يوماً بعد يوم يتقلص هامش المساحة التي يستطيع فيها الطرفان الروسي والأميركي القتال بالواسطة في سورية، فالمساحات التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة باتت تتقلص تدريجياً، وما هي إلا مراحل قليلة باتت تفصل الجيش السوري وحلفائه عن لحظة حقيقة المواجهة المتوقَّعة في إحدى الجبهات الثلاث: الشمال الشرقي السوري، أي المواجهة مع الأميركيين لاسترداد المناطق التي يسيطر عليها الأكراد (قسد)، أو المواجهة مع الأتراك لانتزاع الأراضي التي يسيطر المسلحون في إدلب ومناطق “درع الفرات”، وما ستأخذه تركيا اليوم بعد عملية “غصن الزيتون”، أو المواجهة مع المسلحين الذين يحظون بغطاء “إسرائيلي” وأردني في الجنوب.
وفي خضم المعارك المحتدمة في الداخل السوري، يتصاعد التوتر بين الأميركيين والروس، ويتطور لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة ليصل إلى التهديد النووي، واستعراض القوة النووية بشكل يفتح المجال لسباق تسلُّح جديد، كان قد أقلق العالم خلال منتصف القرن العشرين.
تقرير “الحالة النووية” الأميركي في شباط الماضي، أكد على مخاوف واشنطن من “عودة موسكو الحاسمة إلى التنافس بين القوى الكبرى”، واعترف بأن وزارة الدفاع الأميركية لاحظت تفاوتاً بين القدرات الروسية وتلك الأميركية ولدى حلف شمال الاطلسي، وأوصى الإدارة الأميركية بدعم البنتاغون لتطوير أسلحة نووية ذات طاقة منخفضة، وتطوير عناصر “الثالوث النووي” (صواريخ عابرة للقارات والغواصات الاستراتيجية وقاذفات القنابل).
في المقابل، لم يتأخر الرد الروسي كثيراً، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه السنوي إلى الجمعية الاتحادية الروسية، عنأنواع جديدة من الأسلحة “لا يملكها أحد بعد”،وأن بلاده ستعتبر أيّ هجوم بالسلاح النووي على أحد حلفائها هجوماً عليها، وأنها ستردّ فوراً على هذا الهجوم، مضيفاً أن “روسيا لا تنوي مهاجمة أيّ دولة أخرى”، وقال إن الروس اضطروا لتطوير تلك الاسلحة رداً على نشر أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية، وانسحاب “الشركاء” (الولايات المتحدة) من معاهدة الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية.
والأهم كان ما أكده بوتين من أن استعراض القوة هذا وتطوير الأسلحة هدفهما “دفع الشركاء الأميركيين إلى إجراء حوار”، معلناً خيبة روسية واضحة من التصرفات الأميركية بقوله “حينها، لم يرد أحد أن يتحدث إلينا، ولم يصغ أحد إلينا.. اسمعوا إذًا الآن”!
هو شعور روسي بـ”الإذلال” والخيبة، مما يعتبره الروس “عنجهية” أميركية في مخاطبة الروس واحترام مصالحهم الأمنية والقومية في محيطهم الإقليمي، فلقد حاول أوباما دائماً أن يثبتأن روسيا دولة إقليمية فقط وليست دولة عالمية، وها هو البنتاغون والتحالف الدولي يستفزون الروس يومياً في سورية، ولا يتورعون عن قتل مواطنين روس في دير الزور، ويزوّدون المجموعات المسلَّحة بصواريخ لإسقاط المقاتلات الروسية وقصف حميميم.
لقد حاولت موسكو دائماً أن تفرض نفسها على الولايات المتحدة كقطب عالمي، إلا أن الأميركيين حاولوا تجاهُل المصالح الروسية، ورفضوا التعامل معها بندّية، إلى أن قام الروس بفرض ذلك عبر تكريس أنفسهم الممر الإلزامي لأي حلّ في سورية، وبدا أن النفوذ والهيبة الروسيتين باتا في أعلى مرتبة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ولغاية اليوم.
اليوم، بالرغم من امتلاكها معظم مقومات القوة، وبالرغم من أن الموقع الجغرافي لروسيا في الشمال، ووجودها في وسط قارة أوراسيا الكبرى، والذي يمنحها مجال رؤية بإشعاع 360 درجة؛ من النروج إلى كوريا الشمالية، ومن مورمانسك الواقعة في أقصى الشمال الغربي الروسي إلى مومباي في الهند، وبالرغم من العلاقات الاقتصادية الهامة التي تقيمها روسيا؛ علاقات اقتصادية هامة على ضفتي أوراسيا الكبرى المترامية الأطراف، مع قطبين موجودَين على طرفي القارة الأوراسية الكبرى، وهما: الاتحاد الاوروبي والصين.. بالرغم من كل ذلك، إلا أن استعادة الدور العالمي الروسي كانت دائماً دونه عقبات كثيرة، ليس أقلّها الرفض الأميركي للشراكة والاعتراف بروسيا كقطب عالمي يحق له المساهمة في القرارات العالمية، خصوصاً في المناطق الحيوية التي ترتبط به.
وهكذا، يمكن القول إن سباق التسلح والنفوذ العالمي الذي تمّ الإعلان عنه بوضوح، من خلال الخطابات النووية لكلا البلدين، يؤشر إلى مزيد من الانخراط العسكري الروسي والأميركي في سورية، خصوصاً في الفترات التي تلي التخلُّص من البؤر الإرهابية في الداخل السوري، والتوجُّه إلى الحدود الشمال الشرقية لسورية، ويؤشر إلى معركة كبرى تلوح في الأفق غير البعيد لاسترجاع الرقة ودير الزور وآبار النفط السورية، وعندها نكون أمام خيارين: إما أن تأتي لحظة الحقيقة فيتمّ إرساء تفاهمات بين الدولتين، درءاً لحرب لا يريدها أي منهما، أو يستمر القتال بالواسطة، مما يسهم في الاستنزاف السوري إلى فترة أطول.