في أدبيات القانون والإعلام ، تشتهر كلمتي (فعل فاضح ) وهي تجرّم وفقاً لطبيعة هذا الفعل وزمانه ومكانه ، ومن الشائع في بلادنا القول (فعل فاضح في الطريق العام ) ،فإذا ما طبّقنا هذا القول على قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني والدائرة رحاها منذ توقيع إتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وحتى اليوم 2019 ، يصبح التطبيع تعريفاً ومضموناً وممارسة وفقاً للحقائق المُرتبطة به والنتائج المُترتّبة عليه بمثابة فعل فاضح.
ولكن ليس في الطريق العام بل في التاريخ العام للأمّة ولأوطانها ، خاصة ذلك التاريخ الذي رويَ وكُتِبَ بالدم في مواجهة الاحتلال والعدوان الصهيوني والأميركي على الأمّة ، منذ العام 1948وقبله . على أية حال نحتاج اليوم ، خاصة نُخبتنا الثقافية والسياسية التي تواجه هذا التطبيع ،أن نُعيد تعريف الكلمة –التطبيع – لكي نستخدمها وبدقّة في معركة المصير مع هذا الكيان الغاصِب والذي للأسف يتمدّد الآن خليجياً ومغاربياً بشكلٍ خطرٍ ومؤلم ، مُهدّداً في طريق تمدّده ، أبسط قواعد الأمن القومي العربي وأشدّها رسوخاً . إن رواج المُصطلح يحتاج مُجدّداً إلى إعادة تعريف صحيحة له حتى لا تختلط الأمور وتروّج الخيانة وتقدّم للعامة على أنها مُجرّد وجهة نظر في الصراع وليست فعلاً فاضحاً كارثياً على الأمّة بتاريخها وثقافتها وإقتصادها .
بداية يهّمنا التأكيد على أننا في الموسوعة التي أصدرناها عام 2014 عن (التطبيع والمطبعّون في مصر 1979-2011) تحفّظنا منذ البدية ولازلنا حتى اليوم نتحفّظ على استخدام كلمة (التطبيع) لأنها تعني أن ثمة علاقات طبيعية كانت قائمة ثم انقطعت، والآن، يُراد لها أن تُعاد وتصبح طبيعية من جديد، وهو الأمر غير الصحيح بالنسبة للحال العربية مع الكيان الصهيوني، إذ لم تكن هناك علاقات طبيعية أصلاً بين الأمّة العربية أو الإسلامية والكيان الصهيوني، بل كانت العلاقات علاقات صراع وتضاد.
من ثم نقترح كلمة أكثر تعبيراً عن المقصود هنا، وهي كلمة (الهيمنة) أو الاختراق الصهيوني للأمّة العربية.
أما في الفكر السياسي الإسرائيلي فيُعدّ مُصطلح "التطبيع" من المُصطلحات حديثة الذيوع بداخله، ورغم أن بعض الباحثين الإسرائيليين ينسبون صوغه لأول مرة لأبا إيبان في خطاب له في الأمم المتحدة عام 1968، فإن استخدامه لم يشع إلا في مرحلة متأخّرة في المفاوضات المصرية – الإسرائيلية السابقة على توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، بل أن المُصطلح الذي تداولته تلك المُباحثات للتدليل على هذا المفهوم كان "طبيعة السلام"
وعندما شرح ألوف هارايفن، مدير شركة شيلواح لدراسات الشرق الأوسط، مفهوم "طبيعة السلام" في شهر آذار/مارس 1977، ذكر أن الإسرائيليين يفهمون السلام على أنه علاقة تحتوي على ثلاثة عناصر على الأقل: الأول، أن هذه العلاقة يجب أن تتضمّن حواراً بين الأطراف الذين كانوا مُشتبكين قبل ذلك في النزاع، والثاني أن هدف هذا الحوار يبتغي الوصول إلى حلول مشتركة، والثالث، أن السلام يجب أن يأخذ شكل علاقة قادرة على أن تخلق آفاقاً ونماذج جديدة من التعاون، وهكذا فإنه عندما يقول العرب "لا تجارة مع إسرائيل، لا اتصالات ولا مواصلات مع إسرائيل، ولا حدود مفتوحة مع إسرائيل"، فمعنى ذلك أنهم يقولون إن السلام في رأيهم لا يعني وجود صلة إنسانية بينهم وبين إسرائيل، وأنه لا علاقة ومن ثم فإنه لا حلول مشتركة وإذن ما يقترحه العرب هو شيء ليس له "معنى السلام" ولا "طبيعة السلام" كما تتصوّرها إسرائيل.
بهذا المعنى، يكون من المُتعذّر تناول مفهوم التطبيع في الفكر السياسي الإسرائيلي من دون تداخل مع مفهومها للسلام، والسلام الصهيوني قائم كما هو معروف على الدم والفوضى وإغتصاب الحقوق ، ومن هنا يأتي تهافت وسقوط فريق المُطبعين العرب ،حكاماً ونخبة ، الداعين للتطبيع وللسلام مع كيان تؤكّد سياساته يومياً منذ حرب 1948 ، لا تصلح معه سوى المقاومة، والتي تبدأ بالكلمة وصولاً إلى الفعل المسلّح .إن الغزوة الصهيونية لفلسطين ليس حدودها ولا غايتها فقط فلسطين بل هي ، وكما أكّدت التجارب والحقائق بما فيها تلك التي جرت قبل أيام (نقصد زيارات كبارالمسؤولين الإسرائيلين للخليج ومصر والمغرب ) ،هدفها ليس تثبيت وجودهم في القدس وفلسطين فحسب بل أيضاً في مسقط ومراكش والقاهرة والرياض ، وهذا ما يخاتل بشأنه المُطبعون العرب ويكذبون ولا يعترفون به في مخالفة بيّنة لبديهيات الصراع وفي محاولة لإراحة نفوسهم المهزومة من داخلها ولمشاريعهم خائِرة الروح سقيمة الوجدان .إن هذا الصراع مع الكيان الصهيوني ومع (تطبيعه )هو صراع وجود وليس صراعاً على حدود ، فقط ، كما قال ذلك الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ، دولة الاحتلال تقول هذا كل يوم وتؤكّده بالدم العربي النازف في فلسطين وخارجها ، فهل بعد ذلك يصحّ التطبيع معها؟ وهل يستقيم ذلك مع حقيقة وجودها وأهدافه؟ ثم ألا يحق لنا بعد أن تأكّد أن هذا التطبيع يغطّي على جرائم الاحتلال بل ويمنحها شرعية تاريخية كان يفتقدها ، أن نسمّي التطبيع مع الكيان الصهيوني بأنه بمثابة فعل فاضح في التاريخ العام للأمّة ، يستحق محاكمة ومعاقبة قانونية وسياسية وإنسانية مع مَن يرتكبه أسئلة برسم النخبة وقادتها؟