحدود المعترف بها والمكرّسة باتفاقية الهدنة 1949 بين لبنان و«إسرائيل». وهي حدود نهائيّة معيّنة ومحدّدة ومرسمة ومثبته تمّت إدارتها وتعهّدها من قبل لجنة الهدنة المشكلة من لبنان، «إسرائيل» والأمم المتحدة وتراقبها مجموعة ما يسمّى مراقبو الهدنة OGL.
أما المشكلة على الجزء هذا فتنبع من تصرفين، الأول طمع «إسرائيل» بالأرض اللبنانية خاصة سعيها لامتلاك السيطرة على قمم الهضاب ونزعتها التوسعية لامتلاك السيطرة على أرض لبنانية، والثاني ممالأة الأمم المتحدة لـ«إسرائيل» وسعيها لتجاهل الحدود الدولية المنوّه عنها أعلاه والاتجاه إلى التعامل مع خط متنازع عليه يفرض الاتفاق عليه تفاوضاً بين لبنان و«إسرائيل».
هذا السلوك الإسرائيلي الأممي المزدوج تجلّى في العام 2000 وكانت بدعة الخط الأزرق الذي جاءت به الأمم المتحدة وحاولت عبره أن تعطي «إسرائيل» كل ما تطمع به، ولكنها اضطرت أمام الرفض اللبناني للتراجع عن محاولتها وسلمت بالمطالب اللبنانية إلا في 3 مناطق تحفظ عليها لبنان، فنشأ الخط الأزرق الذي شاع التداول به في الوقت الذي يغفل أكثرهم الحديث عن الحدود الدولية النهائية المرسمة ويتحدّثون عن ترسيم حدود جديدة عن جهل أو سوء نية.
في العام 2000 أخرجنا «إسرائيل» من كل الأرض اللبنانية التي حاولت الاحتفاظ بها والتي كانت بمساحة تلامس الـ 18 مليون م2، لكن «إسرائيل» في العام 2006 عادت واحتلت معظم هذه المساحة وعادت في تموضعها إلى ما كانت الأمم المتحدة عرضته في طرقها للخط الأزرق في صيغته الأولى المرفوضة من قبلنا، وأخطأ لبنان يومها في كونه لم يلجأ إلى التحقق من الانسحاب بالطريقة التي تمت في العام 2000. واليوم تريد «إسرائيل» أن تفاوض لبنان وتريد أن تتصرف وكأن لا حدود دولية وكأن شيئاً لم يحصل في العام 2000 وكأنها لم ترضخ للإرادة اللبنانية بومها وكأنها لم تنسحب من الأرض ـ والغريب في الأمر أن بعض المسؤولين اللبنانيين عن علم أو بغير قصد يتحدثون عن ترسيم حدود برية وفي ذلك خدمة أكيدة للرغبة الإسرائيلية.
إننا نرى أن الخطر والمشكلة الأساسية هنا تكمن في إسقاط الحدود الدولية المنبثقة عن اتفاقية بوليه نيوكمب والسعي إلى ترسيم حدود جديدة ستقتطع من أرض لبنان مساحات تطمع بها «إسرائيل».
أما الحل فإنه يتمثل وبكل بساطة بالتمسك بالحدود الدولية ورفض فكرة الترسيم الجديد. فنحن لسنا بحاجة له، إنما نحن نطلب تحرير الأرض المحتلة وخروج «إسرائيل» من المناطق الـ 13 التي تحتل أراضي لبنانية فيها، وان مجرد فكرة الترسيم او التفاوض على الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة تعتبر مساً بالحقوق اللبنانية وخيانة لحقوق لبنان الوطنية والسيادية. فالمسألة ببساطة وعملاً بقواعد القانون الدولي العام تكون في العودة إلى ما كان الأمر عليه قبل العام 1967 وإعادة تشكيل لجنة الهدنة التي يتمسك بها لبنان وأسقطتها «إسرائيل» في 29 حزيران 1967 دون وجه حق. لهذا فإن الأمم المتحدة تؤكد على وجودها، ثم إدارة الحدود عبر لجنة الهدنة دون المسّ بها لا من قريب ولا من بعيد.
العنوان الثالث: الحدود البحريّة وحدود المنطقة الاقتصاديّة. يختلف الوضع في هذا الجزء عما سبقه. إذ إن الحدود البحريّة اللبنانيّة لم ترسم في السابق وهي بالفعل بحاجة إلى ترسيم. وإن هذا الترسيم بحاجة إلى تحديد المرجعية. وهنا تكمن المشكلة مع العدو الإسرائيلي. فلبنان انضم إلى اتفاقية اوتاوه قانون البحار برعاية الأمم المتحدة بينما «إسرائيل» لم توقع على هذه الاتفاقية. وبما ان ترسيم الحدود وفقاً لقواعد القانون الدولي العام يتم اتفاقياً بين الدول أصحاب العلاقة وبما ان لبنان لا يعترف بـ»إسرائيل» فإن الحل الأفضل هو اللجوء إلى طرف ثالث يرتضيه الطرفان. وهنا يمكن لأميركا او الأمم المتحدة او سواها ان تلعب دوراً توفيقياً ويعرض لبنان مطالبه بالاستناد إلى قانون البحار ويكون على الطرف الثالث أن يطلب من «إسرائيل» إذا رفضت الطلب اللبناني يطالبها بالمرجعية القانونية التي تستند إليها ولن تجد إلا قانون البحار الذي لم تنضم إليه.
وعلى ضوء ما تقدم نرى أنه من الخطأ الشنيع التعامل مع الأجزاء الثلاثة كلها باستعمال مصطلح الترسيم. ثم من الخطأ التفاوض على الحدود البرية، لأن ذلك يسقط حقوق لبنان في حدوده الدولية وأنه من الخطأ الدخول مع «إسرائيل» في لجان عسكرية او قانونية او سياسية بعيداً عن لجنة الهدنة، فالإطار الوحيد لإدارة الصراع مع العدو وإدارة الحدود وحلّ النزاعات هو لجنة الهدنة للعام 1949 المكرسة بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع. فلنعد إلى هذه اللجنة ولتعمل بما تتيحه من إدارة حدود برية وتلمس ترسيم حدود بحرية عبر طرف ثالث كما تسليم الأمر لأميركا، فإن فيه من المخاطر ما لا تحمد عقباه.