كيفية العودة للملكية الدستورية
أولاً: الملكية الدستورية تقوم على الفصل بين المُلْك وبين سلطة الحكم:
يقصد بالملكية الدستورية في معناها المستقر في العالم، الدولة التي يأخذ دستورها بالنظام البرلماني (أي النيابي) ويرأسها ملك، بحيث تفْصِل نصوص هذا الدستور بين السلطة والمُلْك. بعبارة أخرى، فإنه يشترط لقيام الملكية الدستورية،
وجود رئيس دولة يملك ولا يحكم، وإنما الذي يحكم هو مجلس تشريعي منتخب من الشعب، تنبثق عنه حكومة تحصل على ثقته من أجل أن يكون وجودها وممارستها لسلطاتها وجوداً وممارسة دستورية، وذلك تجسيداً لمبدأ أن الشعب هو مصدر السلطة. ولمزيد من التوضيح، نقول ما يلي:
1. منذ أواخر القرن الثامن عشر، أخذ مبدأ الشعب مصدر السلطة، يظهر في التطبيق لدى بعض دول أوروبا، بعد أن ساد ما طرحه بشأنه فلاسفة العقد الاجتماعي خلال ما يقارب القرنين، فاعتنقته شعوب أوروبا واقتنعت به، وناضلت وبذلت الدماء حتى تم تعميده وتطبيقه في دساتيرها. وكانت أقدم الدول في تطبيقه دولة بريطانيا، حيث عمد دستورها المبدأ على نحوٍ واضح، خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتكامل بهذا المبدأ، النظام البرلماني الذي صدرته بريطانيا إلى العالم، فأخذت به الملكيات الأوروبية تباعاً، واقتبسه الأردن في دستوره لعام 1952، من خلال الاقتداء بالدستور البلجيكي لعام 1921. وما أخذت به الملكيات البرلمانية، واقتبسناه منها، هو الذي تطلق عليه الطروحات في الأردن "الملكية الدستورية".
2. وما دام النظام البرلماني الذي يستند إلى مبدأ الشعب مصدر السلطة، قد نشأ وتكامل في ظل الملكيات الأوروبية، فإن السؤال الذي يثور هو، كيف أمكن التوفيق بين مبدأ الشعب مصدر السلطة وبين النظام الملكي الذي يقوم على توارث المُلك؟ وفقاً للمفاهيم المستقرة في الفكر الدستوري والسياسي الآن، فإن الذي يحكم يمارس بالضرورة سلطة، والسلطة مصدرها الشعب ويمارسها نيابة عنه مجلس ينتخبه لهذه الممارسة، فإذا كان الملك يتولى موقعه بالوراثة وليس بانتخابٍ من الشعب، فما هو دور الملك إذن، وهل يحكم ويمارس سلطة؟ إن الجواب له أهمية خاصة في الأردن الآن، يفرضها واقع الحديث عن الملكية الدستورية.
3. هذا السؤال واجهته بريطانيا خلال فترة جورج الثالث (حكم من عام 1760 حتى 1820)، ووضعت إجابة عليه بكل صراحة ووضوح في تلك الفترة الزمنية المبكرة، عندما فصلت بين الملْك وممارسة السلطة، واعتنقت مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية. وبموجب هذا الفصل، أصبحت السلطة للشعب، يمارسها من خلال مجلس نيابي منتخب، تنبثق عنه حكومة يشكلها حزب الأغلبية في المجلس، ويكون القضاء والرأي العام رقيباً على السلطتين معاً. وما دامت السلطة هي للشعب ومن ينتخبه الشعب لتمثيله، وكان الملك يتولى منصبه بالوراثة، فلم يعد الملك يمارس سلطة، ومن ثم فقد أصبح مُعفى من أي تبعة أو مسؤولية. بعبارة أخرى، فحيث أن من يمارس سلطة يصيب ويخطئ وبالتالي يخضع للمساءلة إن أخطأ، وبالنظر إلى أن الملك لا يمارس سلطة، فإنه لا يُتصور أن يصدر منه خطأ حتى يسأل عنه. ومن أجل ذلك، فقد أوجدت بريطانيا نصاً في قانونها العقابي يُجرّم من يمس الملك، وأصبحت هذه الجريمة تسمى في الدول الأخرى، جريمة إطالة اللسان. وقد حدث أن مارس السلطة بعض رؤساء دول النظام البرلماني، فوجهت الصحافة نقداً مريراً لهم، ولم يطبق نص حماية الرئيس بجريمة إطالة اللسان، لافتقاد شرط تطبيقه على الصحافة وهو عدم ممارسة السلطة. وانطلاقاً من أن الذي يتحمل المسؤولية أمام الشعب وأمام البرلمان هي الحكومة، فقد تكامل مع ذلك، قاعدة أن أوامر الملك الخطية والشفوية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم، لكن هذه الأوامر ليست بالضرورة ملزمة. والسبب أن الوزير هو المسؤول وليس الملك، ومن ثم فإن هذا الوزير إن وجد في أوامر الملك ما يخالف الدستور أو المصلحة العامة، السياسية أو المالية أو غير مناسب لعمل وزارته، يكون عليه أن ينبّه الملك إلى ذلك، فإن أصرّ الملك على أمره، يكون من حق الوزير أن لا يستجيب، إذ لا يوجد نظام قانوني في هذا العالم، يجبر الوزير على مخالفة الدستور أو المصلحة العامة في وطنه، وتعريض نفسه للمسؤولية الجزائية أو المدنية.
4. وفي مقابل ما سبق، فقد وضع النظام البرلماني حقوقاً للملك تتمثل في اعتباره رئيساً ورمزاً للدولة، والقائد الأعلى لقواتها المسلحة، وجعل أحكام القضاء والقوانين تصدر باسمه، كما أعطاه عدداً من الصلاحيات التي تتمثل في توقيعه على ما يقرره مجلس الوزراء، وبهذا التوقيع يصبح الملك ممارساً لصلاحياته من خلال وزراءه. ومن هذه الصلاحيات، إعلان الحرب، وعقد الصلح، وإبرام المعاهدات والاتفاقيات، ودعوة مجلس الأمة للانعقاد، والمصادقة على القوانين، وحل المجلس التشريعي، والدعوة إلى الانتخاب العام، وإنشاء الرتب والألقاب، وإصدار العفو الخاص... الخ. وعلى سبيل المثال، فإن هذه الصلاحيات ينص عليها بشكل متطابق، كل من الدستور البلجيكي والهولندي والأسباني، والمدونة الفقهية لأحكام الدستور الإنجليزي التي وضعت تلك الأحكام على شكل نصوص. ووفقاً للدساتير المذكورة، فإن القرار الذي يوقع عليه الملك في جميع هذه الصلاحيات، ينبغي أن يتخذه مجلس الوزراء أو رئيس الوزراء والوزير المختص، وبعد ذلك يوقعه الملك بالموافقة عليه. وهنا ينبغي التأكيد على أن خلو القرار من توقيع رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين، يجعل القرار مخالفاً للدستور وفاقداً قيمته، حتى ولو وقع عليه الملك.
5. بالإضافة إلى ما سبق، فإن دساتير النظام البرلماني تنص على حق الملك في تكليف شخص بتأليف الحكومة، ليتقدم إلى المجلس المنتخب من الشعب بطلب الثقة، لكن هذا الحق في الديمقراطيات البرلمانية، يقيده واقع لا يستطيع الملك أن يخرج عليه، وهو، ضرورة أن يكلف بتشكيل الحكومة رئيس حزب الأغلبية أو رئيس ائتلاف الأغلبية في المجلس الذي انتخبه الشعب. وهذا الأمر الذي يفرضه الواقع على الملك، ينطلق من أن تكليف أي شخص آخر غير الرئيس المذكور، لن توافق عليه الأغلبية، ولن يحصل على ثقة الشعب، ومن ثم فلا يجد الملك أمامه سوى تكليف رئيس الأغلبية بالتشكيل الوزاري.
6. وهنا ينبغي التأكيد على أنه ارتبط بنشوء النظام البرلماني، نشوء النظام الحزبي، حيث يقدم كل حزب إلى الشعب برنامجه الذي سيطبقه إن فاز بأغلبية المقاعد البرلمانية وشكل الحكومة. ففي بريطانيا التي صدرت النظام البرلماني للعالم، نجد أن النظام الحزبي تكامل مع تكامل النظام البرلماني. ففي عام 1770، تضامن الحزبان القائمان في ذلك الوقت، حزب الأحرار وحزب المحافظين، للتأكيد على الملك جورج الثالث بضرورة تشكيل الحكومة من حزب الأغلبية وأن يمارس حزب الأقلية دور المعارضة، وانطلاقاً من مبدأ الشعب مصدر السلطة يمارسها من خلال نوابه في البرلمان، خيّرا الملك بين القبول بالقواعد السابقة التي تقوم على الفصل بين السلطة والمُلْك، وبين إمكانية تغيير الملك مع كل انتخابات برلمانية، إن أراد أن يجمع بين المُلْك والسلطة، فأخذ الملك بالخيار الأول، ووافق على ما أراده الحزبان، واستقر النظام البرلماني على النحو الذي سبق ذكره. وهنا يُلاحظ، أنه في الدول البادئة بالأخذ بالنظام البرلماني، في أعقاب نظام حكم مطلق لا يقبل بأحزاب أو رأي آخر، فإن هذه الدول، في الوقت الذي تسارع فيه بوضع قوانين أحزاب وانتخاب وحريات للوصول إلى تناوب أحزاب على السلطة، فإنها تضع في دساتيرها نصوصاً تجعل القول الفصل في اختيار رئيس الحكومة قبل تكليفه رسمياً من الملك، للبرلمان الذي يجسد إرادة الشعب. وخير مثال على ذلك، ما أخذت به أسبانيا عندما صدر دستورها البرلماني عام 1978، بعد رحيل الجنرال الدكتاتور فرانكو، وتولي الملك خوان كارلوس عرش أسبانيا. وخلال عقد من الزمان، وبفضل ما هو متاح من حريات، نمت الأحزاب في أسبانيا ووصلت إلى مرحلة التناوب على الحكم، وسهلت الأمر على الملك والبرلمان معاً، وأصبح رئيس حزب الأغلبية هو الذي يكلفه الملك بتشكيل الحكومة.
7. إن أول مادة في الدستور الأردني تنص على أن نظام الحكم في الأردن هو نيابي (أي برلماني) ملكي وراثي. ومن يتفحص صلاحيات الملك المنصوص عليها في الدستور الأردني، يجد أن نصوص هذا الدستور متطابقة بحروفها وكلماتها وجُملها، مع دساتير النظام البرلماني في دول أوروبا، ومنها تلك التي تأخذ بالنظام الملكي ويطلق عليها الملكيات الدستورية. ورغم التعديلات التي جرت على الدستور الأردني حتى الآن، فإن هذه التعديلات لم تُزد أو تُنقص من صلاحيات الملك، وظلت تلك الصلاحيات متطابقة مع صلاحيات ملوك أوروبا الذين يرأسون ملكيات دستورية، إذ أن أي تعديل على تلك الصلاحيات بالزيادة أو النقص تؤدي إلى اختلال في توازن النظام البرلماني.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، ما دام أن دولة الأردن، في ضوء ما أسلفنا، ملكية دستورية على وجه القطع، واقتبسنا دستورنا عن دساتير الملكيات الدستورية في أوروبا، فلماذا اختلف الحال عندنا عن حال الدول التي أخذنا بذات نصوص دساتيرها، واختل واقعنا السياسي والدستوري والإداري، وخضعت الحقوق والحريات عندنا لقيود لا تقبل بها أية دولة من دول الملكيات الدستورية؟
ثانياً: دور الحكومة الخفية في تحويل الملكية الدستورية إلى سلطة مطلقة:
إن أساس المشكلة التي يعاني منها الواقع السياسي والدستوري في الأردن، وتجري مطالبات الإصلاح حولها، تعود إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أنه أجري على الدستور الأردني (28) تعديلاً كانت جميعها لزيادة سلطة الحكومات على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، فأدى ذلك إلى اختلال التوازن في الدستور، وبالتالي تمكين الحكومات والأجهزة الظاهرة والخفية من التغوّل على السلطتين المذكورتين وعلى حقوق الناس وحرياتهم.
الأمر الثاني: أنه مع التغييب المقصود للحزبية واعتبار التحزب جريمة خلال فترة الحكم العرفي، فإن ما صدر من قوانين أحزاب خلال ما يطلق عليه العهد الديمقراطي، كان يغلب عليها الطابع العقابي، والمعيقات الكفيلة بعدم نمو الأحزاب، وعلى نحوٍ مكّن الحكومات من النجاح في أن تُخرج إلى الوجود مجالس نواب خالية من الأحزاب أو الأغلبيات الحزبية وفاقدة لأي لون أو توجه سياسي، بحيث أصبح كل نائب أو تكتل بمفرده، أقلية لا وزن لها ولا أثر على الحكومات، في حين أن الأحزاب هي أداة التفعيل الديمقراطي للنظام البرلماني في الملكيات الدستورية. وهنا نلاحظ أنه قبل العهد الموصوف بالعهد الديمقراطي منذ عام 1989، ساد الحكم العرفي والقرارات العرفية على حساب حكم الدستور، وأُحكمت القبضة الأمنية على مفاصل الحياة السياسية. وعندما دخلنا إلى ما يُسمى بالعهد الديمقراطي مع انتخابات مجلس النواب الحادي عشر عام 1989، لم تحتمل أجهزة السلطة التي تعودت على الاستحواذ على توجيه الحياة السياسية، برلماناً يراقب ويحاسب، فتم حل المجلس المذكور قبل انتهاء مدته، لندخل إلى مرحلة أمنية جديدة، وأجهزة ومراكز سلطوية، شكلت حكومة خفيّة تسيّر الحكومة الدستورية الظاهرة وتوجهها، وحلت القوانين المؤقتة مكان القرارات العرفية. ولم تنس الحكومة الخفية تفصيل شكل ديكوري لسلطة التشريع من خلال قوانين انتخاب شاذة المضمون تسهل التزوير، ففرضت قانون الصوت الواحد للانتخابات النيابية، وبعده قانون الدوائر الوهمية، لإخراج مجالس نيابية تتزايد الشكوى في كل مرة من انتخاباتها، ولا زلنا نعيش هذه المرحلة: مرحلة الحكومة الخفية التي تمارس السلطة دون تحمل المسؤولية في حين أن الحكومة الظاهرة الدستورية التي توقع على القرارات هي التي تتحمل المسؤولية رغم أن غيرها من حيث الواقع هو الذي يمارس لها السلطة.
الأمر الثالث: تستر الحكومات الظاهرة خلف الملك في ما توقع عليه أو يصدر عنها، انطلاقاً من أن الملك هو الذي يشكل الحكومات، وهو الذي يقيلها ويأتي بغيرها، والإيحاء بأنه صاحب القرار وحده.
ويتضح هذا الأمر عندما نعلم ما يلي:
1. إذا كان قيام الملك بتشكيل الحكومات على النحو الذي يريد، وإقالتها في الوقت الذي يريد، هو النتيجة الطبيعية لتغييب الحزبية أو إعاقة نموها، وبالتالي عدم وجود أية أغلبية برلمانية يتولى رئيسها تشكيل الحكومة كأمر يفرضه الواقع، فإن الحكومات الخفية التي فرضت هذا التغييب أو تلك الإعاقة وسيطرت على جميع مفاصل الدولة، استمرأت ولا تزال تستمرئ ما تمارسه من سلطات يتحمل مسؤوليتها الحكومة الظاهرة. وبالنظر إلى أن هذه الحكومة الظاهرة لا تستطيع الإعلان عن أن ما توقع عليه كان بتوجيه من الحكومة الخفية، فإن الحكومات الدستورية الظاهرة لا تجد أمامها من وسيلة للتغطية على محصلة ذلك التوجيه سوى الإيحاء أو التعلل بتوجيه الملك ومن ثم التستر خلفه.
2. ووفقاً لما أصبح متداولاً بين الناس، وبشكل خاص النخب السياسية، في ضوء واقع غير منكور، فإن مؤسسة الجهاز الأمني ومؤسسة الديوان الملكي وما يرتبط بهما من أتباع وخلايا مبثوثة في المجتمع السياسي، والاقتصادي، والأكاديمي، والقانوني والنقابي، والشعبي، وما تقدمانه لهؤلاء الأتباع من مزايا ومنافع، قد جعل من تلك المؤسستين حكومة خفية داخل الدولة، رغم أن مثل هذه الجهات ليس لها أية مراكز في الدستور أو أية صلاحيات دستورية. ومصدر قوة هاتين المؤسستين، هو قرب قياداتهما من الملك، وقدرة هذه القيادات على إيصال أو حجب ما تشاء من معلومات إلى الملك. وفي ذات الوقت، فإن اعتقاد رؤساء الحكومات والوزراء، بأن هذه الجهات لها الدور الهام والأثر الكبير في بقائهم أو إخراجهم من السلطة، وفقاً لما تمارسه واقعياً من دور معروف في تشكيل الحكومات وتعديلها أو إقالتها، قد جعل أغلب رؤساء الحكومات والوزراء أسرى لتلك الجهات. ولعل ما أصبح متداولاً عما أفاد به أحد رؤساء الوزارات، له أبلغ دلالة، حيث نُسب إليه القول أنه عندما كلف بتشكيل الحكومة، ذهب إلى الديوان الملكي، فوجد أن الوزارة قد شكلت له، وهناك تعرف على أعضاء وزارته!! وترتب على الرغبة الجامحة لدى الكثير من رؤساء الحكومات والوزراء في البقاء في مواقعهم، إلى افتقادهم القدرة أو الجرأة أو خلق الفرصة، لاستجواب سيطرة الحكومة الخفية على مفاصل الدولة، ووضع الأمور في نصابها الصحيح أمام الملك، واسترداد سلطاتهم الدستورية المسلوبة واقعياً لتلك الحكومة الخفية.
3. وسواء كان الأمر بتوجيه من الحكومة الخفية، أو من خلال ممارسات الحكومات الدستورية الظاهرة، فإن الجهود التي بُذلت من أجل أن ينتشر في المجتمع الأردني مضمون دور الملك، كان مؤداها أن الملك هو الجهة التي تملك جميع السلطات الدستورية. وساعد على ترسيخ اليقين بذلك، حكومات وأجهزة ومؤسسات، لا تقبل من الدستور سوى ما يقدمه لها أصحاب فتاوي دستورية وقانونية وسياسية تُفصّل على المقاس المطلوب، يتم توظيفهم لهذه الغاية بأجر عال، وامتيازات كبيرة، ومواقع قانونية وسياسية متقدمة لا يهبطون عنها، فكانت المحصلة تفريغ أحكام الدستور من مضامينها، حتى أصبح دستور الأردنيين الذي يبين حقوق الأردنيين وحرياتهم ويحكم سلطة الحكومات وصلاحية الملك، في واد، وما يجري على الواقع في واد آخر.
4. ومن يتفحص الأدبيات التي سادت لدى الناس حول المفهوم الذي استقر في أذهانهم عن سلطة الملك، يلاحظ الأثر الطاغي لما كان يصدر عن الحكومات من تصرفات وأقوال وسلوك، للإيحاء أو للتأكيد على أن القوانين والقرارات التي صدرت، كانت بتوجيه من الملك أو بطلب من الملك، أو برغبة من أعلى أو من فوق، إلى الحد الذي اشتهر عن أحد رؤساء الوزارات قوله في اجتماعات مجلس الوزراء، وهو يعلم أن المجلس صاحب الولاية الدستورية في اتخاذ القرار، هذا ما يريده صاحب الولاية العامة (أي الملك)، ليترتب على ذلك سكوت الوزراء عن مناقشة الموضوع، ويكون دورهم هو التوقيع بالموافقة. ولعل ما كان يقوله الوزراء، وكل منهم صاحب ولاية دستورية على وزارته، هذا بتوجيه من الملك، وأمرني جلالة الملك، وهذه رغبة جلالة الملك، ما أصبح من العلم العام للمواطنين.
5. أما أعضاء مجالس النواب والأعيان، فإن الاتصالات معهم للتوجيه في كل أمر مفصلي يتعلق بتشريع أو تحقيق أو رقابة ومحاسبة للحكومات، يتم فهمه بأن هذا ما يرده الملك، سواء كان الاتصال من الجهاز الأمني أو الديوان الملكي، أو من الخلايا الموظفة من هذه الجهات لهكذا مهمات. وفي هذا الصدد، يصبح من يعلم أنه نجح بالانتخابات النيابية بالتزوير، أو من أصبح عضو مجلس أعيان بتوصيات يريده أصحابها دفع الثمن، مقاتلاً شرساً في مجلسه، لاجتذاب المؤيدين لتحقيق المطلوب، باسم الوطنية والانتماء تارةً، أو لتحقيق الرغبة الملكية المُتذرع بها تارةً أخرى.
6. ويزداد الأمر خطورة، عندما يصل الأمر إلى القضاء وتمارسه بعض هيئات الاستئناف، عندما أسبغت الصفة الدستورية على قوانين حكم القضاء الأدنى بمخالفتها للدستور، وتكون حيثيات قرار الاستئناف المدونة في الحكم، أن مجرد المصادقة على القانون وصدور إرادة ملكية بشأنه، (وباللغة التي استخدمتها المحكمة "موشح بالإرادة الملكية") يكفي لجعل هذا القانون دستورياً ويمنع القضاء من الرقابة عليه!! إنني على يقين أن الملك لا يعلم بذلك ولا يريد ذلك، ولا يقبل بذلك. وقد شكوت لرئيس قضاء سابق بأن هكذا أحكام لا شأن لها بقانون أو دستور. واستطراداً، أقول، إذا كانت مثل هذه الأحكام والحيثيات مستغربة عند أي بادئ في دراسة القانون، فليس هناك صاحب عقل يمكن أن يعتقد أن جسامة هذا الخطأ، قد جاء نتيجة نقص معرفي في البديهيات القانونية، خاصة بعد أن يعلم أن رئيس تلك الهيئة الاستئنافية، كما يعتقد زملاؤه، قد وضع على الطريق السريع الموصل لمنصب رئاسة القضاء في وقت لن يطول!!
7. وحتى بعد ثورات الربيع العربي المطالبة بالإصلاح، فإن بطانة الملك ونصّاحه، جعلوا الإصلاح السياسي والدستوري مربوطاً بإرادة الملك، فلم تتحرك سلطة أو جهازاً أو جهة، للسير في طريق الإصلاح، إلا بعد أن استجاب الملك للنداء الشعبي. ولكن لإبقاء القديم على قدمه، قدموا للملك مصلحين للدستور، منهم من برعوا في الخروج على أحكامه، وبلغ انحرافهم حد الشذوذ في تفسيره، وكان شعارهم الدائم أن الدستور لا يحتاج إلى أي تعديل، وأن تعديل الدستور خط أحمر. بل إن مسؤولاً متطرفاً في نفاقه كان قد وصف من ينادي بتعديل الدستور وإعادة التوازن إلى أحكامه، بأنه يعادي الوطن وضد النظام السياسي.
8. وقد أدت الممارسات السابقة، إلى مفاهيم تراكمت وترسّخت لدى الناس مع الأيام، بأن السلطة كل السلطة للملك، وأن جميع السلطات الدستورية والأجهزة الظاهرة والخفية تعطي حريات وتقوم بإصلاحيات بالقدر الذي يريده الملك، واستدرج ذلك أساليب حكم لا تعرفها سوى الدكتاتوريات وأنظمة الحكم المطلق، وإخضاع الأردنيين لأحكام دستورية لا شأن لها بدستورهم، على الرغم من أن في هذا ظلم للدستور وللملك في آن معاً.
9. وفي ضوء الانفصال بين من يوجه ويقرر وبين من يوقع ويتحمل المسؤولية، انفقدت المساءلة والمحاسبة بفضل الحكومة الخفية، وأصبحت المناصب منحاً وعطايا تغدق على الأكثر طاعة، وتسلل أصحاب رأس المال إلى المواقع العليا، فاختلطت التجارة بالإمارة، واقتدى أصحاب الطاعة بمن سخّروا مناصبهم لخدمة ما يقومون عليه من تجارة، وغدا المال العام هو الضحية، وأصبح الفساد الذي يتحدث عنه الجميع أمراً مبنياً للمجهول، عندما أُريدَ له أن يبقى شبحاً عصياً على الإمساك به وبأشخاصه، حتى لا ينكشف المستور. وعندما دخلنا في مرحلة الإصلاح، تولى قيادته ذات الحكومة الخفية وعناصرها الطيّعة في كل حقل وميدان.
10. ولست بحاجة إلى القول أن ما سبق أمره خطير جداً، ويكفي أن نعلم أن المواطنين الآن يطالبون بإصلاح النظام الذي وقر في يقينهم أن الذي يحركه في النهاية هو الملك، وأن الذي يحدد نوعية مخرجات الإصلاح وسقفها هو الملك، وأنه لو أراد الملك، لما تأخر تحقيق الإصلاح في جميع مجالاته، بما في ذلك القبض على شبح يسمى الفساد، الذي يشعر به الناس ويتخيلوه في نومهم وأحلامهم وفي يقظتهم، وهم لا يستطيعون على بقائه طليقاً صبراً. ومن يستمع إلى ما يقوله المتظاهرون والمعتصمون، أو يقرأ ما هو مكتوب على يافطاتهم، يجد تجسيداً واقعياً ينطق بما أسلفنا.
11. لقد انكسر حاجز الخوف عند الناس، وأخذت بعض هتافات المتظاهرين تقفز على الخطوط الحمراء. وإذا كان هناك بعض المتظاهرين تحركهم مخزونات متراكمة من الضيق لديهم من واقع معيشي مرير، أو من ظلم لم يكن بمقدورهم خوفاً من الأمني التعبير عنه، أو من عدالة يستشعرون غيابها عندما يقارنون حالهم بحال أقران هم أفضل منهم في الخبرة والدرجات العلمية، فإن هناك الكثير ممن تحركهم مطالبات سياسية وإصلاحات دستورية، واختلاط أولئك مع هؤلاء، يجعل الجميع يردد ذات المطالب الإصلاحية التي لا يحققها في فهمهم سوى الملك. وهنا أترك لكل حريص على الإصلاح والاستقرار، أن يقدر نوع الشعارات والهتافات التي ستنطلق، إن كانت مخرجات الإصلاح الدستوري أقل مما يتوقعه الناس!!
ثالثاً: من يستطيع تحقيق الإصلاح إذن؟
أمام ما سبق، فإن الإصلاح المنشود لا تستطيع القيام به طواقم الحكومات الخفية أو الظاهرة، إذ هي التي أوصلت الأمور إلى الحالة التي نشكو منها الآن، وأصبحت هذه الطواقم عبئاً على النظام السياسي وعلى المجتمع في آنٍ معاً. إن الإصلاح يحتاج إلى حكومة إنقاذ وطني يقوم عليها أقطاب مصلحون، قادة ينطلقون من المعرفة بواجباتهم ومسؤولياتهم الدستورية، قادرون على تغيير نهج التفكير في كيفية إدارة شؤون الدولة، والتخلص من الحكومات الخفية وأساليبها، والحرص على المال العام كحرصهم على أعراضهم. وطريق هؤلاء للإصلاح، هو الإفادة من جميع الكفاءات والخبرات التي غيبتها الحكومات الخفية بقرارات توقعها لها الحكومات الظاهرة. نحتاج إلى حكومة أقطاب وقادة، لديها القدرة على ملاحقة الفساد، ومعاقبة من زور إرادة الشعب في الانتخابات، وإعادة المال العام الذي تم نهبه، ليدخل في خزينة الدولة، نحتاج إلى حكومة تفرض أحكام الدستور وسيادة القانون، لتختفي دولة الأشخاص، وتعود إلى الوطن دولة القانون التي طال انتظار الشعب لها.
إن حكومة الأقطاب والقادة، هي القادرة على تجنيد أفضل الكفاءات والخبرات في هذا الوطن، لمراجعة الدستور، وحذف النصوص التي تكفلت بتشويهه، وإبقاء النصوص السليمة المتوازنة، وإضافة النصوص التي يفرضها التطور، وإعادة صياغة النصوص التي أعطتها تفسيرات فقهاء السلطان مضامين مفصلة على مقاس المسؤول، ليصبح لدينا دستور برلماني سليم البناء، متوازن الأحكام. وبجانب هذا الدستور، تكون لدينا مدونة بجميع المناقشات التي جرت للوصول إلى كل حكم وكل نص من أحكامه ونصوصه، لتساعد على تحديد المدلول عند الاختلاف مستقبلاً على التفسير لتلك الأحكام والنصوص.
إن حكومة الأقطاب والقادة، هي التي تستطيع وضع قانون أحزاب يجسد حرية إنشاء تلك الأحزاب كما أرادها الدستور، وقانون انتخاب يأخذ بالدوائر الواسعة، لإيصال أفضل الكفاءات إلى المجلس النيابي، وتمكين الأحزاب من النمو، وإفراز نواب يطرحون برامج أحزابهم في المجلس الذي يمثل الشعب ويجسد إرادته، ومحاسبة الحكومات انطلاقاً من رؤى برامجية وليس فردية، وتشريع قوانين تكفل حرية الرأي والاجتماع العام وإنشاء النقابات، وضمان الحق في مخاطبة السلطات.
إن حكومة الأقطاب والقادة، هي القادرة على إخراج الأردن من التيه التشريعي والعبث التشريعي الذي أحدث خللاً في نظامنا القانوني لا مثيل له في أية دولة. ومثل هذه الحكومة هي القادرة على مراجعة جميع قوانين الدولة منذ عهد الإمارة حتى الآن، وحذف الناسخ والمنسوخ منها، وإصدارها في مجموعات، كالمجموعة المدنية والمجموعة التجارية، والمجموعة الجنائية ... الخ ، مع مذكرات إيضاحية لكل مجموعة، ومن ثم ترجمة تلك المجموعات والمذكرات إلى اللغات الحية.
إن حكومة الأقطاب والقادة، هي القادرة على إجراء انتخابات نيابية نموذجية في نزاهتها، للوصول إلى مجلس تشريعي يراقب ويحاسب، من غير انتظار الأوامر والتوجيهات، من الشطار والبطانات والبصاصين. وهذه الحكومة هي القادرة على إعادة الاستقلال إلى القضاء، وتقديم العون له في إعادة تنظيم الجهاز القضائي ونظام التقاضي، لصون العدالة، وجعل الأردن نموذجاً يُحتذى، ويسعى إليه كل باحث عن الأمان لشخصه وماله واستثماراته، من غير سماسرة ومتجرين بكراسي الخدمة العامة.
لقد آن الأوان لنطوي صفحة الماضي، ونبني دولتنا من جديد، فهل هذا كثير علينا؟ إن الأردنيين يرون النظام الملكي حافظ للتوازن بين أطياف المجتمع الأردني، السياسية والاجتماعية، ويضحون في سبيل حمايته واستمراره، للقيام بدوره في رفعة المجتمع وتقدمه. وليس صحيحاً ما تدعيه الحكومة الخفية وأجهزتها وطواقمها، ولا حتى الحكومة الظاهرة التي تتبعها، من أنها هي الحامي للنظام. إن النظام يحميه الشعب والشعب وحده، وليس الممارسات الأمنية أو تخويف الناس وتضييق الخناق على حرياتهم، ومصادرة إرادتهم بتزوير انتخابات مجلس نوابهم. إن الحرية هي جزء من جبلّة الإنسان وتكوينه، ومن غيرها لا يستطيع الإنتاج ولا بناء دولته. ولقد عانى المواطن الأردني في الماضي كثيراً من ممارسات الحكومة الخفية التي ضيقت الخناق على حريته، وتختزن الذاكرة الجمعية للأردنيين سجلاً في مجال الحريات لا مثيل لمفرداته سوى في العصور الغابرة. ورغم ما نراه الآن من كثافة وتزاحم في حركة الشعوب العربية للمطالبة بحقوق وحريات دستورية، فإن أساليب الحكومة الخفية عندنا وممارساتها، لم تتغير في مواجهتها لحراك الشعب الأردني المطالب بحريات وحقوق تمكنه من المشاركة في القرار الذي يحكمه، ولا زالت تلك الحكومة تعتقد أن التفرقة بين مواطن موالي وآخر غير موالي يؤهلها للإدعاء بحماية النظام، وأنها لا تريد أن تعلم أو تفهم أن جميع الأردنيين موالون، لأن ذاك العلم وهذا الفهم يفقدها أهم ذرائعها لممارسة سلطات سماوية على الناس، لا سقف لها ولا حدود. وأتساءل، أليس هناك عقلاء يجعلون مثل هذه الحكومة الخفية تدرك بأن ما تقوم به هو أكبر إساءة للنظام، وأنه في ظل انكسار حاجز الخوف عند الناس وعدم جدوى أسلوب التخويف الذي كانت تعتمد عليه تلك الحكومة، فقد أصبح ما تمارسه الآن من أساليب، يشكل وصفة مؤكدة الفاعلية في استفزاز الناس واستنفارهم، ودفعهم إلى التضامن في حشوداتهم ليستقوي كل جمعٍ بالآخر. فلماذا تجهد تلك الحكومة في جعل الناس يُصعّدون مطالبهم وشعاراتهم؟ هل المواطن الذي يتحرك سلمياً، ولا يملك سوى صوته ليجأر بالشكوى، من ظلمٍ أو جوعٍ أو كبتٍ لحريته، يستحق هذا السلوك القمعي؟ إن الدولة التي تفعل هذا بمواطنها تكون مثل الأم التي تخنق وليدها الجائع بيديها لإسكات صوته المعبّر عن جوعه.
لقد أعلن جلالة الملك في واشنطن، بأنه يسعى ليصبح الأردن دولة برلمانية مثل بريطانيا، وأن يتناوب على الحكم عندنا أحزاب أغلبية يقف في مواجهتها أحزاب أقلية، وأن يكون الشعب كمصدر للسلطة، هو صاحب القول الفصل في اعتلاء هذا الحزب أو ذاك لكراسي الحكم. فهل رتبت الحكومة الخفية صاحبة السلطة الواقعية على ما يريده جلالة الملك أثراً؟ الجواب هو بالنفي، لأن منهج التفكير لما تقوم به تلك الحكومة ينطلق من اختلاق الذرائع والأسباب للاحتفاظ بسلطات تمارسها على الناس لا سقف لها ولا حدود، حمايةً لمكتسباتها. وفي ظل هكذا ممارسات، لن يتحقق ما يسعى إليه جلالة الملك، ولن يقدّم من تسميهم من الأتباع إصلاحاً. ذلك أنه من أجل الوصول إلى الإصلاح، لا بد من تغيير نهج التفكير في التعامل مع المواطنين ومطالبهم، لا بد أن ندرك أن نهج الحكومة الخفية وطواقمها، يستهدف الحفاظ على مصالحها لتبقى في مواقعها باسم حماية النظام، ومن ينظر إلى مغانم أفراد تلك الحكومة وقياداتها وما تراكم لديهم من امتيازات ومنافع وأطيان وأموال، يجد في ذلك خير شاهد على ما نقول. ومثل هذه الحكومة ومن تحركهم، لن يستسلموا ولن يتنازلوا عن مكتسباتهم، ومن يستطيع التخلص منهم لبناء الأردن الجديد، هي حكومة إنقاذ وطني، يقوم عليها أقطاب وقادة للوصول إلى الإصلاح المطلوب.
حفظ الله الوطن، وحمى شعبه من عاديات الزمان، والعابثين بالأوطان، إنه على كل شيء قدير.