تساءلنا في مقالة الأسبوع الماضي عن طبيعة العلاقة بين ديناميكيات ثلاث عرفها المجتمع الغربي، هي التنوير العقلاني، والدولة السيادية، والتدبير القانوني للدين في الشأن العمومي ، من حيث مطالب وحاجيات المجتمع العربي الراهن.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن العلاقة بين الديناميكيات الثلاث ليست بديهية ولا تلقائية رغم الخيوط التي جمعت بينها في السياق التاريخي. فإذا كان التنوير نتاج موقف فلسفي اتسم بالعقلانية الكونية المتسامحة، فإن الدولة السيادية لم تكن هي أفق المشروع التنوير، بل هي الحل العملي للمشاكل التي طرحها التنوع الديني والفكري في المجتمعات الحديثة، بينما شكّل التدبير القانوني للدين حلاً للمشكل الذي طرحه الانفصام المتزايد بين الحقل السياسي والحقل المدني.
لابد هنا من التمييز بين طبيعة التجارب الثلاث الكبرى التي عرفتها أوروبا: التنوير الألماني الذي كان في جوهره ثمرة إصلاح ديني عميق واتسم بالكونية الإنسانية أفقاً للاستخدام العمومي للعقل (كانط ومندلسون وليسنغ)، والتنوير الإنجليزي الذي كان في عمقه إصلاحاً سياسياً انطلق من مركزية فكرة الحرية الفردية بما تقتضيه من تقييد لسلطة الدولة وتحييد للكنيسة في الشأن العمومي (هيوم وهوبز ولوك)، والتنوير الفرنسي الذي أخذ شكلا راديكالياً اصطدم بالدِّين واتجه إلى تعويضه معرفياً بالعقل الوضعي واجتماعياً بالدولة الكلية المعبرة عن الإرادة الجماعية المشتركة (مونتسكيو وديدرو وفولتير وروسو).
ما يجمع هذه الحركيات الثلاث، هو النزعة العقلانية الذاتية التي هي جوهر التنوير (الاستخدام العمومي الحر للعقل حسب تعريف كانط)، بيد أنها اختلفت أشد الاختلاف في طبيعة تصور وإدارة المسألة الدينية السياسية. في ألمانيا التي كانت تحكمها ممالك ودوّل متعددة ولم تكن فيها سلطة كنسية قوية نتيجة لنجاح حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي )، برزت أطروحة الديانة الطبيعية العقلانية كتعبير عن الجوهر الأخلاقي في اللاهوت الديني وأطروحة الجماعة العقلانية كتعبير عن المجموعة الدينية الشعائرية.
وفي التقليد الإنجليزي ظهرت فكرة الدولة السيادية التي كانت حلا للإشكالية التي تولدت عن التعارض بين مقتضيات الفردية الذاتية في نزوعها ضد هيمنة وتحكم السلط الدينية والسياسية ومقتضيات النظم المؤسسية الضامنة والمجسدة للحريات الفردية. ما حدث عمليا هو تشكل «لاهوت سياسي للدولة الحديثة التي اعتبرها هوبز «إلها فانيا» تقدم له قرابين الطاعة والخشية والولاء.
وفي المسار الفرنسي حيث تركة الدولة الملكية المركزية والمؤسسة الكاثوليكية القوية، ظل الصدام محتدماً منذ قيام ثورة 1789 بين مشروع التغيير الراديكالي العنيف الذي يستند لمدونة التنوير العقلاني في الهيمنة على المجتمع وتقويض الحريات الفردية بما فيها الحريات الدينية ومشروع البناء القومي للدولة الذي استند إلى المورث الرمزي للكنيسة الكاثوليكية؛ فكانت النظم اللائكية في بداية القرن العشرين تطوراً طبيعياً في هذا المسار الاستثنائي في أوروبا.
ما نستنتجه من التجارب الأوربية التي أشرنا إليها باقتضاب هو أن التنوير العقلي في قيمه النقدية والذاتية وتصوره المتسامح للتنوع العقدي، لا يتعارض مع ثوابت الدين وكلياته، بل يمكن بسهولة صياغته وفق محددات ومفاهيم التقليد الإسلامي كما حاول دعاة الإصلاح الديني في الإسلام من الإمامين الأفغاني ومحمد عبده إلى اليوم. كما أن الدولة المدنية الحديثة في منطقها الداخلي لم تقم على القطيعة مع الدين، وإنما سعت إلى بلورة النظم القانونية لضبط الحقل المدني في تنوعه وتعدديته، بما يعني نتيجتين أساسيتين هما: ترجمة المضمون المعياري للدين في قيم عقلانية كلية، والحفاظ على الحرية الدينية من حيث هي إحدى محددات الحرية الفردية المصانة.
لقد ذهب المفكر التونسي هشام جعيط في كتاب صادر في سبعينيات القرن الماضي إلى أن الإسلام هو الذي شكل الأساس التاريخي والمرجع القيمي والاجتماعي للدولة العربية في عصورها الوسطى، كما كان الأساس الذي استندت إليه شرعية الدولة الوطنية الوريثة لحركة التحرر الوطني، لذا فإن الدولة العربية الحديثة لا يمكن أن تتخلص في متخيلها السياسي من الدين ولا أن تتخلص منه مؤسسياً على غرار الدول الليبرالية الغربية.
والواقع أن عموم الدول العربية تبنت دستورياً الإسلام ديانةً للدولة، ولذا فلا معنى لطرح الشرعية الدينية للدولة كما هو توجه جماعات الإسلام السياسي، كما أن الإدارة العمومية للحقل الديني في المجتمعات العربية ضرورة حقيقية لإخراج الدين من التجاذبات السياسية وانتزاعه من مخالب الجماعات المتطرفة والعنيفة التي تحوله إلى معول لهدم المجتمعات والدول.