لم تكن العروبة يوم الثاني والعشرين من شباط 1958 (يوم إعلان الوحدة بين مصر وسوريا) تمر بمحنة كالتي تمر بها اليوم، بل كانت القومية العربية آنذاك حركة صاعدة متدفقة تقود نضال الأمّة العربية، وسائر أمم العالم الثالث، ضدّ الاستعمار والعنصرية، وكانت تتراجع أمام هذه الحركة التاريخية التي توفرت لها القيادة التاريخية آنذاك، كل الحركات والدعوات والعقائد التي عجزت عن فهم “العروبة” كهوية، وكحركة تحرر، وكتيار إنساني تقدمي يحرص على مواكبة روح العصر ومواجهة التحديات.
واليوم نحاول أن نستجلي أسباب هذه المحنة التي تمر بها “العروبة” فتجعلها الهوية الأقل بروزاً، والانتماء الأقل أهمية وتحريكاً، والتيار الأكثر تعرضاً لشتى أنواع الحملات المتعدّدة المصادر والأهداف والوسائل والأساليب.
فبعد أن كانت العروبة “هوية” بالغة الوضوح، وانتماءً مفروغاً منه، نراها اليوم على مستوى الأمّة ككل، وعلى مستوى العديد من الأقطار تتحول إلى “قضية” للنقاش حيناً، وللصراع حيناً آخر، وللتغييب مرة ثالثة، وللتزوير والتزييف مرة رابعة.
فمن أين بدأ هذا الافتراق؟! وكيف حصل هذا التحوّل؟! وهل تراجع العروبة ظاهرة محض موضوعية وحتمية أم هو نتاج عوامل متعدّدة، خارجية وداخلية، ساهمت في توليد هذا الانكفاء المرحلي.
ولعل أحد أبرز مهمات “المنابر”، بل وواجباتها، أن تسعى عبر مقالات كتابها وأبحاثهم، وعبر ملاحظات قرائها وتساؤلاتهم، وعبر تعاون مشجعيها ومساندتهم، وعبر انتقادات معارضيها ونقاشاتهم، أن تجيب على هذه الأسئلة بروح علمية وموضوعية هادئة لا تلتزم إلاّ الحقيقة، التي هي في نظرها فوق العقائد والنظريات والأفكار، ولا تنحاز إلاّ إلى جانب الحق، الذي هو في عرفها، مقياس المقاييس، ومعيار المعايير.
ومنهج “المنابر” في سعيها هذا يقوم على قاعدة بسيطة واضحة وهو أنه مع القناعة الكبيرة لدى المشرفين عليها، بأن وراء المحنة التي نواجه، والتراجع الذي نعيش، قوى خارجية كبرى تعمل ليل نهار على تفتيت الأمّة، وتزوير الوعي، وتشتيت الطاقات، إلاّ أننا نعتقد أن مهمة المثقف العربي، والمناضل العربي، هي في البحث الجاد عن العوامل الداخلية، والعناصر الذاتية، في قلب مجتمعنا وعلاقتنا ووعينا، التي تسمح للقوى الخارجية الكبر أن تنفذ إلى أعماقنا، وأن تنجح في السيطرة على أفعالنا وردود أفعالنا وأحياناً على انفعالاتنا… فلقد دفعنا الكثير ثمن تحميل الأعداء وحدهم مسؤولية هزائمنا، دون أن نكلّف أنفسنا أن ندرس بعمق جوانب مسؤولياتنا في هذه الهزائم.
ونقطة البدء في مسيرتنا الطويلة هذه هي الإقرار أن “العروبة” التي تعاملنا معها باستمرار بأنها هوية وانتماء، وأنها واقع ووجود، لا حاجة لإثباته أو البرهان عليه،]إذ كيف يثبت المواطن اسمه وأبويه وهما واقع محكوم منذ الولادة[، كانت بحاجة إلى تحصين فكري واجتماعي وسياسي وأخلاقي ونفسي… لم يكن من السهل التنبه له في ظلّ النجاحات السريعة التي حققها المدّ الوحدوي العروبي في أواسط الخمسينات، ومع وجود قيادة تاريخية شديدة الحضور ومكثفة الدلالات والرموز، نجحت في ربط الفكر بالممارسة، والعروبة بالإسلام، والتراث بروح العصر والتقدم، والقضية الوطنية بالقضية الاجتماعية، كقيادة جمال عبد الناصر.
إلاّ إن غياب هذه القيادة، والنكسات التي منيت بها تجربتها من الانفصال حتى هزيمة 1967، انعكست بشكل آلي مباشر على العروبة نفسها، كحركة وكتيار وكهوية وانتماء… فأطلقت كل أنواع العصبيات بوجهها، من العصبيات العرقية والعنصرية، إلى العصبيات الإقليمية والكيانية، إلى العصبيات الطائفية والمذهبية لكي تسهم جميعاً في رسم صورة أخرى للأمّة العربية، وجغرافية أخرى للوطن العربي، وقراءة أخرى للتاريخ العربي، وتركيب آخر للمجتمع العربي.
ولكي لا نقع مرة أخرى فريسة نهج إلقاء اللوم على الأعداء وحدهم في تبرير نكساتنا وهزائمنا، علينا أن نعترف أن وحوش العصبيات العنصرية والإقليمية والطائفية والمذهبية ما كان لها أن تطلق من أنقاضها، “وتعيث في الأرض فساداً”. لوكانت بنية العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية سليمة في مجتمعنا.
فإثارة النعرة الإقليمية لدى بعض الأوساط السورية ضد الوحدة مع مصر ما كان لها أن تنجح لولا ثغرات في نظام الوحدة نفسه نفذ منها انفصاليون لتحقيق جريمتهم ضدّ الوحدة.
وإشعال الحرب الكردية في شمال العراق لم يكن ممكناً، ]خاصة والكل يعرف عمق الروابط التاريخية والدينية بين العرب والكرد[ لولا وجود عقليات رجعية بائدة، أو ديكتاتورية شوفينية، حكمت العراق ردحاً من الزمن وأوصدت الأبواب أمام أي حل سلمي ديمقراطي للمسألة الكردية في العراق.
وفلسطين نفسها، قضيتنا المركزية الأم، ما كانت لتضيع أساساً، ويتعرض شعبها ومناضلوها إلى كل ما يتعرضون إليه، لولا الانهيار المدوي في الإرادة الرسمية العربية، والارتباك البارز في الإرادة الشعبية العربية على حد سواء.
بل إن الحرب الأهلية في لبنان، والتي تكاد تلخص في فصولها وأبعادها ومراحلها، جوهر كل العصبيات والأمراض المستنفرة ضد العروبة والوحدة، ما كان لها أن تضع هذا البلد العربي الصغير والجميل في أتونها طيلة هذه السنوات لولا التفسخ في الوضع العربي العام، ولولا حالة القمع السائدة في الحياة العربية، ولولا التقصير الفكري والسياسي الذي وقعت فيه الحركة الشعبية الوحدوية العربية حين تكاسلت، وأهملت، صياغة الضوابط، والتزام الثوابت في عمل وحدوي ديمقراطي شعبي يدرس بعمق خصوصيات التنوع العربي ضمن الوحدة، ويبحث بجدية واصالة في التحديات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والثقافية التي يواجهها المجتمع العربي ككل، وكل جزء منه على حدة.
من هنا يأتي الالتزام الثاني “للمنابر”… وهو التزام بلبنان العربي الديمقراطي المستقل الموحد… وهو بالتأكيد ليس التزاماً إقليمياً، أو جغرافياً، أو عاطفياً… بل هو التزام وحدوي، بالأساس، تاريخي بالعمق، وعقلاني بالمنهج.
فإذا أريد للبنان بتعددية فئاته الدينية والمذهبية وحتى العرقية أن يكون مدخلاً للحرب على العروبة والوحدة في المنطقة بأسرها، ومختبراً لدراسة أنجح الأساليب والوسائل لتفجير الحروب والنزاعات الأهلية القائمة على أسس طائفية ومذهبية وعنصرية وإقليمية، فإن المنابر، كأداة ثقافية فكرية، تطمح لأن تكون جزءاً من حركة المقاومة الشاملة لهذا المشروع، وأن تسهم بالتالي في استعادة لبنان لدوره الطبيعي الفاعل عربياً وقومياً ووحدوياً.
فالعروبة في لبنان، ولسرعة ملفتة تحوّلت من هوية إلى “قضية”، ومن جدل حول الانتماء إلى معركة متعدّدة الجوانب والأهداف.
فهي “قضية” الوحدة في لبنان نفسه، لأن كل طرح آخر يتجاهل العروبة أو يتنكر لها أو يقفز فوقها، بات يصب بوضوح في مخطط تقسيم البلد وتفتيت مجتمعه… فالعروبة هي الجامع المانع، هي الجامع للبنانيين على اختلاف فئاتهم وطوائفهم، وهي المانع لكل دعوة طائفية أو مذهبية أو عرقية تقود إلى تمزيق لبنان وتفتيت مجتمعه.
كذلك فإن العروبة في لبنان هي “قضية” تحرير الأرض من المحتل لأن أي برنامج لتحرير الأرض لا يرتكز على العمق العربي، والمضمون العربي، هو برنامج عاجز عن التحرير، أو مساوم على حساب السيادة، ولعل تجربة اتفاق “السابع عشر من ايار” أكبر دليل على صحة ما نقول.
والعروبة في لبنان هي قضية الحرية والديمقراطية أيضاً… إذ لا العروبة قادرة أن تتقدم في لبنان في غياب الحرية والديمقراطية لأنها تصبح حينها حركة غازية فاشية، وهو أمر متناقض بالتعريف مع المضمون الإنساني والتحرري للحركة العربية، ولا الحرية والديمقراطية تكتسبان ضمانتهما الحقيقية إلاّ من ذلك التوازن التاريخي القائم بين المحيط العربي للبنان وبين المطامع الأجنبية والصهيونية فيه التي تريد أن تدفع لبنان ليكون كياناً فاشياً عنصرياً آخر على غرار الكيان الصهيوني، والنظام العنصري في جنوب إفريقيا.
ولعل من المفارقات الملفتة والمعبّرة عن تلازم العروبة والديمقراطية في لبنان، أن الحاكم اللبناني مهما غالى في ابتعاده عن العرب والعروبة في فكره وسياسته ونهجه نراه يطمح إلى أن يكون عربياً “كاملاً” حين يكون الأمر متعلقاً بالمسألة الديمقراطية، وهي تعاني ما تعانيه في الحياة العربية عموماً.
وبالمقابل، نجد الحاكم العربي خارج لبنان، مهما ابتعد في حكمه عن الممارسة الديمقراطية، ومهما أظهر من ضيق نتيجة الفسحة الديمقراطية التي يتنفس منها اللبنانيون وبعض العرب في لبنان، مضطر ليرى أن الطريق الوحيد للضغط على الحاكم اللبناني لكي يحافظ على الحد الأدنى من التزامه العربي، ومن احترامه لمتطلبات الأمن القومي العربي، هو في التمسك بشعارات الديمقراطية أو المشاركة أو التوازن أو غيرها من الشعارات التي تضعف من مركزية الحكم ونفوذه وسطوته في لبنان.
وكي لا يساء فهمنا في التركيز على العروبة، وكأننا نرى فيها ديناً أو عقيدة تتجاوز غيرها من العقائد لابدّ من التوضيح بأن العروبة التي نفهمها ليست ديناً أو عقيدة بل هي هوية وانتماء وإطار لممارسة السيادة ودعوة لاستعادة الوحدة القومية.
فالعروبة ليست ديناً، وإن كانت تربطها في نظرنا علاقة خاصة بالإسلام، علاقة يعتزّ بها المسيحي العربي كما يعيشها المسلم العربي، علاقة لا ينتقص الإسلام فيها أبداً من عروبة المسيحي، كما لا تقلّل العروبة فيها أبداً من إيمان المسلم… بل إنها تضع المسيحي العربي من دون كل نصارى العالم على تواصل خلاق مع مليار مسلم يرون في العروبة لغة قرآنهم، ولسان نبيهم (ص)، وهو تواصل يسمح أيضاً للمسيحي العربي أن يفهم جموع المسلمين أكثر مما يفهمهم غيرهم من مسيحي العالم، وأن يتعاطف مع معاناتهم وقضاياهم وبالتالي يرفض الانحراف في الدعوات الصليبية أو العنصرية أو الاستعمارية التي تحاول أن تتخذ من الدين المسيحي ستاراً لها.
ألم تكن عروبة المسيحي هي التي جعلته ينتصر للعرب المسلمين أيام الفتح بوجه البيزنطيين المسيحيين، وألم تكن هذه العروبة هي التي جعلت من مسيحيي القدس حلفاء صلاح الدين الذي كان أول ما فعله أثر تحريره بيت المقدس أن أعاد إليها مطران القدس الذي عزله الفرنجة؟!.
والعروبة ليست عقيدة أو أيدولوجية، وإن كانت تشكل في نظرنا إطار عمل كل العقائد والأيدولوجيات ومجال تحليلها وميدان نضالها وصمام أمانها ومصدر تطورها ونموها واغتنائها بأرض الواقع.
وما من أيدولوجية تجاهلت العروبة أو قفزت فوقها أو تنكرت لها إلاّ وجدت نفسها معزولة عن التأثير الجماهيري الواسع، ومرتبكة في التحليل والأداء… لأنها أصيبت بداء اللا واقعية أو بمرض الجزئية.
فالاشتراكية التي تجاهلت العروبة كهوية، والوحدة العربية كإطار، وقعت في أسر الإصلاحية أو البيروقراطية ورأسمالية الدولة.
والديمقراطية التي لم تستوعب العروبة كتراث، وكعلاقات اجتماعية، والتي لم تتخذ الوحدة العربية هدفاً لها ومجالاً رحباً لممارستها، تحوّلت إلى مجرد واجهة لتحكم طبقة فاسدة بحياة المجتمع كله، أو لمجرد ستار شفاف يخفي نزعات فاشية خطيرة وراءه، أو إلى غطاء لفوضى اجتماعية وسياسية متفاقمة سرعان ما تتحول إلى حروب ونزاعات أهلية وقبلية.
حتى الفكر الأصولي الذي تنكّر للعروبة أو عاداها أو تجاهلها باسم الدين، رغم أنه قد ورد ذكرها في الآيات القرآنية، وأحاديث الرسل (ص) بأكثر من مناسبة، وجد نفسه أسير التفكك المذهبي، أو المنطق الشعوبي الذي لا يبني مستقبلاً، ولا يشيد إيماناً بقدر ما ينبش أحقاداً، ويطلق توترات عصبية تفتيتية لا قعر لها وهي أبعد ما تكون عن دين التوحيد نفسه.
فالعروبة إذن هي البوصلة لأنها تحديد للهوية، وهي الأرض الصلبة التي تشاد عليها البنى الفكرية والأيدولوجية لأنها الإطار الذي يحدد السيادة، بل هي المجال الرحب الذي تتنفس فيه كل الأيديولوجيات، فتكسب عمقها التاريخي ومداها الجغرافي، لتصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات الضخمة للقوى الاستعمارية الكبرى التي تنطلق في تخطيطها واستراتيجياتها من وحدة الأمّة وعروبتها لتعمل في سياساتها وتكتيكاتها على ضرب الوحدة كحركة والعروبة كهوية….