"القدس" في شكلها الظاهر مدينة راقدة عند دائرة العرض 52َ,31ْ وخط الطول 13َ,35ْ على هضبة غير مستوية يتراوح ارتفاعها ما بين 2130 و2469 قدماً، وتبعد المدينة عن البحر الأبيض المتوسط حوالي 32 ميلاً (55 كم) غرباً، وعن البحر الميت 18 ميلاً (22 كم) شرقاً، وحوالي 26 ميلاً من نهر الأردن، وحوالي 19 ميلاً من الخليل جنوباً، و30 ميلاً من سبسطية شمالاً، وتبعد عن البحر الأحمر 250كم جنوباً.
هذه هي القدس في شكلها الظاهر، الذي تتفوّق عليها فيه عشرات المدن في العالم من تلك التي تشقّها الأنهار، أو تخصّب فيها الزراعات، أو تقوم فيها الصناعات الثقيلة والخفيفة بكثرة ووفرة.
القدس وطنٌ في مدينة لا مدينة في وطن
لكن القدس في حقيقتها و"شخصيتها" التاريخية والدينية شيء آخر، فهي هوية المكان من حولها، والنقطة التي تنتشر منها البركة فتزداد أهميةُ ما حولها بها: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) (سورة الإسراء: 1).
وكما يقول مفكرنا الكبير المستشار طارق البشري: "ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس... القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقعٍ وعاصمة، فهي ليست برلين يمكن أن تحلّ محلها بون في الضمير الألماني، وهي ليست إستانبول يمكن أن تحلّ محلها أنقرة في الضمير التركي، ولكنها القدس بغير بديل".
وهناك اصطلاحات ومفاهيم ذات تعلق بالمدينة المباركة فيها بعض اللبس المحتاج إلى إيضاح وبيان؛ ولذلك أهميته في تعرف قضيتنا الأم، والذود والدفاع عنها.
الاحتلال وتمزيق الجسد القدسي
قبل الاحتلال البريطاني البغيض لفلسطين (سنة 1917م) لم تكنْ هناك سوى قدس واحدة، هي تلك التي تحيط بها أسوار سليمان القانوني التي بناها السلطان الكبير في منتصف القرن العاشر الهجري، إضافةً إلى مجموعة من الأحياء أقامها العثمانيون خارج سور القدس في الشمال والشرق والجنوب، مثل حي الشيخ جراح في الشرق، وحي المسعودية في الشمال...
وفي أثناء الاحتلال البريطاني تلاعب المندوبون الساميون بالحدود البلدية للمدينة المباركة، فركَّز رسمهم لحدود بلدية القدس على التوسّع جهة الغرب عدة كيلومترات؛ حيث الكثافة السكانية لليهود أعلى، أمّا في الجنوب والشرق حيث السكان عرب فلم يتجاوزْ الامتداد بضع مئات من الأمتار، فمُنِعت قرى عربية كبيرة من الدخول ضمن الحدود البلدية للقدس، وهي قرى: الطور، ودير ياسين، وسلوان، والعيسوية، والمالحة، وبيت صفافا، وشُعفاط، ولَفتا، وعين كارم.
هنا ظهرت القدس كمدن عدّة لا كمدينة مسلمة واحدة– كما هو المعتاد:
– فـ"القدس القديمة" أو العتيقة هي تلك الموجودة داخل سور سليمان القانوني، ومساحتها 8,71 دونماً (الدونم= 1000م2)، وطول السور 4,20كم2، وتقوم على أربعة جبال هي: جبل الموريا، وجبل صهيون، وجبل أكرا، وجبل بزيتا، ويوجد الحرم القدسي الشريف في الجنوب الشرقي للقدس القديمة فوق جبل الموريا.
– و"القدس الشرقية" هي القدس القديمة نفسها مضافاً إليها الأحياء التي زادها المسلمون خارج السور، مثل حي الشيخ جراح، وحي باب الساهرة، وحي وادي الجوز. وقد ظهر هذا المصطلح مع احتدام الصراع بين المسلمين واليهود في فلسطين قبل قيام الكيان الصهيوني، فقد تركّز العرب في شرق المدينة بأغلبية كبيرة، في حين تركّز اليهود بأغلبية ساحقة في غربها، فسُمِّي القسم الشرقي بـ"القدس الشرقية"، وأُطلق على الجانب الغربي اسم "القدس الغربية".
– و"القدس الغربية" هي القدس الجديدة التي نشأت في ظلّ الانتداب البريطاني على فلسطين؛ لتستوعب الهجرات اليهودية المتتالية، وقد اتسعت اتساعاً كبيراً، وضمّها البريطانيون إلى الحدود البلدية للقدس عام 1946م، فصارت مساحة القدس كلها 19000كم2؛ أي أكثر من عشرين ضعفاً من القدس العتيقة.
– و"القدس الموحدة" مصطلح يستعمله اليهود دلالةً على القدسيْن معاً (الشرقية والغربية)؛ لأنّ المدينة انقسمت عقب حرب سنة 1948م، فسيطَر الصهاينة على الجانب الغربي منها، واحتفظ الجيش الأردني بقيادة عبد الله التل -رحمه الله- بالجانب الشرقي، وحين سيطر اليهود على القدس كلّها يوم 7 يونيو سنة 1967م وحَّدوا المدينة وأصرّوا على فكرة "القدس الموحدة عاصمة أبدية لـ(إسرائيل)!!.
- و"القدس الكبرى" هي القدس الموسَّعة التي يحاول الصهاينة بها صنع هوية للمدينة تنمحي معها هويتها الإسلامية، فتبدو الأغلبية السكانية اليهودية كاسحة، وتصبح مساحة الأرض التي يسيطر عليها العرب صغيرة جدّاً بالنسبة لما يسيطر عليه اليهود.
ويستهدف مشروع القدس الكبرى تطويق الأحياء العربية في المدينة القديمة، وفصلها عن الأحياء العربية القائمة خارج السور؛ لإجبار العرب على معيشةٍ صعبة تذوب هويتهم معها، أو يضطرون إلى الهجرة من بيوتهم وأوطانهم.
على أية حال، فإنّ القدس بقديمها وجديدها وشرقها وغربها مدينة عربية إسلامية، فاليهود حينما وسَّعوها لم يأتوا بأرضٍ من عندهم، وإنما اقتطعوا من مناطق أخرى من فلسطين المحتلة، التي نزلوا بها ضيوفاً في زمن بعيد، وعاشوا أعزّة، ثم دار الزمن دورته، فعادوا يقولون: أورشليم هي بلدنا وبلد أجدادنا!!.
المسجد الأقصى نبض القدس الأسير
إضافةً إلى السور الذي يحيط بالقدس العتيقة هناك سورٌ تاريخيّ آخر في المدينة هو سور الحرم القدسي الواقع فوق جبل الموريا في الجنوب الشرقي للقدس العتيقة، ويبلغ طول الضلع الغربي للسور 490م، والشرقي 474م، والشمالي 321م، والجنوبي 283م. ولا يضمّ الحرم داخل أسواره بناءً واحداً فقط، بل عدداً كبيراً من الأبنية الإسلامية، أشهرها قبة الصخرة.
والمصطلح التاريخي "المسجد الأقصى" إذا أُطلِق مقصودًا به العموم (كما كان يفعل أسلافنا قبل القرون المتأخرة)، فهو كلّ هذا الحرم القدسي الواقع داخل السور. وحسب هذا المفهوم فإنّ مسجد قبة الصخرة جزءٌ من المسجد الأقصى، ومسجد عمر الذي بناه أمير المؤمنين عند فتح المدينة وجدّده عبد الملك بن مروان فيما بعد- هو أيضاً جزء من المسجد الأقصى.
وأهمية بيان هذه المسألة أنّها تحدّد البقعة التي يُضاعَف أجر الصلاة فيها، فيكون بخمسمائة صلاة فيما سواها، إلا المسجدين الحرام والنبوي، فالمضاعفة تشمل أرض الحرم كلها، وليست خاصة بمسجد عمر ومسجد قبة الصخرة.
غير أنّ البعض يطلق اسم "المسجد الأقصى" على مسجد قبة الصخرة ذي القبة الذهبية اللامعة، ويظن أُناسٌ أنّ هذا خطأ "فادح"، ومحاولةٌ لتزوير تاريخ المسلمين وآثارهم! وما هو بالخطأ الفادح ولا شيء، فالذي يجيز أنْ نطلق على مسجد عمر –وهو جزء من الحرم الأقصى- اسم "الأقصى"، ليس له أنْ يمانع في إطلاق هذا الاسم على مسجد قبة الصخرة -وهو الآخر جزء من الحرم- وإنْ كان الأولى والأفضل أن نحتفظ لكلّ موضع من هذه الثلاثة باسمه، حتى نعرف جيداً الأحكام الشرعية ذات العلاقة بالمسجد المبارك.
وأخيراً هناك في القدس مسجدٌ يُسمَّى "المسجد العمري"، يختلف تماماً عن مسجد عمر الموجود ضمن أرض الحرم، فالثاني بناه الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه- أوائل القرن الأول الهجري، وجدّده الأمويون والعباسيون ومَن بعدهم، وتبلغ مساحته الآن من الداخل أربعة آلاف وأربعمائة متر. وأمّا المسجد العمري، فقد بناه الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ في الموضع الذي صلَّى فيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين رفض أنْ يصلّي داخل كنيسة القيامة.
_____________________________
المراجع:
-فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ190، ترجمة: د. عبد الصبور شاهين".
-القدس (تقرير شهريّ يصدر قي القاهرة) العدد التجريبي، شعبان 1419هـ، ديسمبر 1998م.
-حروب القدس في التاريخ الإسلامي: ياسين سويد، دار الملتقى للطباعة والنشر، بيروت 1997م.
-فلسطين والانتداب البريطاني: 1922-1929: كامل محمود خلة، طرابلس، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1982م.
-فلسطين أرض وتاريخ: محمد سلامة النحال.
المصدر: موقع مدينة القدس