تمثل المضمون التقدمي للثورة الفرنسية (1789) من منظور تاريخي، بعيداً عن شعار /حرية، مساواة، أخوة/، في نقطتين محددتين في برنامجها السياسي هما:
1) المواطنة، 2) حق تقرير المصير، اعتبرتهما الثورة الفرنسية رسالة إنسانية من واجبها السامي أن تذيعهما وتطبقهما في أرجاء أوروبا والعالم، بالقوة عند الضرورة.
ومع أن هاتين النقطتين تبدوان اليوم، بسمتهما العامة والفضفاضة، كلاماً مكرراً، وحتى ممجوجاً، فإنهما في تلك اللحظة التاريخية كانتا، من جهة، انعكاساً لتحولٍ /تاريخيٍ-عالميٍ/، بالتعبير الهيجلي، وكانتا، من جهةٍ أخرى، انعكاساً لصراع اجتماعي-سياسي دموي عنيف بين قوى النظام القديم والنظام الجديد في أوروبا. ففكرة حق المواطنة وسيادة الشعب في وطنه جاءت لتحل محل فكرة /الرعية/ فاقدة الحقوق السياسية التي سادت في ظل النظام الإقطاعي، بنبلائه وكهنته، لذلك فإنها كانت صرخة مدوية أطلقتها الطبقات الوسطى الصاعدة في المدن، والعمال والفلاحين، في سعيها لتفكيك النظام الإقطاعي ومؤسساته والإطاحة برموزه وإحلال أخرى محلها.
أما فكرة حق تقرير المصير، فهي مستمدة بالطبع من فكرة سيادة الشعب على أرضه، لكنها كانت تعني تفكيك الإمبراطوريات والممالك متعددة القوميات في الجوار الأوروبي، ذات الطابع الرجعي أصلاً، وعلى رأسها إمبراطورية آل هابسبرغ في النمسا-المجر، ولذلك فإن الثورة الفرنسية، منذ انطلاقها، واجهت حرباً شعواء من قبل القوى الأوروبية السائدة عبر قوس امتد من الإمبراطورية البريطانية إلى بروسيا وصولاً للعثمانيين جنوباً وإلى روسيا شمالاً، ومن هولندا إلى إسبانيا، إلى الولايات المتحدة التي انقلبت على فرنسا، التي دعمتها في حرب الاستقلال الأمريكية ضد بريطانيا، فخاضت معها مواجهات بحرية ضارية (1798-1800)، وقد لعبت هذه الحروب واستحقاقاتها، إلى جانب الحرب الأهلية في فرنسا نفسها، دوراً أساسياً في انتقال الثورة الفرنسية إلى العهد الذي عُرف باسم /حكم الإرهاب/ (1793-1794)، ولاحقاً في تحول فرنسا إلى الديكتاتورية التي مثلها القائد العسكري الفذ نابليون بونابرت مع وصوله للسلطة (1799)، ليتحول مشروع /تصدير الثورة الفرنسية/ إلى مشروعٍ لتأسيس إمبراطورية فرنسية باسم نشر /الحرية، المساواة، والأخوة/!
لكن تلك قصةٌ أخرى، وما يهمنا هنا ليس التأريخ للثورة الفرنسية وتحولاتها، أو مدى إخلاصها لبرنامجها السياسي، بل أن القطة كانت قد أفلتت من الكيس، وأن الشعوب والنخب التقطت رسالة المواطنة وحق تقرير المصير لتصبح محركاً أيديولوجياً عملاقاً لثورات كبرى عبر العالم، ظلت إرهاصاتها تتردد حتى يومنا هذا، وقد ظلت تلك الرسالة الأكثر تأثيراً على كوكبنا حتى جاءت ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917 في روسيا، فكانت بدورها حدثاً /عالمياً-تاريخياً/ ذا آثارٍ ممتدة مكانياً وزمانياً على مدى عقود، وبالنسبة لنا نحن العرب، حتى جاءت ثورة يوليو في مصر عام 1952، لكن لم تخلُ كلا الثورتين، البلشفية والناصرية، من بُعدي /المواطنة/ و/تقرير المصير/، حتى لو عرّفتهما بطرقٍ مختلفة اجتماعية واقتصادية اعتبرتهما أكثر عمقاً من تعريف الثورة الفرنسية، كاشتراكية وتحرر قومي.
العبرة هي أن أي شعار أو برنامج سياسي، مثل برنامج المواطنة وحق تقرير المصير الذي رفعته الثورة الفرنسية عام 1789، لا يقاس تاريخياً من الزاوية البلاغية أو حتى المنطقية فحسب، كأنه فكرة معقمة في مختبر، بل من خريطة اصطفاف القوى الاجتماعية والسياسية المستفيدة والمتضررة منه وهويتها، الإقطاع مقابل البرجوازية الصناعية الصاعدة مثلاً في حالة الثورة الفرنسية وارتداداتها، أو الطبقات الشعبية مقابل الشرائح الكمبرادورية في حالة حركات التحرر الوطني مثلاً، كذلك يفترض أن يقاس أي شعار أو برنامج سياسي من زاوية إسهامه في تحرير الأرض والإنسان والأمم أو في إعاقة مثل ذلك التحرير، أي ما إذا كان مضمونه تقدمياً أو رجعياً في السياق التاريخي المحدد لطرح ذلك البرنامج أو الشعار.
فيما يتعلق بمقياس رجعية أو تقدمية المضمون التاريخي لبرنامج أي حركة اجتماعية أو سياسية لا بد من الإشارة إلى أن الثورة الفرنسية لم تطرح شعاراً أو برنامجاً قومياً صريحاً، حتى لو كانت صرخة اقتحام سجن الباستيل الرهيب هي /عاشت فرنسا!/ /Vive la France!/، لكن فكرتي المواطنة وتقرير المصير كانتا تتطلبان بالتعريف تحديد هوية الشعب الذي سيمارس سيادته السياسية ومعالم الأرض التي سيمارس تقرير مصيره عليها، وعندما كانت توجد دولة قومية ناجزة، كما في فرنسا أو بريطانيا آنذاك، فإن تلك لم تكن مشكلة تذكر، بمعنى أن الحس القومي العادي الناشئ بالضرورة عن حقيقة الوجود القومي الراسخة تاريخياً لم يكن ثمة داعٍ لأن يتحول إلى أيديولوجية وحركة قومية صريحة، قومية الشعار والبرنامج، أما عندما لم تكن مهمات الوحدة القومية وتأسيس الدولة القومية المركزية، كتعبير قانوني عن الأمة، قد تحققت بعد، كما في حالتي ألمانيا وإيطاليا آنذاك، فإن الألمان والإيطاليين لم يكونوا يستطيعون أن يمارسوا سيادة الشعب وحقه في تقرير مصيره حقاً، ولذلك جاء صدى الثورة الفرنسية في ألمانيا وإيطاليا قومي الشعار والبرنامج، كمشروع وحدوي هدفه تاسيس دولة مركزية، اتخذ شكل أيديولوجية قومية صريحة.
تخيلوا أن /الإمبراطورية الرومانية المقدسة/، التي انحلت خلال حروب الائتلاف الأوروبي ضد نابليون بونابرت عام 1806، كانت تضم أكثر من 500 دولة وإمارة وولاية ألمانية مستقلة، وأن الدولة المركزية الفرنسية بقيادة نابليون انتصرت في الأغلبية الساحقة من المعارك التي خاضتها في أوروبا (حتى ارتكب نابليون الخطأ المميت المتمثل بغزو روسيا، والذي انتصر فيه أيضاً، سوى أنه أدى لاستنزاف جيشه العظيم نهائياً مما مهد لهزيمته الحاسمة عام 1815 في واترلو، التابعة لبلجيكا حالياً، ولهولندا سابقاً، من قبل ائتلاف أوروبي قوامه الأساسي جيشان أحدهما بريطاني، والآخر بروسي)، وأن نابليون صال وجال في شبه الجزيرة الإيطالية (غير الموحدة والخاضعة للوصاية الأجنبية أيضاً)، محطماً عدة جيوش أوروبية بجيش فرنسي أقل عدداً بكثير، خلال عام واحد فقط!
فإذا كانت رسالة الثورة الفرنسية المزمعة هي تأسيس الجمهوريات التي يسود فيها الشعب على أرضه، فإن الرسالة الفرنسية التي التقطها الألمان والإيطاليون كانت قبل وفوق ذلك هي: الوحدة القومية والدولة المركزية أولاً! فالفرنسيون، من وجهة نظر الألمان والإيطاليين وغيرهم من الأمم الأوروبية المفككة، انتصروا ليس بسبب عبقرية نابليون العسكرية الفذة فحسب، بل بسبب استنادهم لدولة مركزية قوية تعبر عن إرادة قومية موحدة حازمة منبثقة من روح الأمة.
لذلك ما من شكٍ في أن الروح القومية الألمانية جاءت في أنٍ معاً ردة فعلٍ (متناغمة) على الثورة الفرنسية، وردة فعلٍ أيضاً (غاضبة) على سلسلة الهزائم التي تلقتها الدويلات الألمانية على يدها، فأرادت الحركة القومية الألمانية، بمشروعها الوحدوي، أن تتفوق على الفرنسيين في لعبتهم، ولذلك جاء تحقيق الوحدة الألمانية الناجز (ما عدا النمسا) عام 1871، /بالحديد والدم/، على حد تعبير بسمارك، مقترناً بإعلان النصر الناجر على فرنسا في باريس تحت ظلال قوس النصر. وكان ذلك بالنسبة للألمان تحقيقاً لعدالة شاعرية من ظلم التاريخ نفسه، لا من فرنسا ونابليون فحسب.
لم تكد ألمانيا تتوحد في 18/1/1871، حتى توحدت إيطاليا في العام ذاته، وقد توجت الحركة القومية الإيطالية نصرها بسحق البابوية وإعلان روما (كرسي البابوية) عاصمةً لإيطاليا في حزيران عام 1871، لأن القوى الكبرى الأوروبية الرجعية التي وقفت عائقاً في طريق تحقيق الوحدة الإيطالية، وعلى رأسها فرنسا الرجعية بقيادة نابليون الثالث، كانت قد سحقتها الحركة القومية الألمانية وألحقت بها شر هزيمة، فلم يتبق أمام القوميين الإيطاليين إلا العوائق الداخلية، فسحقوها، وكان العائق الأهم من بينها بابوية روما التي ظلت تتشبث بسلطتها الدينية العابرة للقوميات على هذه الأرض في هذا الزمان، أي بسلطتها الدنيوية في النهاية كيفما قلبنا الأمر، التي شكلت تعبيراً رمزياً عن /مشروعية/ الإمبراطوريات السابقة للرأسمالية والثورة الصناعية في أوروبا، أي للزمن الغابر، وكان الصراع من أجل تحقيق الوحدة القومية متعدد الأبعاد، من ميادين الفكر والسياسة والثقافة والإعلام، إلى ميادين القتال، ومن مؤتمر فيينا الذي عقده القوميون الإيطاليون عام 1815، حتى فتح روما عام 1871، صراعاً على مدى أجيال يبقى مشروع الوحدة القومية والدولة المركزية الواحدة فيه راهناً ما دامت التجزئة قائمة.
انبعاث الحركات القومية السلافية في شرق أوروبا، مجدداً تمييزاً لها عن الحس القومي العادي الناشئ عن حقيقة الوجود القومي، وتمييزاً لها عن الثورة الفرنسية القومية موضوعياً، في البرنامج السياسي وآثاره على الأرض، ولو لم تكن قومية في الخطاب والشعار والتوجه، ولو اعتقدت بصدقٍ أنها /إنسانية الرسالة/، نقول أن الحركات والأيديولوجيات القومية السلافية جاءت ردة فعلٍ، مجدداً متناغمة وغاضبة في آنٍ معاً، على الحركة القومية الألمانية. فالتشيك والصرب والسلوفينيون وغيرهم، لا سيما نخبهم، وجدوا أنفسهم كأمم متأخرة علمياً وثقافياً واقتصادياً عن الألمان وأمم غرب أوروبا أمام خيارين: إما أن يصبحوا ألماناً، وإما أن يشقوا طريقاً قومياً خاصاً بهم، على حساب موروثهم التاريخي الذي يشدهم للخلف، من دون أن يفقدوا هويتهم القومية، ولا أن يصبحوا خارج التاريخ إذا ما ظلوا مصرين على دوغمائية إعادة إنتاج الماضي بحذافيره في المستقبل. أصبحت إذن المعادلة العصية التي لا بد من حلها، المعادلة التي وجدت كل أمة متأخرة نفسها إزاءها، ومنها نحن العرب، ولا نزال، هي في آنٍ معاً: تجاوز الآخر والتراث.
وهكذا مثلاً بدأت عملية تحديث اللغات السلافية وتقعيدها ومنهجتها، وهي العملية التي بدأت عندنا مع أبي الأسود الدؤلي وسيبويه، وكان في ذهن اللغويين السلاف وقتها أمران متناقضان: الأول، الحفاظ على ألق الموروث اللغوي والثقافي السلافي في ظل طغيان دفق الفكر والعلوم والثقافة القادمة بلغات أمم أوروبية أكثر تقدماً، لا سيما الألمانية، والثاني، تحويل تلك اللغات إلى لغات قادرة على استيعاب وإنتاج الفكر والعلم الحديث، وهي العملية التي لم تنجز عندنا بعد، برأيي المتواضع. وتطوير اللغة، بهذا المعنى النهضوي، هو عمل مثقفين، لكن بمقدار ما تسهم اللغة ببناء هوية قومية، فإن جهدهم اللغوي يصبح بالضرورة جهداً قومياً من ناحية موضوعية، ولو لم يكونوا قوميين مسيسين، مع أنه من الصعب أن يكون المرء معتزاً بلغته، وأن لا يكون معتزاً بقوميته، على صعيد الحس ولو لم يكن قومياً في الأيديولوجيا.
ما ينطبق على اللغة ينطبق على غيرها بالطبع، وقد كان من مفاعيل الثورة الفرنسية في بلادنا هو المشروع الوحدوي النهضوي التحرري الذي قاده محمد علي باشا وابنه إبراهيم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويركز كثيرون على معارك محمد وإبراهيم باشا مع القوى الأوروبية والسلطنة العثمانية المتحالفة معها والساعية لمنع قيام دولة عربية مركزية في ظله، تعبر في النهاية عن حق تقرير المصير للأمة العربية، وينسون أن النقطة الأخرى في برنامج محمد وإبراهيم باشا كانت دولة المواطنة المدنية، بدلاً عن دولة الرعية والملل والنحل، ولذلك فإن محمد علي لم يصطدم مع قوى الهيمنة الأوروبية والاحتلال العثماني فحسب، بل اصطدم مع الإقطاع (المماليك) ومع قيادات الطوائف والعشائر ومع الوهابيين وأمراء الإقطاعيات الصغيرة وقوى الشد العكسي في المجتمع العربي برمته، لأنه كان يحاول استبدال المؤسسات التقليدية بمؤسسات حديثة، ولذلك استندت قوى الهيمنة والاحتلال الخارجيين إلى بنية التخلف في المجتمع العربي لمحاربة محمد علي باشا ومشروعه، ولإبقاء العرب مجزئين وخاضعين، وظلت تستخدمها، لا سيما الاستعمار البريطاني، في محاربة كل حالة وحدوية تحررية نهضوية صاعدة في الوطن العربي وصولاً للخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في مواجهة البعث والناصرية وحركات التحرر الوطني.
لذلك اختلف ظرف السلاف والعرب واليابانيين والكثير من شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عن ظرف الألمان والإيطاليين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، في أن المهمة التاريخية المطروحة على عاتقهم لم تتمثل بتحقيق الوحدة القومية وإنجاز مهمة تأسيس الدولة المركزية الواحدة فحسب، بل في اللحاق علمياً واقتصادياً وتقنياً ومؤسساتياً بركب الأمم المتقدمة (بغض النظر عن هراء ما بعد الحداثة اليوم الذي يمجد التخلف الحضاري باعتباره نوعاً من /التعددية الثقافية/)، فالألمان والإيطاليون لم يختلفوا كثيراً عن الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم من الأمم الأوروبية الغربية على تلك الصعد، وتمثلت مهمتهم بتأسيس دولة الوحدة المركزية، أما السلاف والعرب واليابانيون وغيرهم فكان عليهم، فضلاً عن ذلك، أن يحققوا مهمة اللحاق بركب التاريخ، أي أن إنجاز مهمة النهضة أضيف تاريخياً لإنجاز مهمتي الوحدة والتحرر القومي، ولذلك فإن مهمة تلك الشعوب كانت أصعب، ولا تزال، وإذا كان اليابانيون (والصينيون مؤخراً) قد نجحوا بحل معادلة /تجاوز التراث والآخر/، ونجحت الشعوب السلافية بقدرٍ ما غير تام، فإن العرب لم ينجحوا بعد بحلها، لا بل نجدهم تقهقروا في بعض الجوانب، بمقدار ما تقهقرت حركة النهوض القومي (كأيديولوجيا وتنظيمات وفعالية سياسية)، وبمقدار ما تقهقر الوعي القومي لمصلحة الهويات الطائفية والعشائرية والمناطقية والعرقية وما شابه، وبمقدار ما تم تحويل تلك الهويات الفرعية إلى /هويات قومية كلية/ مزيفة، مما يشكل بحد ذاته وصفةً لتأبيد التجزئة والتبعية والتخلف في الوطن العربي، وللتمرغ ثقافياً في مستنقعات /الماضي الذهبي/ أو في وحول /فقدان الهوية/ سعياً للتماهي مع الغرب.
تحويل الوعي القبلي إلى وعيٍ /قومي/، تختلط فيه الرموز الدينية للقبيلة بالهوية الاجتماعية-السياسية، هو الخط الذي أسسته التوراة، عندما أصبح /يهوة/، إله العبرانيين، إلهاً /عالمياً-تاريخياً/ مزيفاً، وأصبحت طائفته /أمة/ وهمية، على حد تعبير كارل ماركس في كراسه /حول المسألة اليهودية/، وأصبح بناء /دولة قومية يهودية/ منبثقاً من أساسٍ اخترق حتى وعي الأوروبيين الغربيين والأمريكيين بتكريس اليهود كـ/أقلية قومية/، واخترق حتى وعي بعض القوميين اليساريين العرب الذين ينادون بإعطاء اليهود حقوق /أقلية قومية/! لكن نهج تحويل الهوية القبلية إلى هوية دينية، ومن ثم إلى هوية /قومية/ أو /ثقافية مستقلة/ هو في العصر الحديث نهج التفكيك، ونهج إجهاض حركات التحرر القومي، كما رأينا في الهند، حيث أدى تحويل الوعي الطائفي إلى وعي /قومي/ إلى تأسيس باكستان من الهند، وكما رأينا في يوغوسلافيا السابقة، حيث أدى تحويل الوعي الطائفي لدى أبناء أمة واحدة تختلف باللهجات فقط إلى اختلاق وعي /صربي/ و/كرواتي/ و/بوسني/ بسبب الاختلاف الطائفي بين الأرثوذكس والكاثوليك والمسلمين ليس إلا... والحبل على الجرار كما يقال، وقد بتنا نحن العرب الشعب المرشح أكثر من غيره لتناسل الدويلات /الوطنية/ المزيفة على أسسٍ من الوعي القبلي (ليبيا بعد /ثورة فبراير/) والطائفي (حدث ولاحرج في العراق وبلاد الشام واليمن ومصر!) والعِرقي (العرب والأمازيغ في المغرب العربي، والعرب والزنج في دارفور مثلاً، والعرب والآراميين والسريان والآشوريين إلخ...).
في مثل هذا الجو، يصبح الوجود القومي نفسه مهدداً، وتصبح الأمة أكثر عرضة للتدخلات والهيمنة الأجنبية والاحتلالات، ويصبح صدها أولوية أولى راهنة عند أي مناضل قومي، وقد أدى تراجع الحركات القومية وانحسارها إلى تقدم حركات غير قومية للتصدي لتلك الاحتلالات والتدخلات الأجنبية، وهو ما يخلق أرضية واسعة للقاء معها، ويطرح ضرورة دعمها في مواجهة الاحتلال والتدخل والأجنبي، ولكن هل يعني دعمها أننا يجب أن نتخلى عن مشروعنا القومي؟ وعلى المقلب الآخر، هل يجوز أن نجعل من الاختلاف العقائدي مع القوى غير القومية التي تتصدى في هذا الموضع أو ذاك لمهمة مواجهة الطرف الأمريكي-الصهيوني، كعدو رئيسي للأمة، ذريعة لتغليب الخلاف الأيديولوجي معها على التناقض الرئيسي مع أعداء الأمة كما يفعل بعض القوميين للأسف، مما يدفعهم إلى صف القوى الرجعية العربية المتحالفة مع الإمبريالية؟
هذا ما حاولنا الإجابة عليه في كتاب /من فكرنا القومي الجذري/ (2013) ونقتطف منه هنا:
تمثل المقاومة استراتيجية دفاعية في مواجهة قوى الهيمنة الخارجية. تعبير “مقاومة”، بالمعنى الوطني، يوحي بمواجهة تأثيرات أو ضغوط مباشرة أو غير مباشرة من الخارج. فالمقاوِم هو من يتبنى مشروع إعاقة تقدم العدو وإيقاف زخم هجومه، ومنع العدو من التمتع بما تمكن منه من أرضٍ أو مواقع، بالعمل خلف خطوطه مثلاً. وكما يأخذ هجوم العدو أشكالاً متعددة عسكرية وسياسية وأمنية واقتصادية وثقافية واجتماعية، كذلك يفترض أن تأخذ المقاومة كل تلك الأشكال لكن مضمونها يبقى واحداً: منع العدو من تحقيق أهدافه الهجومية.
بهذا المعنى تتمثل أهمية المقاومة بأشكالها في رفع تكلفة الهجوم المعادي وصولاً لصده ودحره والانتقال من حالة الدفاع إلى حالة التوازن ومن ثم إلى حالة الهجوم الاستراتيجي. وبهذا المعنى أيضاً تمثل المقاومة المصلحة العليا للأمة عندما لا تمتلك القدرة على الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم بسبب عدم تكافؤ ميزان القوى أو عدم تعبئة قوى الأمة للمواجهة. تكمن أهمية المقاومة إذن في كونها تخدم مصلحة الأمة، أي في أن المقاومة مهمة ولا بد من تبنيها والدفاع عن نهجها ورموزها ومواقفها لكونها تخدم المصلحة القومية العليا للأمة العربية.
مثلاً دفعت المقاومة العراقية الاحتلال الأمريكي للخروج من العراق وأسهمت بتقويض الاقتصاد الأمريكي. ومنعت المقاومة اللبنانية صهينة لبنان واحتلاله وأمركته. كذلك ترفع المقاومة الفلسطينية كلفة احتلال فلسطين وتدفع الصهاينة للتفكير بالخروج من أرضنا بمقدار تصاعدها. وبنفس المقياس نفكر بتراثنا الوطني المقاوم للاستعمار الذي مثله عبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وعمر المختار وعز الدين القسام (الصوفي وقومي التوجه بالمناسبة).
على المستوى المدني تمنع حركة مقاومة التطبيع الكيان الصهيوني من التمدد في الوطن العربي وتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك تتم مشاغلة محاولات اختراق الوعي والقيم والنسيج الاجتماعي من قبل أعداء الأمة وامتداداتهم من خلال القصيدة المقاوِمة والأغنية المقاوِمة والمشروع الثقافي والإعلامي المقاوِم، وبهذا المعنى فإن مجموع المنشورات والتعليقات والرسائل والمواد المناصرة للمقاومة على الإنترنت مثلاً تمثل أيضاً شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية العربية في مواجهة مئات قنوات التضليل والفتنة ووسائل الإعلام الصفراء، التي لا شك أنها لعبت دوراً مهماً في كشف حقيقة “الثورة السورية” مثلاً المدعومة من قبل الإمبريالية والصهيونية.
العبرة هي أن المقاومة بصفتها استراتيجية دفاعية هي مشروع الأمة التاريخي في المرحلة الراهنة الذي لا غنى عنه. لكن بقاءنا في حالة دفاعية، في حالة مقاومة أو ممانعة، يترك المبادرة الاستراتيجية بيد العدو. فالمطلوب هو مراكمة عناصر القوة للانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم الاستراتيجي وهو ما لا يتحقق إلا بالمشروع القومي، مشروع النهوض العربي الذي لاحت نذره في الخمسينيات والستينيات ثم انتكس وتراجع، والذي تبين أن ما يسمى /الربيع العربي/ كان يحاول تصفية آثاره ومواقعه لو تتبعنا مسار وآلية حراك ذلك “الربيع” المسموم.
إذن لا بد من نهوض قومي عربي جديد، بمقدار ما يبدو ذلك بعيد المنال في اللحظة التي يشتد فيها الهجوم المعادي علينا، لأننا لو اكتفينا بإيقافه عن التقدم اليوم، فإنه سيعاود المحاولة كرةً أخرى غداً أو بعد غد. والمقاومة والممانعة خط دفاعي لا غنى لنا عنه، ولا نملك كأمة إلا أن ندعمه بكل ما نملك لأن مصلحة الأمة تتمثل بهذا. لكن لو اكتفت سورية بالخروج من أزمتها مثلاً فإن المؤامرات عليها لن تتوقف، بل لا بد لمن يتعرض للهجوم بسبب تبنيه لمشروع المقاومة ودفاعه عن المشروع العروبي أن يترجم نصره إلى هجوم سياسي مضاد يعيد إحياء المشروع القومي في الشارع العربي، فتلك هي الحماية الوحيدة لسورية على المدى البعيد كما الحماية الوحيدة للمشروع الصهيوني على المدى البعيد هي تفكيك الأمة وضرب فكرة المقاومة وفكرة القومية. والمقاومة اللبنانية مثلاً بعدما حررت جنوب لبنان لم ولن تتوقف المؤامرات عليها لأنها لم تنتقل لمرحلة تحرير فلسطين بعدما لقنت العدو الصهيوني درساً لن ينساه أبداً، بل تقوقعت في الزاوية اللبنانية لأنها لم تنتقل لحالة مشروع قومي عربي ولذلك ظلت أيضاً في حالة دفاع استراتيجي.
المقاومة مشروعنا الراهن، لكن لا نستطيع أن نبقى في الراهن للأبد، بل لا بد من إعادة إحياء المد القومي التحرري في الوطن العربي وصولا لتأسيس حركة شعبية عربية منظمة تتبنى الأهداف القومية الكبرى: الوحدة والتحرير والنهضة.
نضيف هنا: إن اعتبارات المشروع القومي ونهج المقاومة يجب أن يحكما الخط السياسي معاً، فمن يخرج عن أيٍ منهما يشطح، إن عاجلاً أم آجلاً. فالمقاوم المحكوم باعتبارات طائفية مثلاً، الذي قد يواجه العدو في هذا الموضع، لا بد له أن ينزلق للتقاطع معه في موضعٍ آخر، والقومي غير المحكوم بنهج المقاومة وثوابته، من السهل عليه أن ينزلق للتقاطع مع أعداء الأمة في كل مكان كما يحدث مع بعض الذين يزعمون أنهم يدافعون عن العروبة في وجه إيران لينزلقوا للتحالف مع الإمبريالية الأمريكية والعدو الصهيوني. وفي النهاية، لا يجوز للقومي إلا أن يكون في طليعة المتصدين للتغلغل والهيمنة الخارجية، فإن لم يفعل، فإن قوىً أخرى سوف تمتلك زمام المبادرة، وسوف يخرج نفسه بنفسه من حلبة الفعل والتأثير، وقد سبق أن أوضحنا، في العدد 33 من /طلقة تنوير/، أن الشرط التاريخي الأهم لإعادة إحياء التيار القومي هو أن يعود لصدارة الحركة الشعبية المتصدية للاستعمار والصهيونية وقوى الهيمنة الخارجية.