ربطت اميركا نفسها بعلاقات متميزة بإسرائيل منذ تأسيسها. وهي علاقات تتجاوز القواعد والحدود المتعارف عليها بين الدول. من أبرز مظاهر هذه العلاقة التزام أميركا بحماية إسرائيل وأمنها، ومدِّها بمساعدات مالية وعسكرية تجعلها متفوقة عسكريًا على الدول العربية مجتمعة. وفي سنة 2007 أنشأت إدارة الرئيس بوش حزمة مساعدات عسكرية لمدة عشر سنوات بمقدار (30) مليار دولار. وارتفع مقدار هذه الحزمة في عهد الرئيس أوباما الى (38) مليار دولار في سنة 2016.
وعلى المستوى السياسي، استخدمت أميركا نفوذها في الأمم المتحدة وخارجها لتحمي إسرائيل من المساءلة على سياساتها التوسعية، والاعتداءات على الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وانتهاك القوانين الدولية؛ ومن أجل هذا استخدمت أميركا الفيتو في مجلس الأمن أكثر من أربعين مرة، مما جعل إسرائيل دولة فوق القانون.
ولهذه العلاقة وجهٌ آخر بسبب النفوذ اليهودي في أميركا. فاليهود هناك قوةٌ انتخابيةٌ إذ يزيد عددهم على ستة ملايين يتركّزون في المدن الرئيسة مثل نيويورك، ولوس انجلس، وشيكاغو؛ ولهم نفوذ كبير وسيطرة على وسائل الإعلام والمؤسسات المالية، وأصبح لديهم تأثير في الانتخابات المحلية والنيابية والرئاسية، ومن ثَمّ في البيت الأبيض والكونغرس، وفي السياسات الداخلية والخارجية.
حاول باحثون وسياسيون فهمَ هذه العلاقة فوق العادية، وتساءل بعضهم من الذي يتحكّم بالآخر أو يتبعه أميركا أم إسرائيل؟ من هذه الآراء أنّ أميركا ترى في إسرائيل إحدى ولاياتها، أو أنها القاعدة الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهناك من أرجع هذا الانحياز الى عوامل عاطفية وأخلاقية أوجدت تعاطفًا شعبيًا مع اليهود بسبب ما لحق بهم من مظالم في أوروبا، وهناك من أرجعه الى شعور جمعي أميركي بالتشابه بين الكيانين، أميركا وإسرائيل، في النشأة والمسيرة: كلاهما تكوّن من مهاجرين، وأكّد سيادته بالتخلص من السكان الأصليين بالإبادة او الطرد، وانتهج سياسة التوسع على حساب البلدان المجاورة. (سبق لكاتب هذه السطور أنْ لفت الى أنّ المشروع الصهيوني يتفرّد في أنّ التخلص من أهل البلاد كان هدفًا تأسيسيًا سابقًا على الهجرة تجسّد بشعار فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ومن ثَمّ فإنّ القادمين لم يكونوا مهاجرين وإنما جماعات من الغُزاة). وفي المقابل هناك من رأى أنّ اللوبي اليهودي هو الذي يقف وراء الانحياز الأميركي لإسرائيل.
استكمالاً للإجابة يمكن الإشارة الى أنّ الرئيس الأميركي كارتر أرجع تلك العلاقة الى عامل وجداني وأخلاقي لدى الشعب الأميركي؛ فذكر في خطابه في الكنيست الإسرائيلي سنة 1979 أنّ علاقة أميركا بإسرائيل أكثر من خاصة، وأنها علاقة فريدة لأنها متأصِّلة في ضمير الشعب الأميركي، وفي أخلاقه ومعتقداته، “لقد أقام في كل من إسرائيل والولايات المتحدة مهاجرون رُوّاد، ثُم إننا نتقاسم معكم تراث التوراة”.
أمّا من جانب إسرائيل، فجاءَت إجابة على لسان شارون عندما كان رئيسًا للوزراء حيث أرجع الانحياز الأميركي الى عوامل ماديّة تتلخص في نفوذ اليهود في أميركا على المستوى المحلي، وعلى مستوى مصالح أميركا وسياساتها في الشرق الأوسط؛ فذكر في الاجتماع الوزاري الأمني المصغَّرفي سنة 2001 أنَّ الشعب اليهودي يسيطر على أميركا والأميركيون يعرفون ذلك، ويستحيل تنفيذ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بدون موافقة اليهود الأميركيين، فهم يتحكمون بوسائل الإعلام، وبأعضاء الكونغرس؛ وسفارة تل أبيب في واشنطن هي التي تُملي أجندتها على الكونغرس عن طريق اليهود الأثرياء في أميركا (زهير اندراوس، راي اليوم، 29 ديسمبر 2016).
وقد اخذت هذه العلاقة بعدًا جديدًا عندما انتقلت السياسة الأميركية من دعم إسرائيل وحمايتها الى إضعاف الدول العربية بالعدوان المباشر عليها أو بإشعال الفتن والحروب الداخلية لتدمير الوحدة السياسية والاجتماعية لشعوبها. ولم تكن هذه السياسة من أجل المصالح الأميركية في المنطقة، فهذه كانت ولا تزال بمنأى عن أي تهديد، وإنما وُضِعت من أجل تصعيد وضعيّة إسرائيل من الوجود الآمن الى التوسع والهيمنة على المنطقة.
بدأ ذلك في العراق فجرى تدميرُه واحتلاله وتقسيمه الى كيانات مذهبيّة وعرقيّة. تلا ذلك الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006 للقضاء على المقاومة مجسّدة بحزب الله. وفي أثناء العدوان أعادت كونداليزا رايس وزيرة خارجية أميركا ما كانت ذكرته سابقًا بأن أميركا تعتزم نشرَ الديمقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل شرق أوسط جديد عن طريق نشر الفوضى الخلاّقة. وفي العام نفسه نشر الضابط الأميركي السابق (رالف بيترز) مقالاً في مجلة الجيش الأميركي بعنوان حدود الدمBlood Borders دعا فيه الى تقسيم “الشرق الأوسط” الى كيانات طائفية، وقال إن إعادة رسم الحدود بحسب الخريطة المرفقة بالمقال سوف تقدّم حلاً جذريًا لمشاكل الشرق الأوسط.
وتتابعت فصول المشروع بمسميات مختلفة، وحشدتْ أميركا لهذا الغرض دولاً أوروبية وإقليميّة عملت بصورة مكشوفة على تجنيد المقاتلين المحليّين والأجانب، تحت رايات دينيّة ومذهبيّة إسلاميّة، الذين مارسوا أبشع أنواع القتل والهمجيّة لتدمير الدولة وتمزيق المجتمع كما تجسّد ذلك في ليبيا وسورية وغيرهما.
أصبح من الواضح أنّ هذه الطروحات والاعتداءات والفتن ما هي إلاّ تطبيقٌ لمخطط أساسيّ أعدّه برنارد لويس (1916 – 2018) وأصبح يُعرف بمشروع الشرق الوسط الكبير (لكثرة الدول العربية والإسلامية التي يشملها) أو الشرق الأوسط الجديد (إشارة الى ما سيظهر في هذه المنطقة من كيانات جديدة). برنارد لويس مستشرق يهودي – صهيوني أميركي الجنسية من أصل بريطاني؛ عُرفَ عنه عداؤه الشديد للعرب والإسلام. ويتضمن مشروعه تقسيم كل دولة في العالم العربي والإسلامي الى مجموعة من الدويلات العرقيّة والدينيّة والمذهبيّة، والهدف منه تثبيت شرعيّة إسرائيل دولةً قوميةً لليهود، وفرض هيمنتها على تلك الدويلات الهشة لمدة نصف قرن بحسب تعبيره. وقد أرفق بالمشروع خريطة تظهر عليها الكيانات الجديدة وقدَّمه الى الإدارة الأميركية، ووافق عليه الكونغرس بالإجماع في جلسة سريّة سنة 1993، وأُدرِج المشروع في برنامج السياسة الأميركية للسنوات اللاحقة.
وعلى هذا، يمكن أنْ تُعزى الى هذه المخططات، سياسة أميركا تحت رئاسة ترامب خصوصًا أنّه يدفع العلاقة مع إسرائيل الى مستويات جديدة، ويعمل لجعل وضعية إسرائيل في المنطقة تنتقل من الهيمنة والسيطرة الى تحالف إقليمي بمسمّى “صفقة القرن” تنخرط فيه الدول العربية وتتجاوز التطبيع الى التحالف مع إسرائيل.
ومع ذلك يظلّ السؤال قائمًا عن الدافع الكامن وراء هذه المخططات والانحيازات وأصحابها. ويبدو أنّ التفسير الأكثر ترجيحًا لهذه الحالة الفريدة هو الذي يُرجعُها الى الإيديولوجيا التي تحرِّك الأفراد والجماعات والقوى السياسية. وقد تبلورت هذه الإيديولوجيا من اندماج الدين بالسياسة في أميركا وظهور “اليمين المسيحي الجديد”، أي الإنجيليّين المتشدِّدين، الذين أخذوا يمارسون السياسة وفق التفسيرات التوراتيّة منذ سبعينيّات القرن العشرين، وأصبحوا قوةً سياسية وكتلةً انتخابية مؤثرة. وهم الذين أوصلوا ترامب ومن قبله بوش الى الرئاسة.
ويبدو أنّ ذلك بدأ مع الرئيس جيمي كارتر (1976 – 1980) (كارتر من الكنيسة المعمدانيّة، إحدى الكنائس البروتستانتيّة وتضم نحو 34 مليون عضوٍ بحسب بعض المصادر، ويَعدُّالإنجيليّون نحو مئة مليون). تقول جوليا كوربت و مايكل كوربت في كتابهما “الدين والسياسة في أميركا” إنّ التقاء الدين بالسياسة في نقطة ما أدى الى ظهور اليمين المسيحي الجديد الذي بدأ في سبعينيّات القرن العشرين مع صعود جيمي كارتر. ويقول تشومسكي إنه لم يكن على أي رئيس أميركي قبل كارتر الادّعاء بأنه متعصِّب دينيًا لكن الجميع صاروا كذلك منذ ذلك الوقت (دنيا الوطن، 28 – 12 – 2015).
غير أن هناك من يرى أنّ هذا التلاقي بين الدين والسياسة في أميركا الذي برز في مطلع السبعينيّات كان نتيجة تطوّر الصهيونية المسيحية من حركة دينية إيمانية الى حركة دينية سياسية، التقت آنذاك مع الحركة الصهيونية التي نشطت بعد حرب 1967، وأصبح لحركة “اليمين المسيحي الجديد” تأثير كبير في السياسة الخارجية الأميركية والإدارات المتعاقبة.
جاء هذا الاستنتاج في مقاربة الكاتب المصري سمير مرقس لما يُسمّيها “الصهيونية المسيحية”، حيث يرى أنها العنصر الحاسم في علاقة أميركا الفريدة بإسرائيل، وتنسحب على الصراع العربي – الإسرائيلي، والانحياز الأميركي الذي يجسّده الآن الرئيس ترامب.
تجدر الملاحظة هنا أنّ رؤية مرقس يمكن أنْ تُعدَّ “نمودجَا لفئة من المثقفين المصريين، وذلك في مقابل “نموذج يوسف زيدان” الذي تغيب الصهيونية تمامًا في رؤيته للصراع حيث يراه صراعًا وهميًا، ويحصر حديثه باليهود وما تعرضّوا له من مظالم وبحقوقهم في فلسطين وخصوصًا في مدينة القدس؛ و”نموذج عبد المنعم سعيد” الذي يرى في العلاقة مع إسرائيل مصلحةً إستراتيجيّة لمصر؛ وكلاهما ينسجم مع توجّهات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
لم يتوقف مرقس عند الإنجيليّين الأصوليّين في الولايات المتحدة، وإنمّا بحث في جذور الفكرة والحركة، وتتبّعَ مسارَها وتطوَّرَها من تعصّبٍ ديني نشأ في أوروبا، الى حركة دينية سياسية، وصولًا الى ما نراه اليوم في الولايات المتحدة من تعصّب لإسرائيل كان آخر مظاهره الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل.
يقول مرقس إنّ القصة بدأت من أوروبا بواسطة الطُهريّين puritans (ظهروا في إنجلترا في القرن السادس عشر) وهم التيّار الأكثر تشدّدًا في البروتستانت. فقد تماهوا مع الإسرائيليين القدامى واعتقدوا بأن التوراة كلمةُ الله المعصومة وعمّدوا أولادهم بأسماء عبرية وقدّسوا يوم السبت وأدخلوا اللغة العبرية في الكنائس والمدارس ونسيج الحياة اليومية. ووصفوا بريطانيا في عهد كرومويل (1649 – 1658) بِ “إسرائيل البريطانية وصهيون الإنجليزية، ووصفوا أنفسهم بأبناء إسرائيل. ثم بدأ الترويج لدعوة “إحياء الساميّة” ومضمونها التعاطف مع اليهود والأمل في تحقيق نبوءة عودة اليهود الى فلسطين. وفي سبيل هذه الدعوة عملوا على جعل الحكومات تقبل فكرة استعادة اليهود لفلسطين، وإقناع الطلبة والباحثين بأنّ كلمة إسرائيل تعني كل الجماعات اليهودية في العالم، وتثبيت الاعتقاد بارتباط نهاية العالم بعودة المسيح المرتبطة بدورها بعودة اليهود الى فلسطين.
كان الطهريّون من ضمن الذين هاجروا الى أميركا وحملوا معهم قناعاتهم، ورأوا في القارّة الجديدة “إسرائيل الجديدة”، وأعطوا أبناءَهم والمستوطنات التي أقاموها هناك أسماءَ عبرانية ، وفرضوا اللغة العبرية في مدارسهم حتى إنّ أوّل دكتوراه منحتها جامعة هارفارد سنة 1642 كانت بعنوان “اللغة العبرية هي اللغة الأُمّ”.
كان لهذا التوجّه تأثيرُه في الثقافة الأميركية، فنمت الطُهريّة المبكِّرة في أميركا ومنها خرجت الصهيونيّة الدينيّة ثم الصهيونيّة السياسيّة مثلما كان الأمر في أوروبا.
فقد كان من الطبيعي أنْ تتطوّر الدعوة الإيمانية الى نشاط سياسيٍّ يهدف الى تحقيقها، وتتطوّر بذلك الصهيونيّة الدينيّة الى صهيونيّة سياسيّة. وقد بدأ ذلك في أنجلترا، بلد المنشأ، حيث أخذ سياسيون ينخرطون في الدعوة الى عودة اليهود الى فلسطين وتأسيس مملكة تمهِّد لعودة المسيح.
ولم تكن أميركا بعيدة عمّا يجري في أوروبا؛ فبدأت الصهيونية الدينية تنحو نحوَ السياسة منذ بدايات القرن التاسع عشر وتقول إن اليهود شعب الله المختار، وتوظِّف النصَّ الديني سياسيًا لتأسيس كيان قومي ديني سياسي لليهود يمهِّد لعودة المسيح “ملكًا” يحكم لمدة ألف عام. وفي سبيل ذلك تكوّنت منظمات تمارس دورًا سياسيًا وتشريعيًا واجتماعيًا، يَعُدُّ أعضاؤها أنفسَهم صهيونيّين ويرون الوقوفَ ضد إسرائيل معارضةً لله. وبلغ عدد هذه المنظمات (300) منظمة في سنة2001 حين تولّى بوش الإبن الرئاسة بفضل هذه الكتلة التصويتيّة الدينيّة. وكان لهذه المنظّمات دورٌ كبير في صياغة التشريع الخاص بنقل السفارة الأميركية الى القدس واعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل الذي أقرَّه الكونغرس بصبغة دينيّة، حيث نصَّ في ديباجته على أنّ مدينة القدس هي المركز الروحيُّ لليهوديّة، وتُعدُّ مدينةً مقدّسةً للمنتسبين الى معتقدات دينيّة أخرى. والرئيس ترامب نفّذ هذا القانون وفاءً لهذه المنظمات التي أوصلته الى سُدَّة الرئاسة وجعل الطروحات السياسيّة تتلاقى مع التفسيرات الدينيّة.
لقد كان بإمكان ترامب تأجيل تنفيذ القانون المذكور كما فعل من سبقه من الرؤساء؛ ولكنّه لم يقف عند قراره بتنفيذ القانون، وإنما اتبّع سياسة واتخّذ إجراءات ومواقف تؤكد أنّ العامل الديني أصبح فاعلاً وظاهرًا في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي، وأنَّ رؤى الصهيونية المسيحية تهيمن على ترامب وإدارته.
ليس خافيًا أنّ ترامب شخصية عنصرية لا يُخفي عداءًه للإسلام والعرب ولشعوبٍ أخرى. وهو تحلّلَ من الالتزامات التي أبرمها سلفه الرئيس أوباما (أسود البشرة) على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ فألغى برنامج الرعاية الصحية (أوباما كير)، وانسحب من اتفاقيات: الشراكة عبر المحيط الهادي، واتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي مع إيران.
ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل والفلسطينيين فإن ترامب لا يتهيّب من إلباس سلوكه لباسًا دينيًا صهيونيًا. فقد بدأ بتعيين ديفيد فريدمان سفيرًا له في إسرائيل (آذار/مارس 2017)؛ وفريدمان يهودي متعصِّبٌ صهيونيًا ومؤيد للاستطان اليهودي، لدرجة أنه طلب من وزارة خارجية دولته أن لا تستخدم صفةَ محتلة عند ذكر الضفة الغربية (الشرق الأوسط، 27-12-2017)؛ وانتقد جريدة هآرتس الإسرائيلية لأنها دعت الى الحدّ من الاستيطان في الضفة الغربية(راي اليوم، 9-2-2018).
وزار ترامب إسرائيل في شهر أيار/ مايو 2017، وارتدى الطاقية اليهودية “الكيباه”، ووقف أمام ما يسمّيه اليهود حائط المبكى في سور المسجد الأقصى، وهو بذلك أول رئيس يزور هذا الموقع. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2017 أعلن اعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وقرّر نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس. وفي تعمّد لإغاضة العرب والمسلمين أعلن أنه سيشارك في افتتاح السفارة، ثم أوفد ابنتَه وزوجَها كوشنير لتأدية هذه المهمة في 14 أيار/ مايو 2018 الذي يصادف مرور(70) سنة على قيام إسرائيل، ونكبة الفلسطينيين والعرب.
وفي كانون الثاني / يناير 2018 زار مايك بَنس نائب ترامب إسرائيل، وألقى في الكنيست خطابًا بدا فيه وكأنه يتحدث باسم الإنجيليّين الذين ينتمي اليهم، وليس بصفته نائبًا لرئيس الدولة التي يمثِّلها. فخاطبَ الإسرائيليين على أنهم أهل الكتاب، والشعب الذي استطاع أن يعود الى أرضه بعد آلاف السنين، وقال: نحن نقف مع إسرائيل لأن قضيَتَها هي قضيتُنا، وقيمكم هي قيمنا، ومعركتم هي كفاحنا، والإرهاب الإسلامي يستهدف أميركا وإسرائيل، معجزة إسرائيل مصدرً إلهامٍ للعالم، والولايات المتحدة تفخر بالوقوف مع إسرائيل.
ويظهر تعصّب ترامب وانحيازه لإسرائيل على أكثر من صعيد. ففي قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، أعلن عزمه على وضع حلٍّ نهائيٍ لهذا الصراع بصفقة أسماها “صفقة القرن” (يُقال إنها أُعدّت بالتشاور مع السعودية ومصر والإمارات) واتضَّح أنها لتصفية القضية الفلسطينية. فقبل أنْ تُعرفَ تفاصيلها استبعد ترامب مدينة القدس وحق العودة للاجئين من أي مفاوضات للحل النهائي، مع الاعتراف بإسرائيل وطنًا قوميًا للشعب اليهودي. والقضية الفلسطينية في جوهرها هي قضية اللاجئين، أي الأرضُ التي استولى عليها الغزاة، وأهلُها الذين شُرِّدوا وأصبحوا لاجئين.
وعهِدَ ترامب بمتابعة تنفيذ هذه الصفقة/ الحلّ الى مستشاره جاريد كوشنير وهو يهودي وزوج ابنته، وجايسون غرينبلات مبعوثه الى الشرق الأوسط وهو يهودي أصولي لا يظهرإلاّ مرتديًا الطاقية اليهودية.
وعلى المستوى الدولي، يتجلّى انحياز ترامب وتعصُّبه لإسرائيل في تطوّر موقف أميركا في المنظمات والهيئات الأممية، من منع إدانة إسرائيل الى إدانة منتقديها. لقد كانت أميركا تستخدم نفوذها في هذه الهيئات بما في ذلك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، لمنع صدور قرارات تُدين إسرائيل على ما ترتكبه من اعتداءات وجرائمَ بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم. أمّا في عهد ترامب فقد أصبح موقف أميركا هو التهجُّم على من ينتقد إسرائيل. ويُلاحظ أنّ العبارات التي يستخدمها مندوبو أميركا في مجلس الأمن، والجمعية العامة، وغيرها من المنظمات والهيئات التابعة للأمم المتحدة، تعجُّ بألفاظ الإهانة والإدانة لمن يوجِّه اللوم أو الانتقاد الى إسرائيل وكأنه يرتكب إثمًا يستوجب العقاب. وتأكيدًا لذلك انسحبت أميركا من منظمة اليونسكو(تشرين الأول/ أكتوبر 2017)، ومن مجلس حقوق الإنسان (حزيران/ يونيو 2018) بذريعة أنها تُسيء الى إسرائيل؛ وتهدِّد بالانسحاب من منظمات أخرى للسبب نفسه.
لقد جعلت أميركا من إسرائيل ذاتًا مقدَّسة لا يجوز الإساءة إليها. وهي في هذا لا تختلف عن جماعات التطرّف الإسلامية التي تدعو الى معاقبة من يمسُّ ثوابت الدين، أو الذات الإلهيّة. وقد صدقت جريدة الغارديان البريطانية في وصفها ترامب بالخليفة Trump’s American Caliphate (18-6-2018).
وهكذا، فإنّ إدارة ترامب تجسيدٌ حيٌّ للصهيونية المسيحية ورؤاها في ما يتعلق بإسرائيل وعودة المسيح. ومن أجل تحقيق هذه الرؤى يعمل ترامب على تحويل وضعية إسرائيل في المنطقة من دولة تحت الحماية الأميركية الى دولة يهودية شرعية ومركزية في تحالف إسرائيلي – عربي. وهو ما يقتضي تصفية القضية الفلسطينية بخطةٍ شاملة أسماها صفقة القرن.
وعلى المستوى الدولي يعمل ترامب على تحويل موقف أميركا من الدفاع عن دولة إسرائيل في صراعها مع جيرانها، الى إدانة من ينتقد إسرائيل ذات المكانة الخاصة المهيأة لاستقبال المسيح.
والسياسة عندما تندمج بالدين يصبح من الصعب ضبطها وهدايتها أو تحديد نهاياتها. وإدارة ترامب بهذه الطبيعة ترى في الفلسطينيين ومن يؤيدهم في قضيتهم أشرارًا يعارضون الله.
ويفرض هذا الواقع على الفلسطينين ومن معهم في تيّار المقاومة أحد خيارين: إمّا السكينة والخضوع لمشيئة إسرائيل، وإمّا الدفاع عن النفس والوجود والقضية العادلة. والخيار الثاني الذي يبدو حتميًّا، مهمة صعبة لأن الخصم وهو الدولة الأقوى في العالم يزعم أنه يمثِّل إرادة الله.