في كل عام يكثر الحديث وتكثر الكتابات عما يحيط بشهر رمضان من ممارسات وسلوكيات ومفاهيم خاطئة؛ لكن الأزمنة والقرون تتوالى دون أي تغيير أو تعديل أو تجاوز في ممارسات وسلوكيات المجتمعات والبشر. يظل الزمن واقفاً، وتستعصي العادات على المنطق وعلى دروس التقدم الحضاري.
يبدأ ذلك المشهد بالاختلاف حول بداية الشهر: أيعتمد على رؤية الهلال أم يستفاد من حسابات العلوم الفلكية المعتمدة على العلم ومنطق الحساب الصارم ودقة أجهزة المراقبة من الأرض وخارج الأرض؟ ويتسابق الفقهاء في تحديد هذا اليوم أو ذاك وهم الذين أغلبيتهم الساحقة لا يعرفون شيئاً عن علوم الفلك البالغة التطور.
ثم يأتي فهم الإنسان المسلم العادي لموضوع الصيام برمته: أهو مناسبة هدوء روحي وصفاء نفس أم هو مناسبة صخب فولكلوري في المطاعم والشوارع والمجالس حتى ساعات الصباح الباكر؟ أهو تذكير للإنسان بما يفعله الجوع بالفقراء والمعوزين والإخوة في الإنسانية؟، أم هو مناسبة للتخمة والابتذال في التبذير وعدم إغلاق الفم طيلة الليل؟هل أمسيات هذا الشهر هي للاقتراب أكثر من خالق الكون من خلال العبادة الواعية المستوعبة للمقاصد الإلهية من هذا الخلق، ومن خلال بناء الإرادة الواعية لتصحيح الضعف الإنساني وشهوات الجسد والنفس والعقل، أم أنها أمسيات لرؤية مسلسلات تلفزيونية بالغة السوء في مستوياتها الثقافية والفنية وللانبهار بسيل من الإعلانات الصاخبة الكاذبة المتلاعبة بالذوق وبالسلوك وبالذهن؟
ثم ماذا عن انتهازية تلاوة القرآن خلال رمضان بسرعات جنونية، دون فهم ولا تمعن، وليس قراءته بهدوء واستيعاب ووعي، ثم إهماله جانباً بقية السنة؟ أضف إلى ذلك الألوف من الأسئلة التفصيلية العبثية التي يسألها الناس عما يخدش الصيام، بما يظهر إلى أي مدى تنقلب هذه المناسبة إلى مخاوف لا مبرر لها وإلى رعب متزمت متخلف.
وفي المحصلة يشعر الإنسان بأن الوعي الجمعي لمعاني وأهداف هذا الشهر في المجتمعات الإسلامية يبتره عن باقي الشهور. لكأن الشعور ببؤس الآخرين ومساعدة الجياع والقيام بالشعائر الدينية الحقة الصادقة ليس ضرورياً للإنسان المسلم إلا في شهر الصيام، وبعدها يعود الإنسان إلى حياة وممارسات وسلوكيات آسنة.
التعامل مع شهر رمضان، الذي يعيد نفسه سنة بعد سنة وقرناً بعد قرن، هو مماثل للتعامل مع مواضيع السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في بلاد العرب. إنه مغالبة لتطور الأزمنة وتبدل الظروف واكتشافات المعرفة والعلوم.
نحن أمام ظاهرة متجذرة عصية، بالرغم من أن أسبابها الكثيرة قد درست باستفاضة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالرغم من أن مكامن الخلل قد أشير إليها في آلاف الكتب، وبالرغم من أن الحلول المعقولة قد اقترحت؛ بل وأنها نجحت في كثير من المجتمعات الأخرى وأصبحت تجارب إنسانية ماثلة أمامنا.
لا يمكن أن يكون الخلل في الدين، فهو دين عقلاني، يرفض أن يبقى الناس على دين آبائهم دون تفكر ومراجعة وتجديد، ويحث على إعمار الحياة وحمل المسؤولية نحو الأرض ومن عليها، ويثور على الظلم والاستغلال الأناني الجشع.
لا يمكن أن يكون الخلل في العقل العربي، فقد أثبتت الدراسات الكثيرة أنه عقل نقدي وجدلي يمارس النظرة الشمولية، وله إرث فكري تاريخي يشهد على ذلك.
إذن فالقضية تكمن في مكان آخر: إنها تكمن في النشأة الأسرية، وفي التعليم المتخلف، وفي الاستبداد المدمر للشخصية السوية، وفي تكالب الإحن والمحن الخارجية على مقدراته وحريته وكرامته الإنسانية، وفي فقهاء الدين المتزمتين المتخلفين في قراءاتهم للنصوص الدينية، وفي الاقتصاد الريعي الذي جعل من الناس رعايا مقلدين بدلاً من كونهم مواطنين أحراراً مستقلين وفاعلين.
وحتى عندما ينجح الإنسان العربي في أن يثور على كل ذلك وينتقل إلى نظام جديد ليعيد له توازنه وشعوره بالكرامة وقدرته على الاستقلالية في الفكر، تتكالب عليه قوى الشر لتمنعه. وخير مثال هو ما حدث في تونس. فما أن نجح المواطنون في تونس في الخروج من أوضاعهم السيئة السابقة حتى تكالب على مجتمعهم إرهابيون يرتبطون بالاستخبارات والمصالح الخارجية والداخلية ليدمروا السياحة ويطردوا الاستثمارات ويمنعوا بالتالي النمو الاقتصادي في ذلك البلد. إنها حلقة في سلسلة من الحقارات والمؤامرات التي لا تريد للإنسان العربي أن يخرج من حالات التخلف الحضاري التي يعيشها.
يسأل الإنسان نفسه: هل هذا الإنسان العربي، الذي ما إن يخرج من محنة إلا ويدخل في محنة أخرى، سيكون لديه الوقت والجهد ليفكر في تعديل مسارات سلوكياته وعاداته، كما هو الحال بالنسبة لشهر رمضان؟ إن المجتمعات البشرية قد تغيرت إما من خلال ثورات جذرية عاتية أو من خلال سلام مجتمعي طويل الأمد.
بالنسبة للإنسان العربي لم تمر مجتمعاته في أي من الحالتين؛ ولذا يبقى واقفاً متعباً أمام تحرك الأزمنة.