شكّلت الوحدة السورية - المصرية في شباط (فبراير) 1958، تجربة في الحياة السياسية العربية المعاصرة، على صعيد الفكر السياسي لدى النخبة العربية في استعادة دور حضاري وتحقق تكاملاً إقتصادياً و قوة عسكرية تؤمن.
وعلى رغم أنها لم تدم لأكثر من ثلاث سنوات وسبعة أشهر، إلا أنها بقيت تمثّل تجربة حافلة بكثير من النتائج الايجابية والسلبية، بحيث بقيت هذه النتائج مؤثّرة في المشاريع والأفكار والمقترحات الوحدويّة حتّى تاريخه.
إلا أن المتابع لهذه التجربة، يقف بكثير من الاستغراب والحذر من الدراسات والأبحاث الصادرة بشأنها، حيث أن غالبيتها تنطلق من مواقف سياسيّة منحازة بعيدة عن البحث العلمي بأصوله الأكاديمية، وتنطلق من احد الاتجاهات والمواقف التالية:
1.العداء لفكرة الوحدة العربية أصلا، والتشبّث بالقطرية.
2 ـالحماسة لفكرة الوحدة في إطار المفهوم القومي العربي مهما كان شكلها إندماجياً.
3- العداء لسياسة جمال عبد الناصر، ولاسيما في للاشتراكية؟
4ـ طريقة الحكم التي اُتّبعت في عهده بما فيها إصراره على إلغاء الأحزاب وخلافه مع جماعة الإخوان المسلمين، وتشديده القبضة الأمنية عبر جهاز المباحث العامة.
وعلى رغم أهمية إجراء دراسات علمية تعتمد التحليل الوثائقي من جهة، والمقارنة مع التجارب والأفكار الوحدوية العالمية، فإنها بقيت نادرة أو مقتصرة على بعض الدراسات لباحثين أجانب ينقصها عمق المعرفة بالواقع المصري والسوري بشكل خاص والعربي بشكل عام.
ويعود سبب عدم إجراء دراسات عربية إلى:
1- خوف الباحثين من ردود الفعل السلبية تجاههم بحكم طبيعة الأنظمة القائمة في مصر وسورية.
2- بحكم التكوين المجتمعي اللاديمقراطي، المتعصّب لمواقفه واتجاهاته.
3- لنقص مراكز البحث التي تتمتع بالخبرات والحرية في عملها وقدرتها على نشر أعمالها.
قامت الوحدة السورية المصرية في ظل أجواء خاصة يمكن تلخيصها بالآتي:
1- حالة النهوض العربي في أعقاب تأميمه لقناة السويس ومقاومة الشعب المصري للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، ونجاحه في صدّ العدوان.
2- الوضع السوري والغليان المجتمعي الداخلي المتحمّس لفكرة الوحدة العربية، والتي تشكّل بالنسبة له بُعدا استراتيجيا أمنيا، منذ انهيار الدولة العثمانية، وتخوّفه من الغزو الخارجي الذي شكّل قيامُ إسرائيل على ارض فلسطين في جنوب الشام ابرز مخاطره، إضافة إلى تخوّفه من المدّ الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وتشكيل حلف بغداد بدعم بريطاني وعماده الدولتان المجاورتان لسورية وهما تركيا والعراق.
المعروف أن الدعوة لقيام الوحدة السورية المصرية صدرت من السوريين في شكل وحدة اتحادية في البداية،أعلن عنها خلال زيارة أنور السادات إلى دمشق حين كان رئيسا لمجلس الأمة المصري واجتماعه مع أعضاء المجلس النيابي السوري الذي كان يشكّل تمثيلا ديموقراطيا للتيارات السياسية جميعها، والتي تم انتخابها في أعقاب الإنقلاب على حكم أديب الشيشكلي، لكن هذه الدعوة الإتحادية مالبثت ان تحوّلت إلى وحدوية اندماجية كاملة بعد اجتماع الضباط السوريين القادة مع الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة، انسجاما مع الشعار الذي رفعه أنصار الفكر القومي العربي في سورية (حزب البعث –حركة القوميين العرب-المستقلون الوطنيون) امة عربية واحدة، بعلم واحد وجيش واحد ورئيس.
في حين أن المجتمع المصري لم تكن لديه هذه الأفكار الوحدوية بالشكل الذي كانت لدى الشعب السوري، بحكم تركيز احزابه التقليدية قبل 23 تموز (يوليو)، ومناهجه التعليمية على القومية المصرية، والوطن المصري،أكثر من توجّهه العروبي بمفهومه القومي.
ويعيد المرحوم عبد الكريم زهور عضو المجمع العلمي العربي وأحد أبرز هذه الأسباب، وفق محاضر جلسات الوحدة الثلاثية التي جرت في القاهرة بين مصر وسورية والعراق (والتي أثمرت عن اتفاق 17 نيسان (ابريل) 1963 لإقامة وحدة ثلاثية بنظام فيدرالي وضع أسسه المفكر عبد الرحمن البزّاز، بطلب من الرئيس عبد الناصر،لكن الاتفاق طويِ ولم ينفّذ بسبب إصرار حزب البعث في سورية والعراق على تحجيم نفوذ عبد الناصر واستمرار سيطرة البعث على البلدين كحزب قائد).
يحدّد زهور أسباب الفكر القومي المصري، بأن مصر تتمتّع بأمن استراتيجي طبيعي، هو الصحراء، واْنّ وجود الشعب المصري المكثّف حول وادي النيل يعطيه قوة جماعية وثقة، كما أن قدم تكوين مصر الخاص كولاية او كقطر او دولة، جعلها تثق بنفسها وقدرتها، الأمر الذي جعل شعبها يركّز على مصريته كقومية ودولة.مع الاهتمام النسبي بالاقطار العربية بحكم اللغة الواحدة، والدين الإسلامي، و لوجود الازهر في مصر ومكانته الكبيرة.
إلا أن عبد الناصر وبعض المتنورين المصريين، كانوا يطوّرون موقفهم وأفكارهم بحكم المستجدات من جهة، ولاسيما العسكرية منها القادرة بالأسلحة الحديثة على تجاوز الصحراء كما حدث في هجوم الجيش الاسرائلي عبر سيناء خلال العدوان الثلاثي وصولا إلى ضفاف قناة السويس، وكما سبق ذلك في معركة العلمين بين ألمانيا ودول الحلفاء. إضافة إلى أن أمن مصر الثقافي والاقتصادي الذي كان معتمدا غلى وحدة مصر والسودان أو مفهوم الدوائر الذي حدّده عبد الناصر في كتابه «فلسفة الثورة» (1952) تطوّر إلى مفهوم القومية العربية والأمة العربية الذي نقله القوميون العرب من السوريين إلى القيادة المصرية في ذلك الوقت وتمّ تبنّيه من الرأس، من دون تعميم هذا المفهوم على الجماهير المصرية التي بقيت بغالبيتها متشبّثة بافتخارها المصري أولا وتأكيدها أن مصر «أمّ الدنيا»، بعيدا عن معناها المجازي المحلي الى معنى اكبر يصل الى الدولي.
صدرت دراسات كثيرة عن الوحدة السورية المصرية وأسباب الانفصال، مع مذكرات لبعض المسؤولين في عهد الوحدة او المتابعين، حملت في غالبيتها توجهات كتّابها الشخصية وبعيداً من العمل التوثيقي العلمي مما أفقدها مزية الموضوعية أو العمل الأكاديمي، إضافة إلى برامج ومقابلات مع شخصيات شاركت في الإنقلاب العسكري ضد الوحدة قدمت معلومات دافعت فيه عن انقلابها مثل عبد الكريم النحلاوي الذي كان يشغل مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر ويقدّم له معلومات مغايرة للحقائق ليزيد الخلافات بينه وبين عبد الحميد السراج وليتمكن من اجراء تنقلات في الجيش تؤمن له قيادة انقلابه في الـ28 من ايلول (سبتمبر) 1961، وتحقيق الإنفصال.
واستطيع التوقف عند دراسة صدرت تحت عنوان «قراءة جديدة في ضوء الوثائق الحديثة»، أعدّها كرسالة دكتوراه في التاريخ السياسي الحديث الباحث حسام راتب حسون. وصدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب. تضمنت:
1- دراسة للأوضاع الدولية والعربية والداخلية في سورية ومصر وانعكاساتها على تطوّر العلاقات بين البلدين (1945-1958)
2- مواقف القوى الداخلية من المشروع الوحدوي.
3- آلية قيام الجمهورية العربية المتحدة بشكلها القانوني وانتخاب رئيس لها.
4- معطيات السياسة الخارجية لدولة الوحدة وإشكالاتها على الإقليم السوري، لاسيما تجاه لبنان.
5- الإشكالات في الواقع السوري بجانبيها السياسي والاقتصادي
6- الانفصال وانقلاب 28 أيلول (سبتمبر) 1961-العسكري بدمشق وتفاصيله.
7- مواقف الدول الغربية من الانفصال.
وما يلاحظ على الدراسة على رغم الجهد التوثيقي الكبير ومحاولة الباحث الخروج في بعض الفقرات عن العملية التأريخية، إلا أن قصورا كبيرا تتسم به الدراسة،ومنها الدور الخارجي في مساعدة عدد من قادة الانفصال من الضباط، وهو ماظهر في اعقاب البلاغ التاسع، الذي تم الاتفاق عليه مع المشير عامر، اذ رفضه فور اذاعته الضباط المرتبطون بعلاقات خارجية وهم حيدر الكزبري وفيصل سري الحسيني، واستطاعوا فرض موقفهم على النحلاوي ومنصور والهندي والعسلي والباقين، الذين كانوا مندفعين بتحركهم لأسباب داخلية بحته تتعلق بالتأميم وهيمنة بعض الضباط المصريين، والعداء مع عبد الحميد السراج لأسباب اشتراكية وتعصّب محلي مديني بين دمشق وحماة!.