من الواضح أن الحكومة التي سيتم تشكيلها في بغداد قريباً، سوف تكون مسؤولة عن إجراء تغييرات جادة في الكثير من مفاصل الادارة والتخطيط، كنتيجة طبيعية للتجارب المريرة التي أدت أخيراً إلى اضطرابات واحتجاجات وعدم رضا عن الوضع العام، وعليه فمن المرجح أننا سوف نكون بانتظار مشاريع للتغيير والاصلاح وعلى كافة الأصعدة.
باعتبارنا مختصين في الشأن العسكري، من حقنا أن نتسائل عن الاصلاحات المرتقبة، وتأثيرها على العمل العسكري ونتائج الحرب الحالية، وإمكانية وضع حد أو نهاية منظورة لها، خصوصاً ونحن نرى أن نجاح القوات المشتركة العراقية في حربها الحالية ضد المسلحين، يعتمد بالأساس على نجاح التخطيط والادارة العامة للبلد، على اعتبار أن أي نجاح أو تقدم في أي مجال يصبُّ حتماً في مفهوم (العمق الاستراتيجي).
وقف التهديد المعادي: تقوم القوات المشتركة حالياً بأخذ مواضع وخطط دفاعية وفق المفاهيم العامة للحرب، من غير أن يكون هناك استيعاب للمشكلة الرئيسية التي يعاني منها أمن البلاد، والمتمثلة بعدم استعداد صناع القرار في بغداد لاستيعاب أسس العمق الاستراتيجي، والتي تتمثل في ضرورة تقنين كافة الموارد والأنشطة والمؤسسات، ووضعها في خدمة (وقف التهديد المعادي)، حيث يوجد قصور في ادراك المفاهيم الحديثة للحرب، والتي تؤكد على ان العمق الاستراتيجي هو مفهوم سياسي يتم تحديده والتخطيط للعمل به في اروقة صنع القرار السياسي وليس العسكري، ومن اجل توضيح ذلك، سوف نحاول تبسيط الموضوع من خلال ايجاد تعاريف حقيقية لمفاهيم (الدفاع، العمق الاستراتيجي، المشروع السياسي) تفرضها اسس الحرب الحديثة ونوع الحرب النوعية الدائرة.
الدفاع: لا يمكن الاعتماد على لفظ (الدفاع) بمعناه التقليدي الكلاسيكي في مفاهيم الحرب الحديثة، كونه مفهوم يشمل فقط الاعمال التي من شأنها وقف تقدم العدو وتقييد حريته في العمل تعبوياً، وقد دلّت التجارب المريرة خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، على أنه لا قيمة للدفاع إذا كان يعتمد على نشر القوات على مساحة الجبهة مهما كان تعدادها او تسليحها، وكارثة منتصف عام 2014م كانت دليلا واضحا على ذلك.
العمق الاستراتيجي: إذن من المحتم أن يذوب لفظ الدفاع في مفهوم العمق الاستراتيجي للبلد وفق المفاهيم العسكرية للحرب الحديثة، والذي يتلخص بـ (وقف التهديد المعادي)، حيث يجب معرفة أن مناورة وحركات القوات العسكرية الدفاعية، هي اخر ما يجب ان تلجا اليه القيادة السياسية للبلد، لكون من يلجا الى اطلاق النار بهدف الدفاع، ويضطر الى الاعتماد على العمل العسكري لدرئ الاخطار، هو من يتعرض للتهديد المعادي، وهو من يضطر لوضع كافة امكانياته المادية والبشرية في حالة استنزاف غير معروفة العواقب، او بمعنى اخر سوف يكون فاقد للعمق الاستراتيجي ومفلس منه، وعليه فلا جدوى من الاعتماد على مفهوم الدفاع في اسس بناء الدولة الحديثة، كونه اسوأ واخطر ما يواجه اية دولة، واكثرها سلبية على التنمية والتقدم والاستقرار، ومن هنا تاتي اهمية العمل وفق مبدأ (العمق الاستراتيجي) كبديل لمفهوم الدفاع بصيغته التقليدية، حيث يتم النظر للعمق الاستراتيجي على أنه (حزمة من مخرجات المشروع السياسي الذي يعتمد على تقنين وتوظيف كافة موارد وامكانيات البلد من اجل وقف التهديد المعادي) واذا كان (السَوق) يعرف على انه (فن تخطيط ومناورة القوى العسكرية للمساهمة في انجاح المشروع السياسي للبلاد) فإن العمق الاستراتيجي يعتبر المفهوم المقابل للسوق، أو بصورة اوضح، اذا كان (السوق) هو واجب القيادة العسكرية لانجاح الارادة السياسية للبلد، فان (العمق الاستراتيجي) هو واجب القيادة السياسية لانجاح الارادة العسكرية للبلد، ومن هنا تاتي اهمية المشروع السياسي وعلاقته بالعمق الاستراتيجي.
المشروع السياسي: يجب أن يكون من واجب صناع القرار تحقيق مشروع سياسي ضمن فترة زمنية معينة، يصب في مفهوم (العمق الاستراتيجي) كمحصلة لمخرجات الإدارة والتخطيط في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، واذا نظرنا الى طبيعة الحرب الحالية وتشابكاتها المحلية والاقليمية والعالمية، يمكننا ان نحدد بعض النقاط المهمة التي يجب ان يستند عليها المشروع السياسي للمرحلة المقبلة، من اجل النهوض بمستوى البلد من كافة النواحي، ومن ثم تحقيق مبدأ العمق الاستراتيجي، ومن اهم تلك النقاط:
• الدبلوماسية الفعالة والسياسة الانفتاحية المتوازنة والمتعددة الابعاد لمواجهة صراعات المحاور.
• تصفير المشاكل المحلية والاقليمية.
• التوازن السليم بين الراي العام والاتجاه العام.
• التنمية.
• التناسق والتماسك الاجتماعي.
• الردع وفرض القانون.
يضاف الى ذلك تطوير عمل القوات الامنية من خلال النظر الى النقاط التالية:
• تشكيل القوات الامنية وتنظيمها وتدريبها واستخدامها وتنظيم انفتاحها.
• تقييم الاخطار والتهديدات واختيار الاسلحة والوسائط.
• طبيعة وحجم القوات وامكانياتها وتوازن عناصرها.
• امكانية العمل المشترك مع قوات صديقة او حليفة.
• علاقة القوات بالسكان.
• التسليح.
ان المشروع السياسي للدولة يحدد القدرة على تحقيق عناصر مستقبلها القريب والبعيد، ليصب اخيرا في مفهوم وقف التهديد المعادي، اما العمق الاستراتيجي فهو يستند اساسا على وجود مشروع سياسي سليم وفعال، يشمل حزمة اجراءات يؤدي اي نقص فيها الى وهن الدولة، وعلى الرغم من انه لا يمكن التوصل الى تقييم حقيقي ومقبول بصدد صحة وواقعية المشروع السياسي، بسبب عدم وجود معايير حقيقية مطلقة يمكن اتخاذها كوحدة للقياس، حيث اعتدنا ان تكون الاراء متاثرة بالخطابات العمومية الهادفة لاستقطاب الراي العام دائما، الا ان نتائج تلك الحزمة من مقررات واجراءات المشروع السياسي، سوف تصب حتما في النتيجة النهائية للحرب، فتكون هي الفيصل في تحديد نجاح او فشل المشروع السياسي للبلد.
المحصلة هي ان العمق الاستراتيجي لا يعتمد على مناورات الدفاع للقوات المسلحة، بقدر ما يعتمد على مجموعة الاجراءات المتناسقة التي تقوم بها الدولة في كافة المجالات ضمن مشروعها السياسي، لدرء الخطر ووقف التهديد المعادي، وهو امر يجب ان يكون منطلقا لمشروع العراق الجديد خلال المرحلة الصعبة المقبلة.