كثيرة هي التحديات الجارية التي تُذكُّر بالرئيس جمال عبد الناصر. وإذا ما كان الحديث عن الوعي الجمعي العربي، فالتذكٌّر لا ينحصر في يوم مجيئه ويوم ارتحاله وحدهما، بل هو في الزمان والمكان فلسطينياً عربياً وعالمياً حتى رغم دُعاة الانحصار واستدخال الهزيمة، ذلك لأن الوعي الجمعي حتى في كمونه ليس مضروباً.
لا ينحصر درس البقاء التاريخي للرجل في تعداد ما انجزه وما طمح إليه بل يتجاوز ذلك لإجراء ما كان عليه الحال إلى ما يجب أن يكون أخذاً بالاعتبار التجاوز طبقاً لمتطلبات المرحلة وتناسب القوى ودرجة الاصطفاف الذاتي مقابل الثورة المضادة.
وإذا كان عبد الناصر قد دفع الوحدة الثقافية العربية من مستوى الثقافة (ساطع الحصري، ميشيل عفلق) إلى مستوى المشروع التجسيدي بمعنى" يا جماهير الوطن العربي اتحدوا" قياساً على البيان الشيوعي "يا عمال العالم اتحدوا"، فإن فلسفة الثورة كانت مثابة ما العمل مقارنة بما وقف لينين حياته عليه.
على هذا بنى عبد الناصر مشروعه من المستوى العربي فالإفريقي فالإسلامي العالمي. ومن هذا حقق عبد الناصر أو جسد مساهمة مصر في تحرير اكثر من قطر عربي، وجسد الوحدة بين مصر وسوريا، ووصل حواف منابع النفط في دعمه ثورة اليمن، وبسبب هذا العمل كان قرار استهداف مصر حينها للقضاء على التجربة.
لم يكن بوسع الثورة المضادة تأجيل هدفها كي لا يصل عبد الناصر من القوة بما يُعجزها عن تحقيق هدفها، وهذا تماماً كما نرى حال الثورة المضادة اليوم تجاه محور المقاومة فهي:
· إن اعتدت سوف تخسر الكثير بما لا تحتمله
· وهي إن تلكأت فإن هذا المحور يزداد قوة فتنتقل من القلق إلى الندم.
وإذا كان لنا القول ما اشبه اليوم بالبارحة، فإن الثورة المضادة نفسها التي تنيخ بكلكلها على الوطن العربي وراس حربتها المزدوج هو ذاته:
· الكيان الصهيوني
· وأنظمة وقوى الدين السياسي.
لم يتغير راس حربة الثورة المضادة وبدوره لم يتغير مركز الثورة المضادة قط. نعم، لم يتغير الاصطفاف، ولكن ما تغير ، وهو كبير وخطير. ففي حين كان الرد والصد عربيا على يد الثورة في مصر ، ها نحن نواجه هجوم الثورة المضادة بقيادة السعودية وكيانات النفط. بمعنى أن الفريق العربي في الثورة المضادة انتقل إلى الهجوم التصفوي علانية. وكان بالطبع قد جنَّد قوى الإرهاب /الدين السياسي لتصفية الجمهوريات العربية. وإذا كان ملك السعودية فيصل قد استماح الرئيس الأمريكي جونسون سراً للعدوان على مصر وتصفية الثورة، فإن حكام السعودية الحاليين وأضرابهم من الكمبرادور العربي يقفون في الصف الأول ضد العروبة، إنهم الجيش الأمريكي الثالث الذي يحارب نيابة عن مركز الثورة المضادة ليقتل العربي نفسه، ويمارس التطبيع لصالح الكيان الصهيوني حيث تهرول قيادات ومثقفين/ات إلى الكيان بالمجان.
نسوق هذا كي ندخل إلى ما كان يجب أن لا يحصل. لقد كان عبد الناصر أكثر من عرف الفريق العربي في الثورة المضادة، وبالتالي ما كان له أن ينقل العلاقة مع هذا الفريق إلى ما أُسمي ب "التضامن العربي" إثر هزيمة 1967. كان هذا التضامن مثابة إعطاء هدنة لهذا الفريق كي يُجهز نفسه للإجهاز على العروبة وهذا ما نراه اليوم بمسيل الدماء.
ولم يقتصر هذا على الزعيم الكبير، بل هو أمر وقعت فيه معظم القوى القومية واليسارية العربية التي إما مالئت الثورة المضادة والتحقت بالأنظمة القطرية، أو حتى غابت عن الساحة فكريا وثقافياً . لم تحلم الثورة المضادة بأفضل من هذه الهدنة.
لقد كان عبد الناصر اشتراكياً، وحاول التأسيس لاشتراكية طبقاً للواقع العربي سواء من حيث مستوى التطور أو من حيث واقع التجزئة. لكن الرجل وفريقه لم يذهبا في الأمر إلى حد تصفية البرجوازية المصرية التي مالت إلى الكمون داخل النظام والحزب والمجتمع بانتظار لحظة الردة، وهو ما حصل. وبالمناسبة، فإن تأثير عبد الناصر في التشافيزية نقل إليها نفس الإشكالية حيث حاولت التشافيزية تطبيق الاشتراكية بشكل ديمقراطي في بلد تتجذر فيه الثورة المضادة عبر طبقة لم يُؤخذ منها ما سلبت واصبح ما تملك وهو كثير.
وربما كان هذا النمط من الاشتراكية هو الذي أثَّر سلباً في طبيعة اصطفاف مصر عالمياً. كانت مصر الناصرية حريصة على ان لا تُحسب ضمن المعسكر الاشتراكي الذي كانت له مشاكله وتقصيراته بالطبع مع ان العرب كانوا الأحوج عالميا لعلاقة اقوى بالاتحاد السوفييتي.
صحيح أن مصر كانت ضمن مؤسسي باندونغ الذي كان محاولة لاجتراح طريق ثالث بين المعسكرين وخاصة من الدول/الأمم التي قاتلت الاستعمار كحركات تحرر وطني ومثَّلت دور وواقع الموجة القومية الثانية. ولكن التاريخ أثبت ان طريقين فقط هما ما تعرضه الحياة للأمم، فإما الاشتراكية وإما الراسمالية التي تؤول إلى البربرية. لكن الكتلة الاشتراكية لم تتمكن من اجتذاب باندونغ، كما أن باندونغ لم يرتق جذريا لتخطي الرأسمالية إلى اشتراكية جذرية.
لذا، حين لم تتمكن الاشراكية من كسب باندونغ لصالحها، بل ذهبت معظم بلدان باندونغ باتجاه الراسمالية، وبدل أن تكون ضمن المعسكر الاشتراكي أو من محيطه، بل كان جزء منها من محيطه، ذهبت جميعاً لصالح الراسمالية. ولذا، شاهدنا هزيمة هذا المحيط او المحيط المفترض للاتحاد السوفييتي لتكون مقدمة لتفكك محيطه الأقرب اي شرق اوروبا وصولا إلى الاتحاد السوفييتي نفسه.
إن الاصطفاف مع أو ضد أو على الحياد في صراع المعسكرين، ليس مجرد الموقف السياسي أو الثقافي، بل اساساً المستوى الاقتصادي حيث الاقتصاد هو بلدوزر التغيير والمواجهة.
فعلى الرغم من نهب المعسكر الراسمالي لثروات العالم الثالث، ومعظمة من باندونغ، وهو النهب الذي اكتشف خطورته الراحل أنور عبد الملك بمساهمته الهامة "فائض القيمة التاريخي" حيث بيَّن بأن ثراء وتطور المركز الراسمالي الغربي هو إلى حد كبير مما نهبه من المحيط، فإن هذه البلدان واصلت علاقاتها الاقتصادية بشكل مكثف مع السوق الراسمالية العالمية مما جعلها مثابة رديف اقتصادي لهذا المعسكر الأمر الذي حقق لهذا المعسكر فرصة وقوة ومقدرات أن يواجه الكتلة الاشتراكية بمقدرات هذه البلدان ومقدراته هو.
فلو عدنا إلى الجمهوريات العربية التي كانت صديقة للاتحاد السوفييتي في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن العشرين اي مصر وسوريا والعراق، فقد كانت مبادلاتها ، الصادر والوراد في معظمها مع ثلاثي الإمبريالية (أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة ) حيث وصلت نسبة كل من الصادر والوارد قرابة سبعين بالمئة مع المركز الراسمالي ولم تتجاوز مبادلاتها مع الكتلة الاشتراكية 12 بالمئة فقط. (أنظر، عادل سمارة: البريسترويكا، حرب الخليج والعلاقات العربية السوفييتية،1991، منشورات مركز احياء التراث العربي-الطيبة-فلسطين المحتلة، ص ص 101-113)...
نسوق هذه الوقائع لا بهدف التخطئة، كما لم نسُق الإيجابيات بهدف المديح العاطفي، بل كي نُضيء ما امكن على ما يجب ان يكون عليه الحال اليوم من أجل الغد. فتجديد المشروع العروبي يشترط القطيعة مع المعسكر الراسمالي بل مواجهته حيث اثبتت الوقائع أن كلفة مواجهته أقل بكثير من ممالئته. أين تصل القطيعة بمعنى فك الارتباط (سمير امين طبعاً)؟ هذا أمر منوط بما تحتمله الساحة وقدرة القوى، لأن المهم هو ضبط البوصلة وليس تفاصيل تحريك عقاربها.
بقي أن نقول بأن تجربة عبد الناصر، الذي لم يبقى ليقطف ثمارها ويذهب بها إلى مداها، تعلمنا بأن الراسمالية ليست الحل للطبقات الشعبية العربية التي لها مصلحة مادية في الاشتراكية كما هي مصلحتها الثقافية والعاطفية في الوحدة.