نشر صندوق النقد الدولي الاسبوع الماضي على موقعه الالكتروني وثيقة في صيغة سؤال وجواب يشخص فيها الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في تونس، مؤكدا فيها على ان القرارات الاقتصادية التي تتخذها حكومة الشاهد هي قرارات سيادية ويقتصر دور الصندوق على تقديم توصيات.
ويتزامن نشر هذه الوثيقة مع تواصل اشغال اللجنة الفنية المنبثقة عن اجتماع الموقّعين على وثيقة قرطاج، اشغال لم تحسم بعد في النقاط الخلافية التي اثارها الاتحاد العام التونسي للشغل الرافض لخيارات الحكومة في ملف المؤسسات العمومية والتفويت فيها الى جانب رفضه لآليات اصلاح الوظيفة العمومية والصناديق الاجتماعية... وهي نقاط نصّت عليها وثيقة قرطاج، مرجعية عمل حكومة الشاهد.
وبقطع النظر عن بوادر انفراج ازمة التعليم التي لا تزال تخيّم على المشهد العام في البلاد، والتي تعود الى تمسك الجامعة العامة للتعليم الثانوي بمطالبها واصرار وزير التربية على رفض هذه المطالب باعتبار انعكاساتها المالية على ميزانية الدولة التي تعاني عجزا متفاقما، فقد كشفت هذه الازمة عن حدود تحرك حكومة الشاهد في ظل قانون المالية لسنة 2018 الذي يستند الى سياسة تقشف مبنية على التزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي في باب الضغط على عجز ميزانية الدولة من جهة، والتحكم في التوازنات المالية الخارجية المتعلقة بعجز الميزان التجاري من جهة اخرى مقابل الحصول على قرض بقيمة 2.9 مليار دولار في اطار اتفاق «تسهيل الصندوق الممدد» على ثمانية أقساط يسبقها قيام خبراء الصندوق بمراجعات دورية تصل الى 4 مرات في السنة في سابقة هي الاولى من نوعها في تونس من منظور عدد المراجعات.
ففي مستوى الضغط على ميزانية الدولة التزمت حكومة الشاهد بدعم موارد الميزانية عن طريق الزيادة في الضرائب والأداءات والضغط على النفقات عن طريق تخفيض الدعم وتخفيض كتلة الاجور من خلال تجميد الاجور وتجميد الانتدابات من جهة، واعتماد نظام المغادرة الاختيارية والتقاعد المبكر في اطار ما يسمى باصلاح الصناديق الاجتماعية، من جهة اخرى مع العمل على الترفيع في سن التقاعد كإجراء بعيد المدى.
كما يوصي الصندوق بالضغط على عجز ميزانية الدولة واصلاح المؤسسات العمومية من خلال تطهيرها ماليا والتفويت في مساهمات الدولة فيها تحت غطاء البحث عن شريك استراتيجي.
اما في باب التحكم في التوازنات المالية الخارجية والضغط على عجز الميزان التجاري فقد أوصى الصندوق باتباع سياسة مرنة لسعر صرف الدينار كآلية للتشجيع على التصدير واعطاء قدرة تنافسية للمنتوج التونسي في الاسواق الخارجية، مقاربة لا يمكن ان تجد لها صدى في واقع الاقتصاد التونسي باعتبار هشاشة منظومة الانتاج والضغوط الضخمة التي تواجهها هذه المنظومة انطلاقا من مصادر التمويل البنكية التي تشكو شحا في السيولة فضلا عن نسبة فائدة في ارتفاع متواصل باعتبار توصية صندوق النقد الدولي الداعية الى الترفيع الدوري في نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي على خلفية الضغط على الاستهلاك للضغط على الاسعار، وهي مقاربة لا يمكن ان نجد لها صدى في واقع الاقتصاد التونسي.
في المقابل تتلخص مطالب الجامعة العامة للتعليم الثانوي في التخفيض في سن التقاعد، وتصنيف مهنة التدريس كمهنة شاقة بما يسمح لهم بالتقاعد الاختياري في سن 55 سنة، وتمتيع الاساتذة بمنح خصوصية تمكنهم من تجاوز تدهور مقدرتهم الشرائية فضلا عن مطلبهم المتعلق بالنظر في تدهور الوضع التربوي بصفة عامة بما في ذلك ملف اصلاح المناهج التربوية.
وفي تعاملها مع هذه المطالب التي اتخذت منحى تصعيديا وصل بالجامعة العامة للتعليم الثانوي الى حجب اعداد التلاميذ كرد فعل على وزير التربية، قرر مجلس وزاري انعقد يوم الاربعاء 21 مارس 2018 اعطاء كامل الصلاحيات لوزير التربية لاتخاذ «كل الاجراءات التنظيمية والقانونية والادارية» لرفع قرار حجب الاعداد.
وبعيدا عن التدقيق في طبيعة الاجراءات التنظيمية والقانونية والادارية التي ضبطها وزير التربية ولم يتسن له تطبيقها، يتضح ان حكومة الشاهد قد انتهجت سياسة المغالطة والمراوغة وتحويل الوجهة عن الصراع الحقيقي القائم بينها وبين الجامعة العامة للتعليم الثانوي من جهة وبينها وبين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة اخرى، وحاولت الاختفاء وراء قرار حجب اعداد التلاميذ لضرب كل من يطالب باجراءات تتناقض وتتضارب مع وصفة صندوق النقد الدولي ومع وثيقة قرطاج خاصة وان هذه الحكومة قد قبلت وبرضى بحلول خبراء صندوق النقد الدولي اربع مرات في السنة للتدقيق في مدى التزامها برزنامة الاصلاحات.
ففي الوقت الذي نصت فيه وثيقة قرطاج من ناحية، واوصى به صندوق النقد الدولي من ناحية ثانية من تجميد للاجور وترفيع في سن التقاعد وتقليص لكتلة الاجور، تخرج الجامعة العامة للتعليم الثانوي مطالبة بعكس ما التزمت به حكومة الشاهد تجاه الصندوق ضاربة بذلك ما تعهدت به الحكومة في الرسائل التي توجهت بها الى المديرة العامة للصندوق كريستين لاغارد ومهددة بذلك أسباب وجودها كحكومة وحدة وطنية مختزلة في وثيقة قرطاج.
ومن هذا المنطلق كشفت أزمة التعليم الثانوي وما وصلت اليه من انسداد في أفق الانفراج بما تطلب تدخل رئيس الجمهورية، ان المعركة الحقيقية تتجاوز الجامعة العامة للتعليم الثانوي، وتتجاوز حكومة الشاهد. ان المعركة الحقيقية التي ساهمت الجامعة العامة للتعليم الثانوي في اندلاع شرارتها الاولى، هي بين الشعب التونسي ومن يمثله، واتضح ان الاتحاد العام التونسي للشغل بقي وحيدا في غياب الاحزاب السياسية، وبين صندوق النقد الدولي الذي يواصل في التمسك باصلاحات خربت عديد البلدان ومنها اليونان الذي عانى ويلات سياسة التقشف التي فرضت عليه وترجمت الى تجميد الاجور وتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والترفيع في سن التقاعد وتقليص جرايات التقاعد والترفيع في نسبة الاداء على القيمة المضافة من ٪19 الى ٪23 وصولا الى تجميد الاتفاقيات المشتركة في الوظيفة العمومية وسن قوانين تحد من الحرية النقابية.
ورغم ما بشّر به صندوق النقد الدولي والمفوضية الاوروبية والبنك المركزي الاوروبي وهي الجهات الممولة لبرامج الاصلاحات التي تقوم على سياسة التقشف من آفاق واعدة للاقتصاد اليوناني، وبعد 8 سنوات على تطبيق اول مخطط تقشف لا يزال اليونان غارقا في ركود اقتصادي أدى الى أزمات انسانية شكلت موضوع أبحاث قامت بها المنظمة العالمية للصحة كشفت عن ارتفاع عدد وفيات الرضع بـ‰43.4 خلال السنتين الاوليتين من تطبيق سياسة التقشف. كما كشفت دراسة ثانية قام بها باحثون يونانيون وأمريكيون خلال الفترة 1983 ـ 2013 ونشرت بمجلة طبية بريطانية، عن ارتفاع هائل لحالات الانتحار نتيحة سياسة التقشف المتبعة خلال السنوات الأخيرة.
ان انخراط الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم في طريق يوحي بانفراج أزمة التعليم الثانوي والدعوة الى العودة الى الدراسة، يجب ان لا يخفيا عنا حقيقة المعركة التي رفع لواءها الاتحاد في غياب احزاب اختارت سياسة النعامة، وشكلت ازمة التعليم اولى جولاتها، معركة حول خيارات دولة وليس حكومة باعتبار ان التعهد مع الصندوق هو تعهد دولة وليس تعهد حكومة، خيارات تقوم على ضرب القطاع العمومي وفتح الحدود امام المستثمر الأجنبي ثم التمهيد لدخوله بضرب العملة الوطنية على خلفية اتباع سياسة صرف مرنة باعتبار ان هذا الشعب تحول الى عبء على ميزانية اصبحت عاجزة عن توفير التعليم العمومي بكل مراحله بما في ذاك العالي، والنقل العمومي، والصحة العمومية...
لقد كان امام حكومة الشاهد فرصة للاصطفاف وراء الشعب التونسي الذي رفع الراية الحمراء بسبب انهيار المقدرة الشرائية وتدمير قطاع الانتاج، الا انه فضل التمسك بخيارات اثبتت التجارب في بلدان اخرى خطورتها على الوحدة الوطنية ومصير دولة الاستقلال.