كثيرة هي حالات الإخفاء القسري أو الاغتيالات التي طالت شخصيات سياسية أو اقتصادية أو إعلامية، و أُريد لتفاصيل هذه الحالات ان تكون ضمن إطار الصفقات و البازارات السياسية، دون الوصول إلى الحقيقة الكاملة، و الواضح أن قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي جاءت في توقيت سياسي يُراد منه إنعطافة سعودية و تركية في الكثير من القضايا الإقليمية و الدولية، و لكن بإشراف أمريكي مباشر، و لن ندخل في جزئيات قضية اختفاء خاشقجي، لأن نهاية التكهنات والتحليلات كانت عبر الاتصال الذي جرى بين العاهل السعودي الملك سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبيل الإعلان رسميا عن مقتل جمال خاشقجي إثر مشاجرة حصلت داخل مبنى القنصلية السعودية، و للمصادفة جاء ذلك بعد ساعات من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن عزمه فرض عقوبات على السعودية في حال ثبت تورطها في مقتل خاشقجي.
على الرغم من الضخ الإعلامي المرافق لتفاصيل الاختفاء و إعلان مقتله لاحقا، تمكنت السعودية و تركيا و أمريكا من خلق فوضى إعلامية و سياسية، لكن الثابت في كل هذه المعطيات أن جمال خاشقجي هو مواطن سعودي و سياسي متشدد و منحاز بشكل كبير للفصائل الإرهابية في سورية، و هو أيضا جزء من تركيبة النظام السعودي و بوقا داعماً لسياسيات آل سعود في الشرق الأوسط، لكنه اتخذ في الفترة الماضية مواقف ضد سياسية ولي العهد السعودي في بعض القضايا الداخلية، و عليه فإن السؤال الجوهري يكمن في الفائدة من مقتل جمال خاشقجي سواء من قبل النظام التركي أو نظام آل سعود.
" بين السعودية و تركيا .. تفاصيل و مساومات"
لا شك بأن السعودية معنية بقضية اختفاء خاشقجي على اعتبار أنه مواطن سعودي، و قد قام بزيارة قنصلية بلاده بالتنسيق مع السفير السعودي في واشنطن، لكن دخل و لم يخرج، و عليه لم تقم السعودية بتقديم دليل مادي مقنع يتعلق بخروج الخاشقجي من القنصلية، بل أدعت بأن كاميرات المراقبة معطلة، ما جعل آل سعود أصحاب المسؤولية الأولى عن مصير خاشقجي، لكن في مقابل المسؤولية التي يتحملها آل سعود عن مصير خاشقجي، يبدو أنه ظاهريا لا مصلحة سعودية في قتل خاشقجي أو إخفائه في دولة تشوب العلاقة معها مطبات سياسية و أمنية، بل على العكس قيام آل سعود بهذه العملية سيمنح تركيا و بطريقة مجانية هامشا كبيرا لابتزاز آل سعود، و أكثر من ذلك، حيث أن قتل معارض سعودي لا يعني إطلاقا تكميم أفواه باقي المعارضين السعوديين، و بالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل السعودية إلى هذه الدرجة من الغباء في التخطيط و التنفيذ، خاصة أن آل سعود يملكون الكثير من العملاء القادرين على تصفية الخاشقجي و بعيدا عن الأضواء و الضوضاء، لكن الاخراج الأمريكي أنقذ السعودية من مفاعيل إرهابهم الدولي.
أما تركيا، بصرف النظر عن أن القنصلية السعودية تُعد بمثابة أرض سعودية حسب الأعراف الديبلوماسية، لكن الخاشقجي اختفى على أراضيها، و بالتالي فهي معنية بهذه القضية، فـ اختفاؤه أثار موجة عارمة من الانتقادات و التكهنات، و الأهم أن ما حدث بالعُرف التركي يعد انتهاكا للأمن القومي، فعملية الاختفاء تمت تحت سمع وبصر الأمن التركي .
بين تركيا و السعودية و ضمن المصالح المشتركة في اختفاء خاشقجي، لابد من التنويه إلى أن كلا الطرفين لهم مصلحة باستثمار هذه القضية إلى الحد الذي تكون فيه واشنطن قد مررت العديد من الملفات السياسية المتعلقة بالرياض و أنقرة، السعودية تريد إحراج تركيا في المنطقة و إقصاءها عن الحلم الذي يراود أردوغان لجهة زعامة العالم الإسلامي، أضافة إلى محاولة السعودية بجلب دعم واشنطن في هذه القضية، ليظهر أردوغان في موقف الضعيف و المُفَرط بالسيادة الوطنية أمام الضغوط التي ستمارسها الادارة الأمريكية عليه، أما تركيا تريد جّر السعودية إلى التوقف عن تصنيف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، تمهيدا لإطلاق يدهم في العمل السياسي في الخليج العربي، بالإضافة إلى الرغبة التركية المتمثلة بتوجيه الأنظار عن ممارسات نظام أردوغان لجهة قمع معارضيه و تكميم أفواههم، لكن هناك نقطة هامة تمكنت تركيا من حصدها إبان اختفاء خاشقجي، هذه النقطة تُعد بمثابة تفوق استراتيجي، حيث تمكن أردوغان من تأجيل و ربما إنهاء مسألة التقارب السوري و السعودي و الذي تسعى روسيا إلى ارساء أسسه، و هذا ما بدا واضحا في مسألة التصريحات السعودية تجاه سوريا و الرئيس السوري، و أيضا لقاء وزير الخارجية السوري بنظيره البحريني، ما فُسر بأنه بداية حلحلة القضية السورية الخليجية، فـ تركيا لا مصلحة لها إطلاقا في هذا التقارب الذي تشرف عليه روسيا، و الذي سيكون له تداعيات جّمة على النفوذ التركي في سوريا.
الإخراج الثلاثي لقضية خاشقجي قد برهن بأن هناك حلقة مفقودة، هي حلقة تُثبت أن النهاية التي تم تسويقها ناقصة، خاصة بعد ما سُرب و سُوق خلال الأيام الماضية، و لعل المتابع تراوده جُملة من الأسئلة و التي لا يملك أحد منا أي جواب عليها، فما الذي دفع بـ 15 أمنيا سعوديا للسفر إلى تركيا و الاجتماع في ذات التوقيت داخل القنصلية بالتزامن مع تواجد جمال خاشقجي؟، و أين جثمان خاشقجي لا سيما بعد الرواية التركية التي تحدثت عن تقطيع الجثة؟، يبدو أن هذا الاخراج البائس سيكون له تداعيات جمة لن تنتهي عند الاتفاق السعودي التركي على إعلان مقتل خاشقجي.
"الإخراج الأمريكي لمقتل الخاشقجي"
من الواضح أن مصلحة واشنطن من هذه القضية كانت تتمثل في إطالة أمد التحقيقات، ليتسنى لها استغلال المعلومات و ترجمتها بالابتزاز المالي سعوديا و الضغط على التركي لإيقاف تفاهماته مع روسيا، فالرجل المفقود يقيم في الولايات المتحدة، و يملك الكثير من المعلومات عن آل سعود، و باختفائه فقد فقدت واشنطن كنزا ستحاول تعويض خسارته عبر الضغط على آل سعود و تركيا سياسيا و اقتصاديا، و بالتالي يمكننا تصنيف تصريحات ترامب الأخيرة، و خاصة تلك المتعلقة بوقف صادرات السلاح إلى الرياض كرد إذا ثبت تورطها في اختفاء خاشقجي، في إطار الإمعان بإذلال الرياض و ابتزازها ماليا، إضافة إلى توجيه رسائل إلى التركي بضرورة الخضوع للرغبات الأمريكية، لكن و عبر تكثيف الحملات الإعلامية الغربية و الإقليمية للمطالبة بكشف مصير خاشقجي، رأت الإدارة الأمريكية أنه من المفيد في هذا التوقيت أن يتم الإعلان عن مقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده، فالمسرحية الأمريكية و الإخراج البائس لتفاصيل هذه القضية و ما سبقها خلال الفترة الماضية من تكهنات و تحليلات، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن واشنطن تمكنت و عبر الضغط على السعودية و تركيا من جني مكاسب سياسية طويلة الأمد، و سنرى تداعياتها كـ انعكاسات على الساحتين الإقليمية و الدولية، خاصة ملفي سوريا و ايران.
"في المحصلة"
صحيح أن العلاقة بين الرياض و أنقرة لم تكن ودية، لكن بعد حادثة مقتل خاشقجي ستأخذ العلاقة طابعا دراماتيكيا في ظل التنافس المحموم بين البلدين على زعامة العالم الإسلامي، فقد بقيت العلاقة بين الدولتين خلال السنوات الماضية على قاعدة التربص و اقتناص الفرص، لتأتي قضية خاشقجي و تزيد في التوتر بين البلدين و كأنما هناك مصلحة لأحد بتحريك الجمر تحت الرماد، و يبدو أن بيضة القبان في العلاقة بين الرياض و أنقرة رهنٌ بواشنطن، و مع الإخراج الأمريكي لقضية مقتل خاشقجي يبدو أنه اسدل الستار على القضية التي شغلت الرأي العام العربي و العالمي، و رغم ذلك ستبقى تداعيات مقتل خاشقجي حاضرة في العلاقات بين الرياض و أنقرة، و بهذا سيكون الوضع بين البلدين قابلا للانفجار في أي رهان على قضايا المنطقة المتدحرجة نحو التأزم و التعقيد.