بالتوازي مع انشغالاته في اللغويات واللسانيات والفلسفة التحليلية، فإنّ المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي منشغل بالظواهر الإرهابية، وقراءة الخطاب الذي تتكئ عليه تيارات التكفير، والإسلام الجهادي.
تشومسكي، الذي ما يزال، رغم وصوله السابعة والثمانين نشيطًا ومعارضاً سياسياً، يرى أنّ "داعش" مجرد "مسخ"، رغم أنها ظاهرة مهمة.
ويقول، في حوار أجرته معه الصحفية ميليسا باركر من موقع "سماشين إنترفيوز"، وترجمته صفاء الزرقان ونشر في موقع "إضاءات" الإلكتروني، إن أول ما يتعين علينا، قبل مقاتلة "داعش"أن نفهم ماهيتها ومن أين أتت. إن سكوت أتران Scott Atran على سبيل المثال قد قام بجهد بحثيّ كبير مُتعلقٍ بخطاب داعش، دراسًا أعضاء داعش، أعضاءها السابقين والمُجتمعات التي يستمدون الدعم منها. إنها ظاهرة مُهمة جدًا؛ فهي مسخ لا شكّ في ذلك، لكن من أين أتى ذلك المسخ؟. إذا نظرنا إلى الوراء، فإنها عائدةٌ بشكل كبير لغزو الولايات المُتحدّة للعراق، الغزو الذي دمّر البلاد، وقتل مئات الآلاف من الناس، وأوجد مليونيْ لاجئ، وحرّض على الصراع الطائفي. لم يكن أيّ من هذا قبل العراق، كانت ثمّة خلافات بين طائفتين مُتعارضتيْن أو شيء ما، لكنّ الدولة كانت مُتحدة، فالعائلات الشيعيّة والسنيّة كانت تعيش في الأحياء ذاتها.
إذا نظرنا إلى الوراء، فإن ظهور "داعش"عائد بشكل كبير لغزو الولايات المُتحدّة للعراق، حيث دمّر الغزو البلاد، وقتل مئات الآلاف من الناس، وأوجد مليونيْ لاجئ، وحرّض على الصراع الطائفي.
إنّ أحد عواقب الغزو، في نظر تشومسكي، هو التحريض على الصراع الطائفي الذي مزّق أوصال الدولة والمنطقة. وكانت القاعدة إحدى الجماعات الناتجة، والتي جاءت منها داعش. كان هذا عاملاً واحدًا، بينما العامل الثاني في تطور داعش هو السعوديّة، الدولة الإسلاميّة الأصوليّة التي يصفها بأنها "دولة دعويّة/تبشيريّة missionary، لديها العديد من الموارد بسبب النفط" وبالتالي وظّفوا تلك الموارد الضخمة في محاولتهم نشر عقيدتهم السلفيّة، فضلاً عن "تمويل المدارس القرآنية. والمدرسة (Madrassa) هي مدرسة إسلاميّة دينيّة، ومنها جاءت طالبان".
وتابع: سمّى الصحفي باترك كوكبورن Patrick Cockburn صعود الدولة الإسلامية واحدة من أخطر التطورات في العصر الحديث، وهذا عامل آخر. إنّ داعش فصيل مُتطرف من النسخة الوهابيّة للإسلام. والسكّان السنة في سوريا والعراق، حيث تأسست داعش ربما يكرهونها، لكنهم أيضًا يرون أنّها حامية. ففي هذا الصراع الطائفيّ المُروّع الذي تمّ التحريض عليه، يرونها كحامية نوعًا ما وبوصفها مصدرًا للاستقرار. بهذه الطريقة ذاتها، فكر العديد من الناس في أفغانستان؛ إذ اعتقدوا أنّ طالبان كانت تحميهم من المُجاهدين المُتطرّفين الذين كانت الولايات المُتحدة تدعمهم.
وبسؤاله عن التفجيرات في فرنسا، يعتقد تشومسكي أنّ الجهاديين الذي يأتون منها ينحدرون، من أحياء مُضطهدَة جديًّا، حيث الناس يُذَلّون ويُهانون. "هناك احتقار عنصريّ لهم، يعيشون بلا أمل، بلا أيّة فرصة لدخول المجتمعات التي جاؤوا منها في الدول التي دمرتها الوحشية الفرنسية منذ أكثر من قرن، مثل الجزائريين ومَن هم مِن أجزاء بغرب أفريقيا".
إنهم مريرون جدًا، يقول المفكر الأمريكي، أُناس صغيرو السنّ يريدون شيئًا في الحياة، يريدون شيئًا ما، يريدون دافعًا ما، يريدون شيئًا ما يمنحهم الكرامة. من هنا يأتي الجهاديون، جاء معظمهم من خلفيات ذات معرفة إسلاميّة قليلة جدًا، لا يعرفون القرآن أو أي شيء إطلاقًا. إنهم يبحثون فقط عن شيء ما في حياتهم، وهذا يدفعهم إليها.
وبسؤاله عن الحاجة الضرورية لدراسة السيكولوجيّة الكامنة وراء هذه الجماعات الإرهابيّة ردّ تشومسكي: أول شيء يتوجّب علينا فعله لمكافحة داعش هو أن نفهم كلَّ ما يتعلق بها، ألّا نطلق اللعنات فقط، بل أن نتساءل عمّا تكون. لا شكّ أنهم ارتكبوا أعمالاً وحشيّة مُروّعة، لكنّنا لسنا استثناءً تمامًا من ذلك. بلجيكا الآن واحدة من الدول التي تعاني من فصائل الإرهاب الإسلامي، ما هو سجلها؟، ربما تكون أغنى مُستعمرة في أفريقيا التي كان من الممكن أن تقود أفريقيا لتحقق تطورًا هائلاً. وها هي الكونغو التي كانت يديرها البلجيكيون، لقد كانوا فقط يذبحون الناس، ربما قتلوا عشرة ملايين شخص، لأنهم لم يكونوا يجلبون المطاط بما فيه الكفاية.
هناك سجلٌّ طويل يوضح أنّك عندما تهاجم حركات التمرّد الراديكاليّة أو حتى الأفراد الإرهابيين بالعنف، عادةً ما ينتهي بك المطاف إلى شيء أكثر سوءًا
وأضاف: حُرّرت الكونغو، في عام 1960، وكان زعيمها شابًا وطنّيًا واعدًا للغاية، وربما أكثر زعيمٍ واعدٍ في أفريقيا ناضل من أجل الاستقلال عن بلجيكا، اسمه باتريس لومومب Patrice Lumumb.كان من الممكن لهم أن يقودوا الكونغو بمواردها الهائلة لتساعد على تنمية أفريقيا. فما الذي حدث إذن؟ اغتاله البلجيكيّون، كانت وكالات الاستخبارات المركزية (CIA) مُكلفةً بقتله، لكنّ البلجيكيين وصلوا هناك أولاً، لم يقوموا بقتله فقط؛ فبعد أن قُتلَ قُطّعَ جسده إلى قطعٍ وإذابتها في حامض الكبريتيك. هناك الكثير من الأشياء من هذا القبيل، وبالتالي يمكنني أن أمضي قُدمًا فيها. لكن يجب علينا أن نفهم هذه الأمور. فإنّنا لا نحبُّ النظر إليها، بيد أنّنا بحاجةٍ إلى فهمها.
إذا فهمناها حقًّا، سنبدأ بمعالجة داعش من جذورها. سنسأل: من أين جاءت؟، سنتعامل مع هذه المشاكل. إنها مسخ، وعلينا بلا شك أن ندعم أيّ أشخاصٍ يُدافعون عن أنفسهم ضدّ جرائم داعش مثل الأكراد وسوريا تحديدًا. لنأخذ تركيا على سبيل المثال، حيث وقعت جرائم لداعش هناك اليوم، فقد سمحت للجهاديين بالتدفُّق إلى منطقة داعش مباشرة عبر حدودها، كما سمحت بتمويل داعش. إنّها تقوم علنًا بدعم جماعاتٍ جهاديّة مختلفة عن داعش، مثل جبهة النصرة. حسنًا، لا بأس، هذا ليس جزءًا من التاريخ القديم، إنه الحاضر، علينا أن ننظر لهذه الأمور.
وعن التدخّل العسكريّ الأمريكيّ، وجدواه في محاربة "داعش" يقولنعوم تشومسكي: هناك العديد من الطُّرق لقتال داعش جديًّا، لكن ليس باستخدام قصف تيد كروز (Ted Cruz) المُكثف. وفي الواقع، اضرب أيًّا من هذه الأشياء بمطرقة ثقيلة وسوف تجعلها أسوأ. هناك سجلٌّ طويل يوضح أنّك عندما تهاجم حركات التمرّد الراديكاليّة أو حتى الأفراد الإرهابيين بالعنف، عادةً ما ينتهي بك المطاف إلى شيء أكثر سوءًا. هذا هو رد فعل تيد كروز.
إذا كنا نريد أن نكون جادّين بشأنها، فعلينا اتباع مقترحات أشخاصٍ مثل سكوت أتران (Scott Atran) و ويليام بوك (William Polk) اللذين استوعبا الظروف الفعلّية، واللذين أوليا اهتمامًا لطبيعة جذورهما، واللذين جاءا بمقترحاتٍ ذات أصداء جيدة. عمل بوك لعدّة سنوات في أعلى مستوى في الحكومة الأمريكية مُخططًاً، فضلاً عن كونه مًختصًّا جيدًا للغاية في الشرق الأوسط. إن المقترحات معقولة، ليست دراماتيكيّة، فهي ليست مثل القصف المكثّف الذي بدا جيدًا نوعًا ما إلى أن نفكر كيف ستكون العواقب.
لا تزال أسوأ الجرائم الإرهابيّة مُستمرة في غرب أفريقيا بفعل بوكو حرام. والعديد من هذه الجرائم هو تفرّع للقصف في سوريا
لنلقِ فقط نظرةً على سجلات الخمس عشرة سنةً الماضية، فإن الخمس عشرة سنة الماضية هي ما يُسمى الحرب العالميّة على الإرهاب. إن الطريقة التي استُخدِمَتْ في الحرب العالميّة على الإرهاب هي العنف. هذا ما نجيده؛ العنف. لذا نحن نغزو، ونقتل الناس بطائرات بدون طيّار، ونمتلك كلّ أنواع الطرق لقتل الناس. ما هو أثر ذلك؟ ألقِ نظرةً، لخمس عشرة سنة مضت تركّزت الجماعات الإرهابيّة في منطقة قَبليّة صغيرة في أفغانستان، وهذا كلّ ما في الأمر. أين هم الآن؟، إنّهم في شتّى أنحاء العالَم.
لا تزال أسوأ الجرائم الإرهابيّة مُستمرة في غرب أفريقيا بفعل بوكو حرام. والعديد من هذه الجرائم هو تفرّع للقصف في سوريا. إنهم في غرب أفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. ونفذوا هجماتٍ في تركيا وباريس، وهلمّ جرا. ولقد نجحنا في نشرها من زاوية صغيرة في أفغانستان القَبليّة إلى معظم العالم. إنه إنجاز عظيم لاستخدام العنف. هل يُمكننا استخلاص بعض الدروس من ذلك؟ نعم، يُمكننا.