سلسلة الفكر الاستراتيجي " 5 " الحلقة الخامسة
لا ينتهي الحدثُ العالميّ الذي يبرقُ للأحاسيس في مكانٍ حتّى يبدأ في مكانٍ آخر.
يتداخل تناقض الفعل الإنسانيّ تداخلاً طيفيّاً في كلّ مرحلة يريد فيها، أو يحتاج إلى، أن يُغيّر من ساحات حربه العالميّة المستمرّة. هذه هي الفكرة التي يقوم عليها تاريخ القوّة في الأرض و مظاهرها في العنف المُلحقِ و المُضاف.
و ما السّلام سوى مكان أو أمكنة في الأرض تستعدُّ، بدورها، لتكون مسرحاً لممارسة القوة و فائض القوة، في العنف، عند أقرب مناسبة سانحة أو مصنوعة صناعة مُكلفة لأغراض محدّدة في سبيل غاية من الغايات المثيرة و المختلفة و التي تشكّل، هي نفسها، في المعاصرة، دوافعاً للسّلوك و الفعل و الطّموح و الجموح.. و الجنوح!
كان "الشّرق الأوسط" قد احتكر اهتمام العالم، لما ينوف على الأربعة عقود ترابط فيها شكلّ العالم على وقع العنف الذي امتدّ من الحرب العربيّة - الإسرائيليّة في عام (1973م) إلى حرب ( أفغانستان )السّوفييتيّة فالحرب الأميركيّة في ( أفغانستان ) و حتّى حرب ( اليمن )المعاصرة.. ؛ مروراً ب( تونس ) و ( ليبيا ) و ( مصر )، و خرابات "الرّبيع العربيّ"، و حروب ( لبنان ) و "فلسطين المحتلّة"، و حرب ( العراق ) "الخليجيّة" مع ( إيران )، و سخافات و مهاترات الأدوار الإقليميّة في ( تركيا ) و ( السّعوديّة ) و ( قطر)، و مشروع ( إسرائيل ) المتّجدّد دوماً، و حروب ( العراق ) التالية و المتوالية، و الحرب العالميّة- المركّبة التي تركّزت نهائيّاً، بوضوح و شراسة، على (سورية ).
تخلّل تلك المعارك المتّصلة سقوط الاتّحاد السّوفييتي في أول العقد الأخير من القرن العشرين، لتكون الفرصة مثاليّة لتناذر العالم أمام الرّعونة الأميركيّة المنظّمة، فيما كانته من ممارسات و فيما لم تكنه أيضاً و من الممكن أن يكون!
لقد كان المكان الأجدى للاستثمار السّياسيّ العالميّ، منذ أوائل سبعينات القرن العشرين، الماضي، هو "الشّرق الأوسط" الذي يمتدّ من السّاحل الشّرقيّ للمحيط الأطلسيّ و حتّى حدود الاتّحاد السّوفييتي السّابق في أذربيجان و المناطق الواقعة إلى شرق ما وراء جبال القوقاز ( أو القفقاس ).
و في غضون ذلك تمكّن الطّوفان الأميركيّ في العالم أن يجعل من هذه المنطقة الشّاسعة ملعباً لاستثمار السّلاح و المال و النّفط و الدّين و السّياسة و أيديولوجيا القوّة و العنف ..
و قد شارف اليوم هذا الفائض الاحتكاريّ على تحوّلات مرحليّة و استراتيجيّة مرسومة أو مُستدركة، و قد سقط "الاتحاد السوفييتي"، و سقط معه ما يُمكن أن نسمّيه بعصر الأيديولوجيات، ليأخذ الصّراع له أشكالاً معاصرة أكثر تعقيداً و إبهاماً، و إصراراً كذلك.
كان "شرقنا" و لا يزال بيئة خصبةً للتّخلّف و المراوحة الثّقافيّة و التّردي الأخلاقيّ و السّياسيّ و كاريكاتيريّة ( أو مسخرة ) الأيديولوجيا الدّينيّة التي فرّغت المكان من جميع الأفكار الكفيلة بالتّنمية و مواكبة المشروع العالميّ المتقدّم، في الشرق و في الغرب، حيثُ أقامَتْ خيالاتها في الماضي بينما أقام "العالمُ" في الحاضر و المستقبل في مشاريعه التي جعلت من هذا المكان وقوداً اقتصاديّاً و سياسيّاً لآلاته القائمة على القوّة بعناصرها المختلفة و العنف المرافق، في المال و السّلاح و الإعلام و المؤسّسات الدّوليّة.
قدّمت هذه المنطقة للمشروع العالميّ جميع أسبابه التي دفعته، في إسهامات مباشرة، إلى أن يتربّع اضطهاداً على صدر شعوبنا و مجتمعاتنا، تربّعاً جائراً، على مدى نصف قرن من الزّمن المعاصر الأخير.
لقد قدّمت له المال و الوقود الأيديولوجيّ الذي تمثّل في نشر النّسخة الأسوأ عن الإسلام في هيئتها الوهّابيّة و الأخونجيّة، و قدّمت أيضاً الوقود البشريّ الذي تمثّل في أضراب حشود الثّقافات التّابعة و الملحقة بما فيها مظاهرها الحيّة من الجماعات و التّنظيمات التّكفيريّة البدائيّة و معهم أفواج "المعارضين" المُسوخ الذي شكّلوا الجسرَ الدّاخليّ للغزو العالميّ في إطار هذا المشروع الطّويل.
الآن، و بعد ما يقارب نصف القرن من التّحوّلات السّياسيّة العالميّة، في منطقة الشّرق الأوسط، يمكننا أن نجزمَ بانّ سورية كانت هي المحطة "المتقدّمة" في تأريخ هذه الوقائع المكتوبة بفلسفة العنف العالميّ بما فيها من جشَع و استعلاء و اضطهاد و قهر .
و نسأل، اليوم، ماذا سيكون- بالتّزامن- من تطوّرات مع نهايات هذه الحرب المباشرة على سورية؟
ما هو الواقع السّياسيّ الذي سيحكم مشروعنا المقبل في "إعادة الإعمار" في سورية؟
و كيف يمكن أن تلازم السّياسةُ الاقتصادَ و القرارَ السّياديَّ في "إعادة الإعمار" على نحو لنا فيه أن نكون فاعلين، بل و يجب علينا أن نكون.. ؟!
في القراءة السّياسيّة الشّموليّة ( الاستراتيجية ) يظهر أنّ التّطوّرات و التّهديدات ( التّحدّيات ) السّياسيّة ستأخذ منحيين في وقت واحد.
كنّا قد تحدّثنا، سابقاً، على أحدهما، و لا مانع، للتّرابط و الاتّصال و الرّبط، من أن أن نعيد باختصار التّأكيد على عناصره كمنحى أوّل، على أن نقف بتريّثٍ و تفصيلٍ على مكوّنات المنحى الثّاني.
أفلسَ المشروع الأميركيّ- الغربيّ في فرض الاستكانة على سورية و جعلها دولة هامشيّة في المنطقة، خدمة لإسرائيل و المشروع الرّجعيّ العربي- الإقليميّ، المكمّل لمشروع الإخضاع العالميّ؛ و لكن لم يكن "ينبغي" ل"نظام العولمة" الجديد- بنظره- أن يَسقطَ في تجربة فاشلة تزعزع من هيبة بربريّة أميركا في نظر "شركائها" و أتباعها و ذيولها في "الدّول العربيّة" و دول "الشّرق الأوسط".
و في حين اكتشفت أميركا مواطن القوّة و الضّعف في المحيط العربيّ و الإقليميّ، كان عليها أن تُعيد إنتاج سياسة مرحليّة جديدة بناء على الدّروس المستفادة في نتائج هذه التّجربة.
ففي المنحى الأوّل، السّوريّ، تحوّلت أميركا- و ستتحوّل- من لاعبٍ عسكريّ، في سورية، بالواسطة ثمّ بالمباشرة، إلى مُشرفٍ على تغذية النّزعات السّياسيّة السّوريّة المناوئة للدّولة و النّظام و رعايتها دبلوماسيّاً و سياسيّاً و ثقافيّاً فيما قلنا عليه، سابقاً، تحسين الشّرط الانفصاليّ الأيديولوجيّ لما تُسمّى بالمعارضة أو المعارضات، و رعايتها كخندقٍ متقدّم من خنادق العداء للدّولة و المجتمع، و تكريسها كواقع ثقافيّ و سياسيّ مباشر، إنْ أمكن، في إشراكها في "الحكومة" السّوريّة المباشرة في مستقبل ما يُسمّونه "العمليّة السّياسيّة"..
بحيث تعمل "الثّورة المضادّة" للشّعب و المجتمع و الدّولة على أن تُحقّق، بالسّياسة و المؤسّسة المباشرة، ما عجزت عن تحقيقه بالحرب و التّخريب و التّدمير.
في هذا الجزر المَوجيّ العنيف، تبعاً لعنف المدّ الذي ما فتئت آثاره قائمة في الحرب السّوريّة، يطمح الأعداء و الخصوم إلى تسطيح الانتصارات بواسطة غزو المجتمع السّوريّ، من جديد، في طور التّراجع القسريّ لمخطّط التّخريب بترك نفايات "البركان" الذي أخمدته سورية، موزّعة كآثار شاهدة على إصرار العدوان التّاريخيّ على أن يكون له حكاية مستمرّة.
و أمّا في المنحى الثّاني، فقد طوّر الفكر السّياسيّ الغربيّ مفاهيمه أثناء الصّراعات التي يرصدها بعناية درسيّة و بحثيّة فلسفيّة- سياسيّة عالية .
و من ضمن ما قد طوّره هذا الفكر هو ذلك المفهوم على "الاستراتيجيّة" نفسها عندما صار لا بدّ من تبديل أخرى، جديدة، بها، استجابة لضرورات و مطاليب و واقعيّات و إجرائيّات التّنفيذ.
هكذا ظهرت من جديد في الاستراتيّجيّة الغربيّة المطّبقة على المنطقة، حاجات جديدة و مفاهيم مستنبطة من وقائع الصّراعات، من شأنها أن تشكّل خرقاً و اختراقاً للآليّات التي شكّلت أساسات لصمود "المقاومة" في وجه استراتيجيّة الغزو و العدوان.
ففي مشروع اختراق فلسفة المقاومة التي استطاعت تكريس واقعيّتها و "شروطها" في الحرب، عملت أميركا على إعادة إحياء و تدوير ( تكرير ) فكرة "العروبة" المزيّفة، عن طريق تأجيج فكرة العداء الشّوفينيّ لإيران. من الطّبيعيّ أن تحوز هذه الفكرة على مناصرة و رعاية و احتضان الشّعور العامّيّ الدّونيّ "القومويّ" و الذّهاب به إلى حدود العدوانيّة ضدّ "الجمهوريّة الإيرانيّة" و تلويث مبادئ الثّبات في وجه الغزو الثّقافيّ الغربيّ المسلّح، عن طريق زعزعة الإيمان بجدوى و منطلقات و أسس فكرة "المقاومة".
من "الضّروريّ"، إذاً، أن تصبح ( إيران ) هي "العدوّ" الأوّل للمنطقة بدلاً من ( السّعوديّة) و ( إسرائيل ).. و سوف تلقى لها هذه الاستراتيجيّة الدّعم و التّرويج و العمل من قبل مناصرين "محلّيين" هم في كامل الجهوزيّة ، يتوزّعون في محور معادٍ قائمٍ و موجود يمتدّ من شاطئ الخليج في الشرق العربيّ و حتّى شواطئ المحيط الأطلسيّ في الغرب.
يتواجد هؤلاء كثقافة و تديّن و سياسة و دول و أحزاب و مؤسّسات و جماعات و أفراد و "معارضات" و خيانات و مؤامرات.
و هكذا فإنّه بإمكاننا أن نُدخل تعديلاً فكريّاً على مفهوم "الاستراتيجيّة" نفسه، تبعاً لذلك.
بإمكاننا أن نثبّت مضمون ذلك التّحوير على مقوّمات "الاستراتيجيّة"، بوجه عام، و ذلك في استقراءٍ ضروريّ للوقائع الدّامغة .لم يعد مفهوم "الاستراتيجيّة" يتعلّق بذلك "المضمون" الذي غالباً ما يدفعنا إلى البحث على"الآفاق" و النّظرِ إلى ممكنات الحدث في إطار المشروع.
هذه فكرة تقليديّة على "الاستراتيجيّة" أصبحت من عداد "الثّقافة" العامّة. ما لم يكن يدخل، بعدُ، في مقوّمات "الاستراتيجيّة" العالميّة في إطار "النّظام العالميّ" المعاصر، هو هذا الرّصد الجديد، "الابتكاريّ" و "الإبداعيّ"، للمتوّفر من أسبابٍ بحكم التّكوين و التّزمّن و التّزمين، و إعادة تمكينه في اعتبارات جديدة تقوم على أداء استرجاع المهمل منه من دون قصد و تكريسه و تعميقه و إعادة إنتاجه بمواصفات "خلّاقة"، من جديد.
و هذا لا يُساق في الإعلام أو الدّبلوماسيّة أو في إعلان السّياسات و الأهداف المباشرة. هذا تجديد مفهوميّ لاستراتيجيّات الصّراع العالميّ الذي تقوده الإمبرياليّة المعاصرة في أعلى مراحلها التّاريخيّة في فلسفة الهيمنة و الإخضاع و النّفوذ و الاستيلاء.
من الطّبيعيّ أنّ هذا الأمر التّجديديّ في الحداثات الإمبرياليّة المتأخّرة ، إنّما يحتاج إلى أطر عالميّة في إزكاء المُحفّزات و إذكاء الصّراع.
و يمكن هنا أن ننظرَ إلى تشييء شبح الحرب الإمبرياليّة في جنوب شرق آسيا من هذا المنظار. يكاد الهلع الإمبرياليّ يقود إلى حرب عالميّة نوويّة في وقت قريب ، نتيجة لفقدان أميركا سطوتها "الهادئة"، أو النّاعمة، على بلدان آسيا الثّوريّة كالصّين و فييتنام و كوريا الشّماليّة، بما في ذلك التّهديد الاقتصاديّ الذي تعاني منه اليابان، كحليفة لأميركا، أمام "التّسونامي" الاقتصادي "السّلعيّ" الصّينيّ و غزو الصّين للعالم في معدّلات نموّ الإنتاج القوميّ، المتسارعة إلى حدود الإذهال، و انفلات التّقويم الاقتصاديّ العالميّ، التّقليديّ، على أساس سيطرة "الدّولار" سيطرة ماليّة وهميّة ، باتت في تهديد مباشر أمام دعائم الاقتصاد الحيّ في دول مجموعة "البريكس" الاقتصاديّة العالميّة.
أمام هذه "المخاطر" الاقتصاديّة- السّياسيّة العالميّة التي تواجهها أميركا و الغرب الملحق بها، تحاول أميركا، بالتّوازي، العودة إلى دفاترها القديمة، في السّياسة و "الثّقافة، كتاجر مفلسٍ ( كما تفعل في استمرار و استدامة سياساتها في المنطقة العربيّة ) ؛ جنباً إلى جنبٍ مع تطوير أدوات العنف الاقتصاديّ المترافق لمغامرات السّياسة و العسكرة و الصّراعات المسلّحة في كل مكان ترى في استقلاله تقويضاً لهيمنتها على العالم الجديد ( كما يتقدّم الصّراع، الآن، في جنوب شرق آسيا مع كوريا الشّماليّة و الصّين.. ).
و في المقابل، فإنّ أميركا ليست خارج خطّ الصّراعات المتناهية إلى الأسوأ في العالم، ما دام العالم غير راشد، بعد!
من الطّبيعيّ أن منطق الحرب و أعمال العنف التي تصل إلى مستوى الاستراتيجيّة الشّاملة، كما هو الأمر مع الاستراتيجيّة الأميركيّة العالميّة، لا يمكن له أن يكون بلا عواقب و آثار بعضها أكثر خطراً حتّى على أميركا بالذّات.
معروفة تلك المبالغ التي بلغتها المديونيّة الأميركيّة في اقتصاديّاتها العاملة. أميركا مدينة للصّين بوجه خاص (سندات خزينة) ، و لليابان و بريطانيا في الدّرجة الثانية. و لكنّ المديونيّة الملحّة و التي تقوّض حريّة القرار السّياسيّ الأميركيّ في العالم- بما فيه قرار رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة- هي تلك المديونيّة الأميركيّة الحكوميّة أمام حكومات الولايات الأميركيّة الفيدراليّة و الاحتكارات الأميركيّة نفسها و الشّركات الكبرى التي تُنتج السّلاح ، كما تنتج جميع وسائل الإنتاج الاجتماعيّة، و وسائل الخدمات في مجتمع استهلاكيّ عميق، و الأصول الثّابتة "الملموسة" منها و "غير الملموسة".
يدخل في ذلك المديونيّة الأميركيّة لشركات و هيئات التّمويل العقاريّ داخل الولايات المتّحدة، و التي تعمل على تقاسم القرار السّياسيّ مع شركات السّلاح و التّأثير في القرار الأقوى لشركات و هيئات الأموال الأميركيّة.
يشهد على هذا ما يقوم به، دوريّاً، "البنك المركزي الأميركيّ" من تخفيض أسعار الفائدة على بعض الاستثمارات التمويليّة الائتمانيّة، و بخاصّة منها "سوق الأوراق الائتمانيّة العقاريّة"، و ذلك بعد الاستثمارات البنكيّة "عالية المخاطر" في قطاع "العقارات" من أجل السّيطرة على فائض الكتلة النّقديّة الاجتماعيّة و التّحكّم بتشغيلها في سوق محدّد، و هذا من أجل مواجهة الصّراعات و المنافسات الماليّة على القرار الاقتصاديّ- السّياسيّ الأميركيّ، و الإبقاء على القرار في أيدي الاحتكارات الماليّة الأقوى المتمثّلة ب"مجلس الاحتياطي الاتّحادي" الأميركيّ ( البنك المركزيّ ) الذي تسيطر عليه أقوى قوى المال في أميركا و العالم.
الذي يجب أن يُعوّل عليه في الجانب الآخر من العالم، لضمان مواجهة الجشع الإمبرياليّ الأميركيّ و تشجيع إمكانيّات استمرار التّحالفات السّياسيّة و الاقتصاديّة المواجهة، هو التّوجّه، فعلاً، إلى الاقتصادات العالميّة في الشّرق.
لقد كان أسد بلاد الشّام سبّاقاً في الإعلان عن هذا المبدأ البديل في مواجهة الهيمنة الأميركيّة- الغربية و سياساتها الجديدة في إطار استراتيجيّاتها البديلة التي تحدّثنا عليها أعلاه.
في المنحيين السّابقين، إذاً، علينا في سورية رسم الاستراتيجيّات التّخطيطيّة لسنوات الإعمار المقبلة على أساس الإدراك التّقنيّ و المسؤول سياسيّاً لطبيعة الصّراع العالميّ و طبيعة رأس المال العالميّ نفسه الذي يدخل، هو أيضاً، في تحالفاتٍ و شراكات و منافسات و تحدّياتٍ لا تنفصل عن باقي مبادئ و أسس و أركان الصّراع العالميّ. هذه مسالة اختصاصيّة محضة لساسةٍ و اقتصاديين و مراكز دراسة و بحوث، متفرّغة لتحديد معايير التّعاقد و إنشاء التّفاهمات و إقامة المعاهدات، و ليست فقط مسؤوليّة حكوميّة تقنيّة و جانبيّة.
في مقابل هذه النّمطيّة الرّأسماليّة الأميركيّة في تسليع "العالم"، في تسليع كلّ شي و كلّ قيمة و كلّ ثقافة و كلّ طموح و كلّ فعاليّة، أيضاً، تواجه الولايات المتّحدة اثنين من التحدّيات الملحّة في مجال "الماليّة العامة"، هما "رفع الحدّ الأقصى للدّيون"، و البدء في عملية شاقة "لتخفيض العجز والدّيون". إنّهما خياران متناقضان و ضروريّان معاً في آن واحد.. !
مع نهاية هذا العام، سيكون الدّين العامّ على الحكومة الفيدرالية قد بلغ 100 % من الاقتصادات الأمريكيّة؛ و من الواضح أنه لا يمكن الاستمرار في تحمّل مديونية بهذا الحجم.
و يقدّر الاقتصاديّون أنّ الولايات المتّحدة ستحتاج في غضون الأعوام القليلة المقبلة إلى توفير ما يُعادل ( 6 ) تريليون دولار أميركيّ لتدارك ذلك العجز، من أصل الدّين العامّ الذي بلغ، فقط في عام ( 2011م ) ما يقارب ( 15 ) تريليون دولار، ثلثه للشّركات الدّاخليّة و "الحكومات الاتّحاديّة"، و ثلثاه لجهات خارجيّة ( الصّين- اليابان- بريطانيا، بشكل رئيسيّ ) ..وأَمّا الآن فقد تجاوز الدينُ العام حجمَ الاقتصاد الأميركي نفسه واقترب من حدود ال 20 تريليون دولار.
و هذا ما لا يكفي فيه أيّة سياسة نقديّة داخليّة في الولايات المتّحدة أمام نقاشٍ دائرٍ ما بين "مجلس الشّيوخ" و "البيت الأبيض" على إقرار "مشروع قانون" ترتفع فيه "ميزانيّة الحرب" الأميركيّة، وحدها، إلى ما يقارب "تريليون" دولار، سنويّاً، في سنوات ولاية ( ترامب ) للرّئاسة الأميركيّة، في أوساطٍ تقليديّة معروفة من هيمنة "الكارتلات" الاحتكاريّة على وسائل الإنتاج و الأصول الثّابتة و إقصاء "الحكومة الفيدراليّة" عنها، ما يفسّر خطر السّياسة الأميركيّة على العالم في الاستثمار في الحروب و التوتّر و التّناقضات و "الثّورات" المزعومة و التّسليح بغرض "التّسلّح الوقائيّ".. !
ليس من المنتظر، إذاً، أن ترعوي الولايات المتّحدة عن سياساتها العُنفيّة في العالم من أجل المزيد من استغلال العالم و إرهاقه بمطاليبها التي لا تنتهي.
أميركا دولة تقتات على العنف. و من الطّبيعيّ أنّها سوف تلجأ، دائماً، إلى توتير العالم و منه منطقتنا الغنيّة بأسباب التّوتّر و الاقتتال كما هي غنيّة بأسباب الاستثمار الماليّ و النّهب الإمبرياليّ.
يطرح المستقبل القريب في سورية، تحدّياً مباشراً بخصوص الاستراتيجيّات الاقتصاديّة و السّياسية و الثّقافيّة في مرحلة إعادة الإعمار، و ذلك تبعاً للتّحوّل الاستراتيجيّ الأميركيّ- الغربيّ، على ما قلناه أعلاه، في إدارة و استثمار الصّراعات القائمة في المنطقة و تلك المرشّحة للاندلاع..
نحن لسنا أمام تحدٍّ تقنيّ أو تمويليّ، فحسب، و إنّما تقوم مهمّتنا في مواجهة تحدّيات شتّى كما أوضحنا في أوّل هذا الحديث.
ينتج عن هذا أنّ التّحدّي الأكبر يكمن في البحث في ضرورات "الإدارة" المعرفيّة و واجباتها السّياسيّة..
و هذه مسألة تأهيل "فوق أكاديميّ"! إنّها مسألة تأهيلٍ في مستوى المسؤوليّة القياديّة السّياديّة الوطنيّة التي تحتاج إلى مؤسّسات بحوث و دراسات و عاملين أكْفَاءٍ من خارج النّمطيّات الوظيفيّة المعهودة في "الوظيفة العامّة" السّوريّة، الذين تحكم أغلبهم عقليّة المزرعة و الأخويّة و "الدّكان".. ، إلخ؛ (!!؟)؛ و لكنْ من أولئك المتوفرين، أيضاً، في هذا الوطن!
يرافقنا التّحدّي المصيريّ، و سوف يرافقنا، إلى أمدٍ بعيدٍ و دائم.. و في ربط العمل بنتائجه، ليسَ أفضل، اليومَ، من اقتحامٍ لعالم الفلسفة الاقتصاديّة و السّياسيّة البراغماتيّة التي تؤسّس لطريقة في العمل تحاول "تفسير كلّ فكرةٍ بتتبّعِ و اقتفاءِ أثر نتائجها العمليّة كلّاً على حدة" كما يقول فيلسوف "البراغماتيّة" الأشهر ( وليام جيمس: 1842- 1910م )؛ و ذلك بغضّ النّظر عن التّنظيرات "الأخلاقيّة" التي استهلكتها منظومة "الفساد" في البنية الهيكليّة في الوظيفة و الإدارة العامّة في تاريخ الإدارة في سورية.
يُفضي بنا القول، بالنّتيجة، إلى أنّنا نحتاج، اليومَ، في سورية إلى " إدارة " بالمزاولة ... .
لقد كان أوّل من أدخلَ هذا "المفهوم" إلى تعزيز "العمل"، مؤسّس "البراغماتيّة" الأميركيّ الشّهير ( تشارلز بيرس ) المولود في كامبردج :( 1839- 1914م ).
تعني " المزاولة "، على ما تعنيه في المألوف، " المعاصرةَ " الدّائمة للفعل ، لنتائجه ، و ذلك عبر "الممارسة" و "المحاولة" و "المعالجة" في وقتٍ معاً.. و هذا أبلغ الدّروس "البراغماتيّة" التي علينا تعلّمها في السّياسة و الاقتصاد و "الإدارة" باجتماع.
من ضرورات "الاستراتيجيّة" القدرة على "المواكبة" في تنفيذ "الأفكار" .. كلّ الأفكار الطّموحة و الأهداف المرسومة ، لا يمكن تحقيقها خارج المعاصرة الواحدة المشتركة ما بين التّخطيط و وضع السّياسات و الأهداف ، و تنفيذها تحت ضوء الرّقابة الدّائمة لإصلاح الخلل البنيويّ أو الهيكليّ في "الخطّة"، أو الخلل البشريّ المتمثّل بالتّقاعس و العجز و الانحراف بالأهداف.
أمام الاستراتيجيّات الأميركيّة و الغربيّة المبتكرة و المطوّرة، باستمرار، و التي تُمارسُ علينا في المنطقة، لا بدّ للقيادات المعنية بإدارة الوطن ، من ابتكار أدوات استراتيجيّة جديدة و استراتيجيّات مكافئة لتفادي التهامنا من قبل الغرب.
نحن، فعلاً، مهدّدون بالالتهام و الزّوال، بواسطة تحدّيات المشروع الإمبرياليّ العالميّ، ما لم نستطع أن نشارك في محو "القدر الأميركيّ" على العالم. .
و علينا من جديد ابتكار فلسفة و سياسات تحالفيّة خاصّة في السّلم كما في الحرب، مع العلم أنّ الحرب مفهوم مستمرٌ بكلّ شكل و وسيلة مجرّبة أو غير مجرّبة، أيضاً.
و إذا كان الحدثُ العالميّ الذي يبرقُ للأحاسيس ، لا ينتهي في مكانٍ حتّى يبدأ في مكانٍ آخر، كما جئنا به في رأس هذا الحديث، فإنّ الاستراتيجيّات الوطنيّة عليها، كذلك، أن تواكب التّحوّلات الاستراتيجيّة الدّوليّة في العالم و المنطقة، بحيث لا نغدو معزولين أو منعزلين عن العالم في بوتقة ثقافاتنا المجترّة و المتردّدة، و لو كلّفنا الأمر خوض التّجارب الفلسفيّة السّياسيّة في السّيادة و القرار، إلى درجة "المغامرة" المفضّلة، في كل الأحوال، على تكرار المجرّب من السّياسات و المشاريع التي أفضت بنا إلى ظروف من التّخلّف ، كانت أن شكّلت إسهاماً حيّاً في كارثة هذه الحرب.