رغم أن الأحزاب السياسية نشأت في وقت مبكر في العالم العربي، إلا أنها اليوم تعاني من مشاكل خطيرة على مستوى الأداء والفاعلية وعلى مستوى الفكر والنظرية، فمعظمها مصابة بآفات عدة تتفاوت بينها بحسب طبيعة نفس الحزب وطبيعة الظروف المحيطة، ومن أهم هذه الآفات آفة (الأدلجة أو الإنغلاق الآيديولوجي) فكل حزب ينشأ من رؤية فلسفية ومنظومة أيديولوجية تشكل المرجع الفكري والقانوني للحزب.
يقوم المفكر بوضع هذه الأيديولوجيا كردة فعل على المآسي الاجتماعية أو كمحاولة لمعالجة اختناقات الواقع الذي يعيشه، لكن يحتاج المفكر إلى صبغ نظريته بلون من ألوان القداسة العلمية أوالدينية حتى تلاقي قبولاً اجتماعياً أو من باب القناعة بماأنتج، ومن أمثلة الصبغة القداسوية على النظرية السياسية ما وصفه ماركس لنظريته بأنها النظرية العلمية، أو مايضفيه أصحاب الإسلام السياسي من القداسة الدينية على نظرياتهم حيث يعتبرونها النسخة الأصلية من الدين والراد عليها أوالناقد لها رداً على الدين.
وهذه القداسة تجعل النظرية عصية على النقد والمراجعة، فمن سيردُّ على المسلمات العلمية أو الثوابت الدينية؟!
وهكذا تصبح الأيديولوجيا مغلقة يمنع الاقتراب من مفرداتها بالنقد والتقييم، فيقصر التقييم والمراجعة على الإجراءات العملية عند حصول الفشل وانسداد الأفق على التغييرالواقعي، فالشيوعية مثلاً لم تقدم على مراجعة النظرية بعد ماركس رغم الفشل الذي منيت به في كثير من المواطن إن لم نقل كلها، وكذلك بعض منظري الإسلام السياسي، وقد يبرر الفشل بطرق عديدة تارة بأن يلقى اللوم على الناس أنهم لم يفهموا النظرية بشكل جيد أو لم يتعاونوا مع الحزب، ومن ينتمون للفكر الديني قد يبررون الفشل بالابتلاء والامتحان، مع فصله عن غاية الاعتبار والرجوع التي جعلها الدين علة لهذا الاختبار والابتلاء.
(الأحزاب والاستعلاء على الواقع) إن نظام عمل الأحزاب بشكله الطبيعي يظهر في عدة أمور، أولها التقاط هموم الشارع ومشاكل الناس واعتبارها مدخلات يتم من خلالها وضع خطة عمل وبرامج للحزب، ثم يبدأ العمل الدعائي ليقول أرباب الحزب للناس: أنكم إن أعطيتمونا أصواتكم سنعمل على علاج المشاكل التي تؤرقكم ونكون أفضل ممن سبقنا ويرفعون شعارات جاذبة، ثم يحصلون على أصوات الناخبين ويصلون إلى البرلمان أو الحكومة ويتخذون القرارات التي تؤثر على حياة الجماهير بشكل مباشر، والجماهير بدورها إما أن تؤيد هذه القرارات وسلوك الحزب أو تواجهها بالرفض والإنكار وبالتالي تذهب أصواتهم لأحزاب أخرى.
هذه منظومة متكاملة تحوي مدخلات ومخرجات وعمليات ونظام تحكمها بيد الجماهير من خلال التصويت والانتخاب، وعلى الحزب إن كان يريد النجاح -وفقا لهذا النظام- أن يأخذ هموم الناس ومشاكلهم بعين الاعتبار قبل الوصول للسلطة، ويراقب رضاهم بعد الوصول إليها، مما يتطلب دراسة مستمرة للواقع والخيارات المتاحة وعملية تفكير استراتيجي دؤوبة ومتواصلة، لكن الفشل يحصل عندما يكون للحزب أيديولوجيا مقفلة تحمل معها نسبة كبيرة من القداسة بحيث يصبح من الصعب الاعتراف بالخلل الأيديولوجي أو عدها قابلة للمراجعة وإعادة النظر، فتتم مقاربة المشاكل وانتاج الحلول بنفس الطريقة التي أدت للفشل، وهذا مايفقد الجماهير ثقتها بالأحزاب، ويؤدي إلى إعراضها عن الانتخابات، وارتفاع منسوب السخط الاجتماعي بسبب تراكم المشاكل والاختناقات، وقد يؤدي لانفجار المجتمع على نفسه سواء بشكل تلقائي أو بتشجيع من أيادي خارجية . والخروج من هذه المعضلة يتطلب جرأة كبيرة لفك القداسة العلمية أو الدينية عن النظرية وتحريرها من الاحتباس الأيديولوجي، والسماح للأفكار الناقدة بالتسلل إلى المنظومة العقائدية للحزب وإلا بقيت النتائج تدور في نفس الحلقة السابقة، وطريقة الفرْض الأيديولوجي ومحاولة اخضاع الواقع للنظرية هي سمة ظاهرة عند كثير من الأحزاب والتيارات السياسية، سواءً منها تلك التي وصلت للسلطة أو بعضا منها وتحاول البقاء والاستمرارفيها رغما عن أنف الواقع المنفجر اوالمختنق ،أم تلك التي لم تصل بعد لكنها لاتحاول أن تبحث عما يتاح لها في الواقع وإنما تحمل قوانيناثابتة على الواقع أن يقبلها شاء أم أبى، والتفكير الاستراتيجي التي تحتاجه الأحزاب هو ليس ذلك التفكير الذي يدورفي حدود الخطط العملية، والنوايا الاستراتيجية، لكن المطلوب هو المرونة في التفكير، بدايةً من:
(1) التفكير بالنظم أي رؤية الأشياء ضمن نظامها العام.
(2) التفكير خارج الافق المعهود بفك الإطارالذي ضربته الأيديولوجيا على نفسها ، وتحريرها من أوهام الحتمية.
(3) ممارسة التأمل والاستنتاج.
فالغرق في المعالجات الآنية لن يؤتي أكله وقدتتضخم المشاكل بحيث تصعب السيطرة على مجريات الأمور، والمختصر المفيد أن على الأحزاب إن أرادت أن تكون فاعلة في تقدم المجتمع أن تمارس عملية التوقع والتموقع باحترافية وفنية عالية، (بين السيطرة والتشاركية) يوجد نوعان من طرق التفكير لدى الأحزاب في مايخص البقاء في السلطة . بعضها يرى أن البقاء في السلطة هدفه الأول والأخيرولو سالت الدماء وخرّبت البلاد . والبعض الآخر يراها مباراة ودية تفوز مرة وتخسر أخرى، ثم تعود للتخطيط للفوز مرة أخرى . إن التفكير بعقلية السيطرة لايخدم أهداف المجتمع ولايفيد الحزب نفسه، فالحزب يريد رضا الجماهير ويعلم أن رضاها مسألة حياة أوموت للحزب ،لكن هذه النظرة لاتنشأ أساسا من أدبيات الحزب نفسه وإنما من طريقة تفكير الشخصيات القيادية في الحزب، والتي تصبغ مبتغياتها بصبغة حزبية تمريرا لأهدافها الخاصة ،وهذا يجعل صورة الحزب مشوهة وغيرعصرية وقد يفقد الناس ثقتهم بالحزب. فالطريقة التشاركية هي الحالة الصحية المطلوبة لتعامل الأحزاب مع السلطة، وهي تجعل الحزب أكثر فاعلية وقدرة على التغيير المثمر والتطور من خلال المنافسة، فمما سبق تتبين أهمية التحول الضرورية من الأدلجة المغلقة إلى التفكير الاستراتيجي المرن، وأهمية المراجعة الأيديولوجية المستمرة، وتحرير النظرية من جدران القداسة.