سلسلة الفكر الاستراتيجي - الحلقة الثالثة -
تقوم تجربة الإنسانيّة في الوجود بالاتّكاء على " مظاهر " قلّما تستوقفنا بجوهرها ، في اعتباراتنا ، أثناء انخراطنا في تعقّد و انسيابات التّنوّع و التّوالي ؛ مع أنّنا غالباً ما نلجأ إلى التّعمّق في مغزاها في أوقات نمرّ بها ، جميعنا ، في حياتنا اليوميّة ، أو في غير ذلك ، من التّأمّل و المراجعات.
هكذا يحكمنا في الحالتين مبدأان من الاطّلاع على " التّحوّل " و " الثّبات " ، فيما نحن متأكّدون فيه من شيءٍ ( أمرٍ ) يَخضع له مجموع عناصر كوننا المحدود ، اتّفقت التّجربة مع الحدس على أنّه قانون " ضروريّ " :
إنّه " السّيرورة " من وجه مؤكّد ، بينما هو " الصّيرورة " من وجه " خلافيّ " لغويّ و فلسفيّ .
ليست المفردات التي يستخدمها " المفكّرون " و " الفلاسفة " و " السّاسة " سوى مفاهيم تعبّر عن تجربة اجتماعيّة و إنسانيّة .. نحن مأخوذون عنوة في الفلسفة عندما نتساءل : ما الحقيقة؟ و هذا شأنٌ معرفيّ .
و كأنّنا كذلك نعيش تحت رحمة السّياسة و الأخلاق : ما العدالة ؟ و ذلك شأنٌ سياسيّ .
و نحن شئنا أم أبينا نعيش ، أيضاً ، في حضرة التّأمّل في الخلاص : ما هو الأفضل و الأطيب؟ و ههنا يتعلّق الأمر بالحقّ و الجمال .
في التّاريخ انشغلت " الفلسفة " بدافع إنسانيّ ، فرديّ و اجتماعيّ ، مركّب : وجوديّ - سياسيّ ، بمفهوميّ " التّحوّل " و " الثّبات " .. كان ذلك جرّاء المفارقات " الضّروريّة " التي يحياها الإنسان في العمل و الأخلاق.
هذا الأمر شقّ طريقه إلى " المعرفة " بالضّرورة.. و هكذا انقسمت الفلسفة منذ " البدايات " على " المفهوم " ، هذا إن لم تكن جميع فلسفات التّاريخ قد انقسمت على " المفاهيم " ، ظنّاً منها أنّها تُعنى ، في سياق ذلك ، بالمقولات.
لا مانع هنا من أن نذكّر بقضيّة تفوت الكثيرين و هي أنّ أوّل الفلسفات المعروفة في " حاضِرَتِنا " هذه ، إنّما هي فلسفات قامت على " الرّيبيّة " : skepticism جرّاء تنوّع الإجابات التي كانت تنهض أمام الأسئلة الوجوديّة الكبرى.. هذا يُخالف الكثير من المحفوظات الفلسفيّة التي تصنّف " الرّيبيّة " كمدرسة فلسفيّة.
يتّصل بذلك أنّ " المتفلسفين " الهواة يلجأون إلى إدخال " العدميّة "( النّيهليستيّة : nihilism ) و " الفوضويّة " anarchism ، في إطار" الرّيبيّة " ، و ما إليها من طرائق في " المنازعة " على المظاهر و الظّواهر و الواقعات ؛ مع العلم أنّ الأمر ليسَ صحيحاً لا في هذه الجزئيّة الأخيرة و لا في تلك الأولى ، أيضاً.
أعني أنّ " الرّيبيّة " ليست مدرسة فلسفيّة ، و لا كذلك هي تستغرق تلك " الطّرائق " ( أو النّزعات ) في التّعبير و التّفكير .. إنّها بالأحرى طريقة إنسانيّة ، شبه وحيدة ، في الانتماء.
نحن هنا نكاد " نجزم " ، تماماً - لولا ما سنقوله ، الآن ، مباشرة ! - بأنّه ما من نشاطٍ أو فعلٍ أو عمل إنسانيّ ، بالعموم ، إلّا و هو ينطلق من ، و يقوم على ، " الرّيبيّة " نفسها ، و ذلك في جميع مراحل " الكينونة " و " التّعيّن " ، و في أثناءِ كلّ " علاقة " لنا من علاقات " التّشتّت " ( Dispersion ) ( بالمفهوم الحضاريّ ) أو من علاقات " التّعبير " ( Expression ) ، بحضورنا في هذا العالم في " المكان " و " الزّمان ".
كان ( إنكساغوراس ) ، الفيلسوف الإغريقيّ المبكّر ، قد أكّد على كلّيّة الإله الواحد ( العقل الأبديّ : نيوس ) و مبدأ " الذّرات " التي تؤلّف مادة الكون .. كان ذلك قبل ( أفلاطون ) و ( أرسطو ) كعقليين .. و قبل ( ديموقريطس ) الذّريّ ..كان الأمر هنا و هناك ، يتبدّى باكتشاف " الثّبات " في معرضِ " التّحوّل " العرضيّ و العابر .. " العقل " ثابتٌ و " الذّرات " في تحوّل و تركيب .
( هيروقليطس ) ، فيما بعد ، وجد أنّ كلّ شيءٍ في تغيّر أبديّ و صيرورة ليس لها قرار .. كلّ شيء في تغيّر مستمرّ. غير أنّ غموضه و أسلوبه التّعبيريّ " التشبيهيّ " و " الإستعاريّ " البُكائيّ ، ربما أنّه كان يعكس إيماناً عميقاً بمفارقة " الدّلالة " في الثّبات أو الوضوح.
لا أحد يجرؤ على هذا القول ، إلّا أنّنا سنغامر به كافتتاحيّة في فهم " الثّبات " و " التّحوّل " في " التّضمين " الدّلاليّ لكلّ منهما.و سوف لا نقف بالتّالي عند " الفهم " العامّ لكلّ من " الثّابت " و " المتحوّل " كما درجت عليه عادات التّفكير و الأفكار.
في سياق ذلك ، و معاصرة لهيروقليطس ، كان ( بارمينيدس ) ، الفيلسوف الذي قال بتغيّر الظّاهر و " تحوّله " مع " ثباته " المطلق .. لا " شيء " عنده في تغيّر .. كلّ شيءٍ في ثبات .. و هكذا لا يصلح " الظّاهر " للعلم أو للمعرفة أو للقياس !.
و عليه تعلّم ( زينون الإيلّي ) و قال ، و درج على أستاذه ( بارمينيدس ) .. و بعدها بقليل جاء ( سقراط ) ليقول إنّ المعرفة لا تقوم من دون " المفاهيم ".
" المفاهيم " هي لغة " العقل " ، هي لغة " العالم " و " الكون " .. و الأمر هنا ، كما يبدو للقارئ الحصيف ، لا يتجاوز كونه " ريبيّة " كبيرة ، أيضاً ، من حيث استبعاد الدّور " الإنسانيّ " المباشر في " المعرفة " ، و إرجاء " الذّات " - الإنسانيّة - إلى ما هو تابع أو ملحق بالمفاهيم.
نحن - وفقاً لسقراط - ندرك " العالم " و ندرك " ذواتنا " عن طريق " جدل المفاهيم " و إمكانيّتنا في " التّواضع " أمام " الحقيقة .
نحنُ قلّما نعرف ، و لهذا علينا تفويض أمرنا إلى " الحكمة " التي بدورها لا تنشقّ عن أنّها الموقف الأبقى ، في المعرفة ، الدّال على " الشّك " العميق بالظّواهر.
هذا درسٌ آخرُ في تأسيس الفكر الغربيّ و الفكر العالميّ القائم على جدليّة " الثّابت " و " المتحوّل " في علاقات الإنسان بالواقع و " الأشياء ".
في إجمالي التّجاور و التّعاقب الزّمنيّ للفلسفة في ربوعها الأولى ، في حضارتنا هذه ، في اليونان القديمة ، نلاحظ حجم " الرّيبيّة " العميقة التي طبعت نواة فلسفة العالم ، و التّاريخ ، و مهدها المبكّر عند عمالقتها الكبار المؤسّسين.
يقترح أول فلاسفة اليونان " المنظومَويِين " الكبار أمثال ( أفلاطون ) و ( أرسطو ) أن الكون محكومٌ بتناغم و انتظام و عدالة : ( الكوسموس ) ( Cosmos ).
و كأنّنا هنا نتقدّم في الزّمن نحو الحاجة إلى اليقين .. إنّ كلّ بناءٍ يرغب في " الدّيمومة " و " الدّلالة " و البقاء و التّأثير ، إنّما يحتاج ، أوّلاً أو ثانياً ، إلى إدراك " الأشياء " بثباتها النّسبيّ.
غير أنّ " الثّابت " النّسبيّ هو ليس كذلك عندما يتعارض ، في سياق اليقين ، مع الحاجة الأكيدة إلى "التّحوّل" و " التّجاوز ".هنا قفزنا قفزة زمنيّة كبيرة من ( أفلاطون ) و ( أرسطو ) ، في ما قبل الميلاد، إلى ( هيغل ) في القرن التّاسع عشر الميلاديّ ، الذي قال بمثل ماقلناه أعلاه ، على أنّ " التّفاوت " بين " الثّابت " و " المتحوّل " هو ليس رهناً لمزاجيّة أو نزعة ذاتيّة أخرى في الفهم و الإدراك ، و لكنْ بما هما محكومان بقانون " الضّرورة " العقليّة التي تنسرد في تطوّر " الفكرة " الكلّيّة ، نفسها ، من حيث هي قصّة فوق زمنيّة يحكمها قانون " الدّيالكتيك " ( الجدل ) الشّهير ، عنده ، و القائل بثلاثيّة " المركّب " و " النّقيض " و " القضيّة " الجديدة التي تدخل في تركيبة ثلاثيّة أخرى من جديد ، لتكون " مُركّباً " أوّليّاً ، من ثمة ، في " تجادلٍ " جديد.
يخطئ الجميع تقريباً ، باستثناء الفلاسفة الحقيقيين و العقلاء و الأنبياء.. و قادة الفكر التّاريخيين و أمثالهم من العظماء ، في النّظرة إلى مغزى الحياة.
ليست الحياةُ هي هذا الرّدح من الزّمن الذي يقتطع مِنّا وجودَنا على هذا النّحو أو ذاك ؛ فيما نندمج نحن فيه من المكان و الزّمان دون أن ندري " دوافعنا " في التّشبّث بما يُشبه الأبديّة في العيش ؛ و إنّما تمتدّ الحياة ، حتّى على مستوى الفرد الواحد ، إلى " الفكرة " منها : و هي ما يكمن وراء عالمنا هذا فيما هو ثابتٌ و مستمرّ ، و لو بدا لنا أنّه متحوّلٌ أو متغيّرٌ أو يكاد .
و مع ذلك فإنّنا لا نستطيع " البناء " على أيّ " يقين " نحتاجه في " الاستمراريّة " و " السّيرورة " ، من دون أن ننظرَ إلى " الأشياء " باعتبارها تتفاوت في " التّحوّل " و " التّجوّل " و " الثّبات " ، و لكنْ على عكس ما ينظرُ إليه الكثيرون في الأمر . يمكن أن ننظر في هذا الأمر من جانب فلسفيّ على ماقلناه ، مع العلم أنّنا نحتاجه من باب يوميّ ، أيضاً ، و ذلك بالنّظر إلى التّفاوت الواقعيّ ما بين " الفلسفيّ " و " اليوميّ " ، في معرضِ " الموضوعيّة " ( Objectivity ) في الأحكام على أفعالنا المقترنة بأهداف و أغراض اجتماعيّة و سياسيّة ، تكون فيها المرجعيّة الحاكمة هي مرجعية " المصلحة العامّة " أو " مصلحة المجتمع " و " الضّرورة " ، مع تجاوز المصالح " الفرديّة " ، أحياناً ، عندما تتعلّق بأفراد قلّة لا يشكّلون ، في الاعتبار " العامّ " ، أيّة " مصلحة " دائمة للمجتمع أو للدّولة أو للأمّة .
إنّ هذه " الاعتبارات " أو " التّعبيرات " هي كنايات عن أفكار أجلَّ و أبقى من قيمة الفرد .. نحن ، ههنا ، ندخل من باب الواقعيّ و المباشر و المهمل في التّفكير ، و علينا ، لذلك ، أن نتريّث طويلاً في التّفريق ما بين " الثّابت " و " المتحوّل " في مناسبات و ضرورات الأحكام.
لم تثبت المنظومات المفهوميّة أو الثّقافيّة في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة ، بعدُ ، أنّها صالحة لمواكبة الأحداث السّياسيّة الكبيرة و الانعطافيّة في التّاريخ الحديث و المعاصر..
هذا جزءٌ ليس من " الثّابت " كما يحلو للبعضِ تصوّره ، و إنّما هو جزء من " الإستحالة " الخطابيّة التي تستولي على " التغيّرات " لتجعل منها ملحقاً بنسق غير تاريخيّ للتّفكير.
فالثّبات و التّحوّل لا يدخلان ، إذاً ، في " النّتائج " ، و إنّما يدخلان في " الأدوات " .. إنّها طريقة التّفكير و عَقدِ " التّحالفات " مع صورة الّلغة و حالات الاحترام أو الاحتقار لضرورات التّعبير ، ناهيك عن العجز التّقنيّ الذي تسببت به " ماضويّة " التّعبير في المنظومة " الكلاميّة " الإسلاميّة التي تنطّحتْ إلى أن تكون بديلاً للفلسفة.
إذاً ، يمكن القول إنّ " الثّابت " - بما فيه " السّياسيّ "! - هو تلك " الخرافة " التي يفضَل " الكثرة " أن يردّدوها باستمرار ، على أن يستطيعوا تأليف " الواقعة " التي يعيشونها ، من جديد..
ليسَ للكثرة " الشّعبويّة " أيّة طاقة على التّفرّغ ، و لو لأمدٍ يسير ، من أجل " التّواضع " أمام " الضّرورة ".
إنّهم مأخوذون بنفايات " الماضي " الذي يُكرّرهم ( تكريراً و تكراراً ) ليُعيد إلحاقهم بالمادّة الخاملة التي تصنع الماضي .. هذا هو " الثّابت " - السّياسيّ - و " الثّبات ".
و في المقابل من ذلك ، يكون "التّحوّل" و "المتحول"
باختصار .. فالتّحوّل ليسَ شيئاً " إبداعيّاً " ، مثلاً ، كما يذهب ( أدونيس ) ( في كتابه " الثّابت و المتحوّل " ) ، في مقابل " التّقليد " أو " الإتّباع " الذي ينسبه إلى " الثّبات ".. ؛ و إنّما " المتحوّل " هو معايشة العالم الذي ينساب فينا ، معايشة جريئة ننتسب إليها كما نحن ننتسب إلى أعمارنا و أسمائنا على الخصوص . [ أدونيس - الثّابت و المتحوّل .. بحث في الإبداع و الإتّباع عند العرب - دار السّاقي - بيروت- لبنان ].
[ لا يصلح كتاب ( أدونيس ) ، " الثّابت و المتحوّل " ليكون مدخلاً مناسباً إلى الحديث على " الضّرورة " الدّلاليّة التي تتحدّانا ، اليومَ ، في معرض الحاجة إلى فهمنا " التّحوّلات " السّياسيّة الكبيرة التي نعاصرها في " نهاية " هذه " الحرب العالميّة ". و هي ، أيضاً ، لا تشكّل لنا أيّة مناسبة ذات جدوى للدّخول في سياق هذا " الحدث " العالميّ الكبير.
لندعْ ، إذاً ، هذه " الاستعراضات " التي يسلكها " المثقّفون " ، اليومَ ، لانتسابهم إلى لغة " المعاصَرة " السّياسيّة عن طريق التّمسّح بأدونيس أو غيره ، تمسّحاً ثقافيّاً شكليّاً ، و لنقرّرْ أنّ ( أدونيس ) نفسه ما كان ليضع نفسه في هذا الاختبار بواسطة مؤلّفه المذكور.
أدونيس شاعرٌ و أديبٌ كبير و ليسَ فيلسوفاً سياسيّاً أو مرجعيّة اتّفاقيّة في الثّقافة السّياسيّة المعاصرة.
يلخّص ( أدونيس ) فكرة " كتابه " بإيجاز في أنّ " المعرفة " هي بالرّأي و ليست بالنّصّ و الخبر .. هو يتحدّث على " الأدب العربيّ " و " الشّعر العربيّ " و " الّلغة العربيّة " و " صدمة الحداثة في الشّعر العربيّ ".. إلخ ؛ و باختصار على " التّراث العربيّ " كما يقول هو نفسه ، فيما يُماهي ما بين " القِدم و الحداثة " ، من جهة ، و " الثّابت و المتحوّل " ، بالضّبط - الجزء الأوّل- ص ( 47) ].
لا يُبحث " الثّبات " و " التّحوّل " ، في المبدأِ ، انطلاقاً من " القِدَمِ" و " الحداثة " .. هذا اشتباه دلاليّ ليسَ أكثر .. و يبدو التّمايز أكبرَ بين " الدّلالات " عندما نأخذ بعين الاعتبار قضيّة أنّ " التّحوّلات " التي تطرأ في مجرى " الحداثة " قد لا تتعدّى أمر كونها " استحالات " شكليّة أو مضمونيّة لثوابت " مقدّسة " في " الثّقافة ".
و هذا يُعيدنا ، من جديد ، إلى حقيقة أثرناها ، سابقاً ، على هذه " الصّفحة " ، تؤدّي إلى الحاجة إلى تمييز احتكار " المقدّس " الرّمزيّ لجميع صنوف الضّرورة " الدّنيويّة " ، و منها " السّياسيّة " ، و لو جاءت هذه " الاحتكارات " في صيغة " منظومات " تعبيريّة " حداثيّة " .. نستطيع أن نمضي بالأمر ، ربّما ، إلى مثال " الثّورة " التي تُحدثها قوى " حداثيّة " في الواقع ، و بكلّ " التّصنيفات " الثّقافيّة - السّياسيّة التي تساندها في " المجتمع " و " العالَم "..
في الوقت الذي تحمل فيه هذه " الثّورة " مضموناً نكوصيّاً و طاقة سلبيّة سكونيّة و رجعيّة ، كتحوّلاتٍ تتحدّى فيها الكثيرَ من " الثّوابت " المصيريّة للأمّة و المجتمع و الدّولة..
فيما تقيمُ هذه " الثّورة " السّدودَ أمام " التّحوّلات " الحقيقيّة التي تختزن " ثوابتها " في جدليّة " الثّابت " و " المتحوّل " في مجرى التّاريخ .
إنّ " الثّابت " و " المتحوّل " ليسَ كلٌّ منهما اختياراً " جماليّاً " أو " أخلاقيّاً " أو " حَرَكِيَّاً " فارغاً كما تدّعي ذلك ثقافات " المعاصَرة " بكلّ تخرّصاتها الطّائلة ، و إنّما هو " معرفةٌ " واسعةٌ و عميقة باتّجاهات " القوّة " و " السّلطة " و " الاستراتيجيّات " في الموقف المعاصر من العالم و التّاريخ.
و طبيعيّ أنّ هذا لا يخرج عن إطار فهم " الضّرورة " التّاريخيّة التي لا يستطيع حمل لوائها إلّا " الأبطال " التّاريخيّون ، من كلّ صنوفهم..
بالإضافة إلى " الانتماء " إلى الحظيرة التي يؤطّرها ذلك الإطار .. و هذا أمرٌ لا يخضع ، أبداً ، للتّجربة الثّقافيّة و الخبرة التّقليديّة بمفاهيم " الصّراع " ، و إنّما هو يتجاوز ذلك إلى انقلاباتٍ عموديّة في " الوعي " تقودها مجموعة من " الدّوافع " التي تعي ذاتها في " محفّزات " تاريخيّة تحمل طابع " التّحدّي " التّاريخيّ للإجماع و الرّأي و " العقل " ، و بخاصّة كما قد فُهم هذا الأخير في نور " العقلانيّة " التي تعلو على " التّكرار ".
من الواضح أنّ الاتّفاق على " المدلول " في المنظومات الدّلاليّة المُستحدثة على إيقاع إدراك " الغاية " في الممكن و الضّرورة ، هو أمرٌ صعبٌ في عجالة كهذه .. و لكنّ ما يمكن تقريره ، الآن ، على الأقلّ ، لا يتطلّع إلى القول أكثر من أنّ يقول إنّ " الثّابت " نفسه في تاريخ الشّعوب هو إمّا أن يكون " مرغوباً فيه " ، تبعاً للحاجة و الوعي ، و هذا ما يحتاج ، بالبداهة ، إلى قادة تاريخيين ؛ و إمّا أن يكون ممّا هو عبء على حركة المجتمعات و الأفراد ، و لو لم يدرك هؤلاء أنّهم وقودٌ رخيصٌ لتحريفات " السّياسة " للضّرورة التّاريخيّة ..
هذه التّحريفات التي تُقدّم ، عادة ، في آنيةٍ براقةٍ تثير الشّهوة و الفضول ، و تبعث على اختيار شرب السّمّ بالإناءِ المُثير!.. و يُقالُ الأمر نفسه على " المتحوّل ".
فبعض " التّحوّل " مسوخيّة إنسانيّة و أخلاقيّة ، و بعضه صفاءٌ و نقاءٌ و اختلاف و امتياز..
الأخطر ، هنا ، هو أنّ " السّياسة " ضجيج عارمٌ في عصرنا ، يتداخل فيها " النّظام " و " الفوضى " و " الثّقافة " و " الإعلام " ، إلى درجة قد تختلط فيها مختلف تلك الحالات من الثّبات و التّحوّل ، فيعجز " التّمييز " العامّ عن أن يتمكّن من اصطفاء " الحقائق " التّاريخيّة الموجبة لصناعة " الحرّيّة " في " الاختيار ".
في السّياسة ، فحسب ، يستطيع الأفراد و الدّول أن يختاروا ما بين " القيد " و " الحرّيّة " إلى أبعد ما يمكن للتّصوّر أن يصلَ و يكون.
نحن ، إذاً ، أمام واقع شاسع من " الدّلالة " التي يتضمّنها كلٌّ من " الثّابت " و " المتحوّل " .. و يغدو هذا الواقع أكثر تركيباً ، أعقد ، عندما نحتاج إلى - و نحن نحتاج إلى هذا - التّطبيق العمليّ لوعينا بهذا الواقع.
و الحاجة الأوسع و الأكثر إشكاليّة ، في ذلك ، إنّما هي الحاجة إلى إدراك مغزى " الحدث " السّياسيّ العالميّ ، فيما يُحيط بنا في هذه الحرب التي تتناهى بقوّة معلّلة بالتّفوّق التّاريخيّ للسّياسة السّوريّة ، بما يتضمّنه هذا " التّفوّق " من دروس و اعتبارات لم تعد خافية على أحد في هذا " العالم ".
يحمل " الثّابت " ( Standing ) ، في " المدلول " ، عناصر الخيارات المصيريّة للأمم و الشّعوب و القادة و الأفراد ، بقدر ما يحمله ، من جانب آخر ، من جمود و رسوخٍ للسدّود و الانقطاعات السّياسيّة و الاقتصاديّة و الثّقافيّة التي كانت وراء التّناقضات الاجتماعيّة ، التي جعلت من " التّخلّف " التّاريخيّ الذي عبرناه ، في هذه الحرب ، أمراً ممكناً و واقعيّاً.
و إذا كان " التّجانس " التّاريخيّ الذي بشّرت به نتائج هذه الحرب ، يقتضي حالة واسعة من حضور و إنجاز هذا " المتحوّل " ( Mutative ) الواقعيّ و الرّمزيّ ، التّاريخيّ - السّياسيّ ، الذي من المفترض أن يكون هو " المجتمع " ، و لكنْ مع خطورة التّحوّلات الاجتماعيّة و " الأخلاقيّة " في البنية الرّمزيّة نفسها ، تحت ضغط " الألم " و " الحِداد " الاجتماعيين الواسعين ، و التي قد تتيح ما هو غير مرغوب في مستقبل الإنجاز.
هذا بالضّبط ما قصدناه ، في السّياق ، من القابليّة الأصليّة لوقوع " المدلول " الثّقافيّ لكلّ من مصطلحيّ أو مفهوميّ " الثّابت " و " المتحوّل " ، في التّركيب.
و أمام هذه " الإشكاليّة " الدّلاليّة ، ليسَ لنا إلّا أن نحتفظ بحقّ " المعرفة " في حسم ما يعترض " الثّقافة " الجماهيريّة من " عوارضَ ".. أو " أعراض " .. و لا يمكن أن ننهي هذا الحديث في نهاية واقعيّة تناسب حاجتنا إلى القراءة ، إلّا بإعادة دمج أفكارنا السّابقة على " الثّابت " و " المتحوّل " ؛ من حيث هما مفهومان إشكاليّان في الإسقاطات الثّقافيّة التّاريخيّة ؛ في نسق جديد آخر من الأفكار التي نأخذ فيها بالمضمون " النّسبيّ " و المتفاوت للمفهومين.
يُشير معجم ( لالاند ) الفلسفيّ إلى أنّ " العَرَضَ " هو كلّ ما يتساوى فيه التّصوّر الواقعيّ من إمكانيّتيّ " الوجود " و " الّلاوجود ".
و سوف يُساعدنا هذا ، من جديد ، على تحديد " المدلول " التّاريخيّ لعناصر و مُحدِّدَات " الثّبات " و " التّحوّل " في قراءة النّتائج السّياسيّة - الثّقافيّة لهذه الحرب.
و على أساس ذلك ، لنا أن ننظرَ إلى " الإنجاز السّوريّ " ، في إطار " النّظام العالميّ " ، بصفته " تحوّلاً " جوهريّاً في ثقافات الصّراع العالميّ ، كنجاحٍ تامّ في اختبارٍ عالميّ للثّقافة التّاريخيّة السّوريّة ، من حيث هي ثقافة حضاريّة أثبتتْ جدارتها التّكوينيّة و البنيويّة و الهيكليّة ، إنْ على صعيد " روح العصر " أو على قدرة المجتمع السّوريّ على استيعاب الصّدمات الثّقافيّة أو على القدرة الثّقافيّة السّوريّة على الصّمود ، دون الإنزلاق إلى الحرب الأهليّة ما بين مكوّنات المجتمع ، أو على صعيد تماسك الدّولة في النّظام السّياسيّ الذي أثبت آليّاته المرنة في المؤسّسات السّياديّة السياسيّة ، و في قدرته على التّعبير عن المصلحة التّاريخيّة للشّعب السّوريّ و على تمثيل هذا الشّعب ، بغضّ النّظر عن الاتّجاهات الاجتماعيّة الانحرافيّة ، التي أقامت جسورها مع " الماضي " و الثّابت من العناصر التّكوينيّة الجامدة ذات المظاهر الخاملة تقليديّاً التي كان تمثيلها ، و لا يزال ، يقع في خارج فضاء منظومة الدّولة السّوريّة ، سواءٌ داخل الجغرافيا السّوريّة أو خارجها.
و أمّا في الدّاخل ، فعلينا أن نقرأ مجريات الأحداث على أساس " الثّبات " في مجموعة القيم الرّوحيّة للفئات التّقدّميّة في المجتمع ، و التي استطاعت أن تختزل مشروعها ليكون مطابقاً مع مشروع " الدّولة " السّوريّة ، من حيث انتماء كلّ من المشروعين إلى المستقبل.
هنا كان واضحاً أنّ " التّجانس " الذي حقّقة المجتمع و الدّولة في علاقة مصيريّة ، إنّما كان نتيجة توفّر " الثّابت " التّاريخيّ من القوّة المرتبطة بالحقّ ، و لبيس العكس..
أعني أنّ ذلك المظهر أو المحصّلة لم تعكس " تحوّلاً " بقدر ما هي عكست " الثّوابت " المصيريّة نفسها ، تلك التي لا يمكن لها التّجزّؤ أو التّجزيء.
بينما كان الأمر أكثر تعقيداً في مسألة بروز فلسفة جديدة للدّولة جمعت آثار كلّ من " الثّابت " و " المتحوّل " في فلسفة السّياسة..
لقد تجاوز الأمر كلا مفهوميّ " الثّبات " و " التّحوّل " في منهجيّة " عميقة " للدّولة الوطنيّة السّوريّة ، حتّى صار ممكناً تصنيف النّظام السّياسيّ في سورية ، على أنّه من " الأنظمة " السّياسيّة " العميقة " في قائمة النّظم المعاصرة .
أرمي هنا إلى القول إنّ النّظام السّياسيّ في سورية تمكّن من تجاوز نفسه و أدواته التّقليديّة ، في جدليّة من العلاقة ما بين " الثّابت " و " المتحوّل " في صيغة قياسيّة من " القرار " السّياسيّ - التّاريخيّ ، الأمر الذي شكّل بحدّ ذاته حدثاً عالميّاً دان له ، بالقناعات ، مجمل النّظام العالميّ.
اجتمعت لسورية ، إذاً ، جملة من عناصر " الثّبات " و " التّحوّل " حتّى أكّدت فيها ، مرّة تاريخيّة أخرى ، حقيقة تماسك " الفكرة " التي تقوم عليها ظاهرة الدّولة الحديثة.
عندما تبقى الفكرة متماسكة ، تصبح جميع الأطراف الأخرى في معادلة " الوجود " تحصيل حاصل..
الفكرة تعبّر و ستبقى تعبّر عن نفسها في حلول متوالية و مستمرّة بواسطة متطلّباتها ، التي تجعل منها حقيقة خارجيّة تواكب أهدافها التي تنقذها في " التّحوّل " و " الثّبات " ، كما أنقذتها فيها عبر تاريخها الطّويل.
للتّاريخ ذاكرة مكانيّة و زمانيّة ، تجعل من صنائعه الإنسانيّة ثباتاً في المكان و استمراراً في التّحوّل في الزّمان.
لقد كان الدّرس التّاريخيّ الأبرز الذي جاء مع المحصّلات المتأخّرة للحرب ، هو أنّ الواقع العالميّ المعاصر ، بالجملة ، لا يمكن أن يكتفي ، في قابليّات تفسيره ، بالثّنائيّات البائسة التي تلجأ إليها " الثّقافات " و منظوماتها التّعبيريّة لعجز متراكم ، أصاب الأصول الثّابتة للعادات المتسرّعة في التّفكير.
يحسن بنا ، و بغيرنا ، أن ننظرَ إلى قصّة هذه الحرب العميقة بمنظار مستقلّ عمّا يريده " الآخر " .. الآخر بوصفه " داخليّاً " كان أم " خارجيّاً ".
لقد حان الوقت الذي فيه على السّوريين ، بخاصّة ، أن يُنتجوا مفاهيم " الدّولة " و " المجتمع " و " الحرّيّات " على نحو ابتكاريّ بعيد الرّؤية ، بدلاً من تكرار محفوظات التّردّد و الاستسهال ، التي غزت ماضينا في الثّقافة السّياسيّة ، على وجه التّحديد.
و هكذا ، فقط ، نعتلي ، مباشرة ، خشبة المسرح السّياسيّ في العالم ، و التي ازدحمت جدّاً بالأدوار الارتجاليّة في عدوى المسارات العالميّة السّطحيّة المقروءة بمفردات بخيلة.
إنّ مراكمة رأس المال الرّمزيّ ، السّياسيّ ، هو التّعويض الأبرز الذي يمكننا أن نمارسه ، مقابل " الخسارات " الأكيدة التي أصابتنا ، في التّراكم التّاريخيّ ، بفقرٍ شديدٍ عمّ الحاجات اليوميّة الأساسيّة ، فيما لم يصل إلى الإيمان بأنّنا عاجزون عن مواكبة العالم.
و ليس ما هو ضروريّ ، أكثر من أن نتجاوز ذواتنا في منظومة الاعتقاد السّياسيّ التّقليديّة ، التي لا تزال فيها العموميّات طاغية على كلّ مغامرة فكريّة ، تغري بالتّجربة المتناسبة مع الخبرة التي فرضتها هذه الحرب.
و حيث في سياق هذه " المغامرة " ، علينا أن أن ندخل في مخيالٍ سياسيّ جديد ، فإنّ الأولى - قبل ذلك - أن نكون قادرين على إعادة نقد " المصطلح " و على استعادته من فم الاستهلاك و الاجترار.
يخصّ هذا القصد جميع ما تستعمله " الثّقافة " ، و " الثّقافة السّياسيّة " بخاصّة ، من " إرث " يتنافد يوماً بعد يوم.
إنّه ليس مصطلحا " الثّابت " و " المتحوّل " ، إلّا مثالين ، و حسب ، من الأمثلة الغزيرة التي يسبح في عماء عاداتها الفكر ، العالميّ منه ، و كذلك الفكر المتقوقع في مواصفات لم تعد قياسيّة عالميّاً ، كما لم يستطع اختراق جدران المحدوديّة الفلسفيّة ( المعرفيّة ) التي يعاني منها في الصّميم ، بعد .
هذه " نقطة نظام " ، تنضاف إلى غيرها من " نقاط النّظام " التي طرحتها و فرضتها الحرب السّوريّة على فوضى الوعي ، في مَسيلِ الفاقة و المحدوديّة التي طغت على ثقافتنا ، حتّى اليوم !.
و على رغم ما يمكن أن تنفتح عليه نتائج الحرب ، حتّى الآن ، فإنّه من المؤكّد أنّنا وصلنا فيها - على الأقلّ - إلى مرحلة لم تعد قابلة للعكس الجهويّ أو الارتداد أو الهروب من فروض الدّرس السّياسيّ ، الذي يتطلّب لغة تعبيريّة جديدة ، تُحدث قطيعة " كاملة "(!) مع تقاليد " الأسلاف " الأجلاف و الأغبياء و المحدودين و المزوَّرين ، للخروج من تقاليد تِيهِ القرقعات الفارغة للتّحوّل و الثّبات.. !!؟