هذا صراع تاريخي له أشكال سياسية ومذهبية متنوّعة تحول في معظم الاوقات قتالاً عنيفاً بين تركيا الأخوانية والسعودية الوهابية على زعامة العالم الاسلامي بجانبه السني الكبير. قد تتراجع هذه الاشتباكات بين الطرفين لكنها تعود فجأة الى سابق تأججها تحت ضغط البحث عن موازنات قوى جديدة، لإضعاف المنافس.
ان انبثاق حلقات توتر جديدة في السودان وليبيا والجزائر مع بحث في العراق عن تفاهمات إقليمية يعتقد كلاهما أنها هامة للأدوار التركية او السعودية.
لقد شكلت هذه المحاولات فرصاً مؤاتية لمحاولة الطرفين السعودي الإماراتي والتركي والقطري لبناء مواقع مهمة في دائرة الاضطرابات في هذه البلدان. فآل سعود مصابون «بداء تراجع» دورهم الإقليمي لاسباب عميقة، يشكل اغتيالهم للاعلامي جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده السعودية في اسطمبول التركية، السبب الأقل أهمية.
أما الاساس فيتعلق بتراجع المشروع السعودي الاميركي في سورية والعراق ولبنان واستعصاء قطر على محاولات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تحويلها مزرعة لبلاده.. وثبات إيران في حلفها الاقليمي مع نجاحها في اختراق النفوذ الاميركي في الشرق الأوسط. هذه العوامل قلصت الدور الاقليمي السعودي، وفرضت عليه «حجراً» واعادته إلى الدائرة السعودية الضيقة.
اما القوى التي استفادت من هذا الضمور السعودي فيتربع على رأسها المنتصرون في حلف المقاومة من سورية ولبنان الى العراق واليمن. وكذلك تركيا التي ورثت فعلياً معظم الدور السعودي ببعده السني من خلال قيادتها لتنظيمات الأخوان المسلمين في سورية والعراق بأشكالهما السياسية والعسكرية وسيطرتها عليهم كمعارضات قوية في مصر وتونس وحكومة الوفاق السراجية في ليبيا وتنظيماتهم في المغرب والجزائر والسودان..
والدليل على استيلاء تركيا على قسم من اهمية آل سعود، ونجاحها في بناء قاعدة عسكرية لها في جزيرة سواركن السودانية على البحر الأحمر مقابل الشاطئ السعودي ونسجها علاقات تنافسية في معظم الجزء الاسلامي من افريقيا.
وبذلك تطوّق تركيا الدولة السعودية عسكرياً من خلال قواعدها في قطر وقاعدتها في جزيرة سواركن السودانية وذلك بموازاة التهامها الدور السعودي في سورية والعراق. هذا بالاضافة إلى إمساكها بورقة اتهام محمد بن سلمان باغتيال الخاشقجي، فتبقيها قيد الاستعمال، فلا تؤججها إعلامياً إلا عند اللزوم لكنها لا تسمح بالغائها، لأنها أصبحت من الاوراق المرجحة في التنافس بين البلدين.
للإشارة فإن دخول الأخوان المسلمين الذين تقودهم حالياً تركيا، هم تنظيم أممي مداه العالم الاسلامي وفي كل مكان يوجد فيه مسلمون سنة، لذلك فإن مدى انتشاره واسع يقوم على التماثل في الانتماء الديني، في حين أن الوهابية لا تتمتع بانتشار مذهبي كبير خارج السعودية ونسبياً قطر، لكنها تستفيد من العلاقات الاقتصادية السياسية لآل سعود وإمساكهم بالحرمين الشريفين وكميات هائلة من النفط والغاز ومواسم الحج والعمرة والسياحة الدينية التي بدأ عهد الملك الحالي سلمان بإقرار قواعد ثابتة ودائمة لها.
لكن هناك مستجدّات تعمل على رفع مستوى الصراع بين الطرفين بعد ولادة مستجدات في مدى عربي كبير، يشمل ليبيا والجزائر والسودان والعراق وانتخابات اسطمبول.
لقد بدا أن السعودية والإمارات شجعتا اللواء حفتر قائد ما يسمّى «الجيش الوطني الليبي» على مهاجمة العاصمة طرابلس الغرب للقضاء على «حكومة» فائز السراج المؤيدة للأخوان المسلمين الليبيين، وذلك لنسف مؤتمر كانت تعدّه الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي يعترف بالسراج من جهة وحفتر من جهة ثانية، بما يشبه التسوية التركية ـ السعودية بتغطية اوروبية اميركية وأممية، فجاء هجوم حفتر ليقضي على هذا المشروع وتبين أنه هاجم طرابلس بعد عودته مباشرة من السعودية واتصالاته الإضافية بالإمارات.
كذلك لم تتأخر الرياض والإمارات في تسجيل دعم اعلامي وسياسي مفتوح للأحزاب في الجمهورية التركية التي هزمت حزب العدالة والتنمية الأردوغاني في انتخابات اسطمبول، حتى انهما اعتبرتاها مؤشراً على هزيمة الأخوان المسلمين في العالم بقيادة فرعه التركي.
كما يبذل الطرفان جهودهما للعودة الى المشاركة في اختيار ممثلي المعارضة السورية في اللجنة الدستورية بتغطية روسية هذه المرة، على حساب تراجع الدور التركي الحصري الذي لا يزال يؤثر على المعارضات السورية والعراقية بشكل أساسي.
لكن الميدان العراقي، يشكل مساحة كبيرة للصراع بين السعودية وتركيا، علماً أن الطرفين يلعبان في المدى السني العراقي، لكن السعودية وبحركة ماكرة تعمل على ثلاثة خطوط: تحشيد القوى السنية ومناطق الوسط العراقي، وهذا أمر بدأته منذ تسعينيات القرن الماضي، حتى أن ما تبقى من البعثيين المؤيدين لصدام حسين، يعملون حالياً في المنافي في اطار سياساتها، أما الجزء الآخر من السياسات السعودية في العراق، فإصراره على دعم التوجّهات الانفصالية لكردستان العراقية.
لكن الملاحظ ان هناك انفتاحاً سعودياً على الشيعة العراقيين لكسب تأييدهم في الصراع مع تركيا وتحييدهم في الصراع مع إيران على الأقل.
هذا يظهر في تبادل زيارات لمئات عدة من المسؤولين العراقيين والسعوديين ورجال الاعمال وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وازنة من شأنها التأثير على السياسات التكاملية الاقتصادية في البلدين، ما قد ينتج تفاهمات سياسية، كل هذا جرى في أقل من شهر.
وينسحب هذا الصراع الوهابي ـ التركي على الأحداث المستجدة في السودان والجزائر، ففيما تؤيد السعودية والإمارات بتغطية أميركية فرنسية حركة الجيوش فيها للجم اتجاهات الحركات الشعبية المصرّة على دول مدنية، تؤيد تركيا وقطر بعض القوى الشعبية في السودان والجزائر المؤيدة لحركات الأخوان المسلمين فيها.
يأتي هذا التأييد الغربي في إطار عدم السماح لقوة بالتغلب على أخرى، بما يكشف اصراراً غربياً على مواصلة أسس الازمات في كامل العالم العربي باشتباكات عسكرية دائمة إنما من دون حسم.
فحفتر الذي كاد أن يحتل طرابلس، بوغت بقرار فرنسي بوقف هجومه، فامتنع الذين وعدوه بتغطية هجومية عن تأييده، كما ان رئيس الأركان الجزائري صالح يكتشف يومياً أن إمكانية الحسم عسكرياً ممنوعة بقرار غربي على الرغم من التأييد السعودي ـ الإماراتي، له.
ما هو المطلوب إذاً؟ المطلوب إرجاء الحسم والسماح بإعادة انتاج بنى عربية متقاتلة تؤسس لاستطالة الاضطرابات في العالم العربي، والواضح أن مرحلة الصراع الإيراني ـ السعودي يتقلص مفعولها لمصلحة إنبثاق صراع وهابي ـ أخواني أي سعودي تركي يؤدي الى المزيد من تدمير العالم الإسلامي لمصلحة «إسرائيل» والهيمنة الغربية