لا يمكن بعد ما يناهز الـ 20 عاماً ان نعود الى فتح ملف هوية مزارع شبعا ومناقشة مسألة السيادة الوطنية عليها. فالأمر أصلاً حسم منذ العام 2000 وكان موقف الأمين العام للأمم المتحدة قاطعاً في هذا الشأن وعبر عنه في تقريره المؤرخ في 22/5/2000 والمرفوع الى مجلس الأمن. فالموقف كان واضحاً بما ذكره في الفقرة 16 من التقرير وما نصه الحرفي: «و قد قامت حكومة لبنان… بتزويد الأمم المتحدة بشهادات الملكية اللبنانية لأراضٍ زراعية وبوثائق تبين أن المؤسسات الحكومة والدينية اللبنانية مارست سلطت قضائية… على هذه المزارع وقامت حكومة لبنان بإبلاغ الأمم المتحدة بوجود تفاهم مشترك بين لبنان والجمهورية العربية السورية بأنّ هذه المزارع لبنانية وشمل ذلك قرار للجنة لبنانية سورية خلص في العام 1964 الى انّ المنطقة لبنانية… وفي حديث هاتفي معي أي مع كوفي انان جرى في 16 أيار/ مايو 2000 ذكر وزير الخارجية السوري السيد الشرع انّ الجمهورية العربية السورية تؤيد المطالبة اللبنانية».
أما في عملنا مع اللجنة الدولية للتحقق من الاندحار الإسرائيلي عن لبنان في العام 2000 وقد كنت رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية التي كلفت بالتحقق فقد سجلت المبادئ والوقائع والمواقف التالية:
- تسليم تامّ بأنّ مزارع شبعا لا علاقة لها بفلسطين المحتلة. وهي أرض خارج فلسطين التاريخية وأنّ هذه المزارع هي منطقة على الحدود اللبنانية السورية.
- انّ من يحدّد الحدود بين الدول هي الدول ذاتها لأنّ الحدود هي في الأصل عمل اتفاقي توافقي رضائي، الا في حال الانتداب والاستعمار فإنّ «ما يحدّده المنتدب والمستعمر من الحدود فهي الحدود».
- إنّ سورية تؤكد وبحزم تأييدها للبنانية مزارع شبعا. وهذا ما أورده الأمين العام للأمم المتحد في النص أعلاه.
- اننا في عمل لبنان مع الأمم المتحدة هو التحقق من الانسحاب وليس ترسيم و/أو ابتداع حدود، فالحدود قائمة والمطلوب احترامها.
وكان منطقياً بعد هذا التوافق القانوني والميداني والسياسي أن تبادر الأمم المتحدة للطلب من إسرائيل بإخلاء المزارع، لكن لارسن رئيس البعثة الدولية الذي سلّم بكلّ ما قلنا واعترف بأحقية لبنان بالمزارع وبهويتها اللبنانية فاجأنا بموقف يعاكس المنطق والحق، وقال إنّ المزارع احتلت قبل القرار 425 وأخضعت في العام 1974 بعد اتفاق فضّ الاشتباك بين سورية و»إسرائيل» وإنشاء قوة الأمم المتحدة في الجولان اندوف للصلاحية العملانية لهذه القوات، وبالتالي لا صلاحية لقوات الأمم المتحدة «يونيفيل» بها. فرفض لبنان هذا التبرير وهذا المنطق المعكوس وتحفّظ عليه فهو بعد ان يقرّ بلبنانية المزارع ثم يدعو الى استمرار احتلالها خلافاً للقرار 425 الذي ينص على تحرير كلّ الأرض اللبنانية.
أما في المواقف اللبنانية الداخلية، فقد سجلنا في العام 2000 إجماعاً لبنانياً تأييداً للموقف الرسمي اللبناني المؤكد للبنانية المزارع ولم يعكر صفو هذا الإجماع بحرف واحد، كما ولم يُطرح جدل او نقاش مطلقاً. لكن الأمر تغيّر في العام 2005 بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري وما تبعه من انقسام عمودي في لبنان، حيث إنّ فريقاً ممن اطلق عليهم تسمية «قوى 14 آذار» واستجابة لأوامر أميركية معادية للمقاومة، أنكر لبنانية مزارع شبعا لينفي وجود أرض لبنانية محتلة وليسقط ذريعة وجود مقاومة في لبنان وكلّ القصد تجريد حزب الله اللبناني المقاوم من سلاحه كما تطلب «إسرائيل» وأميركا خاصة أنّ قوى 14 آذار تماهت في سياستها مع الموقف الإسرائيلي الأميركي من المقاومة التي حرّرت جنوب لبنان. هذا الانقسام حمل الرئيس نبيه بري الذي كان دعا الى حوار وطني حول المسائل الوطنية الخلافية حمله على وضع موضوع المزارع على جدول أعمال هيئة الحوار.
هنا ونظراً لصلتي الوثيقة بالموضوع، طلب الرئيس بري مني إعداد دراسة وخرائط توضيحية، لعرضها على طاولة الحوار وإظهار حقيقة هوية المزارع هذه، فاستجبت للتمنّي وذهبت الى مجلس النواب حيث اجتماع الهيئة وقدّمت للرئيس بري ما طلب، حيث تولى هو عرضه داخل الهيئة وما هي إلا ساعات حتى خرجت الهيئة بموقف إجماعي تؤكد فيه انّ المزارع لبنانية وتطلب من الحكومة السعي لتحريرها، واعتبرنا أنّ الموقف اللبناني الإجماعي هذا سحب الموضوع من التداول، لأنّ حجة الرافضين للبنانية المزارع دحضت وذرائعهم سقطت ومواقفهم الأميركية انكشفت ولم يعد بيدهم إلا ان يسلموا بالحقيقة وحق لبنان بأرضه، وترتبت على ذلك الأمر سلوكيات بالغة الأهمية في السياسة في لبنان حيث تشكل الإجماع وسحب ملف هوية المزارع من التداول وأقرّ ذكرها في كلّ بيان وزاري صدر بعد العام 2006 باعتبارها أرضاً لبنانية محتلة من قبل العدو الإسرائيلي وأنّ للبنان الحق بممارسة كلّ الوسائل المتاحة لتحريرها عبر ثلاثية القوة اللبنانية «الجيش والشعب والمقاومة».
و فجأة ينبري أحد السياسيين اللبنانيين الذي ظنّ المتابعون بأنه تقاعد وورّث منصبه النيابي لابنه، ينبري هذا السياسي وإثر خلاف حول موقف إداري متصل بتصرف وزير ينتمي إليه، ضدّ وزير ينتمي الى حزب الله، وبعد لقاءات «معمّقة» مع وزير الخارجية الأميركي، وفي حمأة التصعيد الأميركي ضدّ حزب الله وسورية وإيران وفي أجواء التهيئة الأميركية للبيئة المناسبة لإطلاق صفقة تصفية القضية القسطنطينية، المسمّاة «صفقة القرن»، ينبري هذا السياسي ودون سابق إنذار، ويعود الى فتح ملف سبق إغلاقه وختم بالشمع الوطني الأحمر وينكر لبنانية مزارع شبعا في موقف مثير للغرابة أنكره كلّ وطني واستهجنه كلّ متابع ورفضه كلّ شريف. فلماذا هذه الإثارة اليوم بعد صمت وسكون دام 13 عاماً؟
بداية نقول إنّ إنكار لبنانية مزارع شبعا أمر لا علاقة له مطلقاً بالمسائل الحقوقية والسيادية والعقارية، وإنّ موقف هذا السياسي الذي ظنّ انه تقاعد لا يقدّم ولا يؤخر في مسألة الموقف اللبناني الرسمي من القضية، اذ لن يجد لبنانياً وطنياً واحداً يصغي اليه، لكن خطورة الموقف تتمثل في تماهي هذا الإنكار مع ما تخطط له أميركا و»إسرائيل» ضدّ لبنان. ففي بنود صفقة القرن بند ينص على «سيادة إسرائيل على كلّ الأرض التي تحتلها الآن، شاملة الجولان والضفة الغربية. وقد أسقطت أميركا صفة الاحتلال عن الجولان والضفة الغربية وأقرّت بـ «السيادة الإسرائيلية» على الجولان، ومسألة السيادة على الضفة في الطريق لإعلانها ولم تذكر مزارع شبعا، ويأتي هذا السياسي المتقاعد، ليقدم الخدمة المأمورة المأجورة لأميركا و»إسرائيل» ويشرح ويوضح ما امتنعوا عن التعبير عنه لفظاً واعتبار المزارع غير لبنانية وبالتالي إلحاقها بالجولان، ما يعني اعتبارها مشمولة بالموقف الأميركي المذكور أعلاه.
إنّ إنكار لبنانية مزارع شبعا هو عمل فيه خيانة للوطن وتفريط بأرضه وخدمة للعدو، ويرتب على مرتكبه مسؤولية مركبة متعددة الوجوه، ولا يندرج مطلقاً في مجال حرية التعبير والرأي بل يمسّ المصالح الوطنية العليا، ما يعني أنّ الردّ عليه لا يمكن ان يقتصر على السياسة والإعلام، بل إنّ المؤسسات القضائية اللبنانية ذات دور واضح في المعالجة خاصة أنّ هذا الموقف ليس فيه تفريط بحقوق سيادية وحقوق ملكية لبنانية فحسب بل أيضاً هو موقف يهدّد الاستقرار الداخلي ويُسدي الخدمات الجلى لأعداء لبنان فهل يتمّ التحرك على هذا الأساس؟
إنّ دماء شهداء التحرير تنتظر الجواب مع كلّ الوطنيين اللبنانيين…