الكتاب يُقرأ من عنوانه. كان معلوماً قبل بضعة أيام من لقاء بنيامين نتنياهو مع باراك أوباما في البيت الأبيض أن “الجفوة” العابرة بين الرجلين قد انتهت. فمن ترتيبات الزيارة ومدتها التي خُطط لها أن تستمر 150 دقيقة، والغداء الذي يتخللها، والإقامة في مقر “بلير هاوس” المخصص لكبار حلفاء واشنطن، والإعلام الذي يغطي المناسبة بكل جوانبها... من كل هذه التفاصيل وغيرها ذهب نتنياهو مطمئناً إلى أن مطالبه ستستجاب.
ماذا حصل؟ ركّز نتنياهو على خمس قضايا رئيسة.
الأولى: مسألة الكتل الاستيطانية. قال إن حكومته والكنيست والرأي العام لا يسمحون بأن تبقى هذه خارج دولة “إسرائيل”، لذا فهو يريد من واشنطن تعهداً رسمياً بأن الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وفي محيط القدس ستكون ضمن حدود الدولة الصهيونية في إطار أي “اتفاق سلام” يجري التوافق عليه مستقبلاً، ودعّم مطلبه هذا بتذكير أوباما بـ“رسالة الضمانات” التي كان الرئيس السابق جورج بوش الابن قد سلّمها لرئيس حكومة “إسرائيل” السابق أريئيل شارون العام 2004، وفيها إقرار من واشنطن بأن وجود الكتل الاستيطانية الكبرى سيؤثر في الحدود النهائية، وهو ما فهمته “إسرائيل” دعماً أمريكياً لموقفها الداعي إلى ضم المستوطنات.
الثانية:مسألة الحدود النهائية للدولة الفلسطينية. قال نتنياهو إن هذه المسألة تتصل بأمن “إسرائيل” القومي ولا سبيل إلى بتها في مطلع المفاوضات بل في نهايتها، ذلك أن “إسرائيل” تريد استمرار وجودها العسكري على طول ضفة نهر الأردن الغربية من الشمال إلى الجنوب بما فيه شاطىء البحر الميت الذي لا يقل امتداده عن 37 كيلومتراً. وكانت السلطة الفلسطينية أعدّت مشاريع سياحية في هذه المنطقة، لكن “إسرائيل” منعتها من تنفيذها.
الثالثة:مسألة القدس، إذ تتمسك “إسرائيل” بها كعاصمة أبدية لها وترفض البحث في تقسيمها، وأن جل ما تستطيعه حكومتها في هذا المجال هو تعليق أعمال الاستيطان فيها أطول مدة ممكنة، لكن من دون التنازل عن “الحق” في العودة إلى البناء فيها.
الرابعة:مسألة تعليق أعمال الاستيطان في الضفة الغربية، إذ أكد نتنياهو مجدداً صعوبة تمديد فترة التعليق إلى ما بعد تاريخ انتهائه في 26/9/2010. غير أنه عرض مخرجاً قوامه دخول الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” في مفاوضات مباشرة قبل آخر سبتمبر/ أيلول المقبل بحيث تتوافر للحكومة “الإسرائيلية” الحجة الكافية لإقناع هيئات المستوطنين والأحزاب الدينية واليمينية المؤيدة لهم بتمديد فترة التعليق لإنجاح المفاوضات المباشرة.
الخامسة، مسألة العقوبات الدولية والأمريكية بحق إيران، إذ يعتبرها نتنياهو غير كافية ويقتضي تعزيزها بتدابير أمريكية وأوروبية إضافية أوسع وأقسى. ويتردد أن نتنياهو وعد أوباما بعدم إحراج واشنطن بضربة استباقية لإيران من دون ضوء أخضر مسبق منها، إلاّ أنه أبقى خياره مفتوحاً بالنسبة إلى طريقة مواجهة حلفاء إيران العرب، أي سوريا والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. ففي هذا المجال، قد ترى “إسرائيل” من مصلحتها شن حرب استباقية على حلفاء إيران المحيطين بها من الشمال (حزب الله في لبنان)، والشمال الشرقي (سوريا)، والجنوب (حركة “حماس” في غزة)، وهي تريد من الولايات المتحدة موقفاً مؤيداً لها محوره الحؤول دون مشاركة إيران في الحرب دعماً لحلفائها.
أوباما كان إيجابياً، على ما يبدو، تجاه نتنياهو في معظم مطالبه. فهو لا يمانع في ضم الكتل الاستيطانية الكبرى لـ“إسرائيل”، لكنه يريد ان يتحقق ذلك نتيجةَ المفاوضات مع الفلسطينيين ولقاء تعويض أرضي يحصل عليه هؤلاء في منطقة داخل “إسرائيل” يجري التفاهم في شأنها.
في مسألة الحدود النهائية، لا يمانع أوباما في تأجيل بتها إلى مرحلة لاحقة من المفاوضات المباشرة، لكنه يرى أن يتمّ التفاهم في شأنها مع الجانب الفلسطيني. وتردد أن أوساطاً في واشنطن تقترح نشر قوات دولية على طول ضفة نهر الأردن الغربية لضمان أمن “إسرائيل” بعد قيام الدولة الفلسطينية.
في مسألة القدس، ما زالت واشنطن تتمسك بمبدأ أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لكنها لا تمانع بأن يكون لها وضع خاص بداعي صون أمن “إسرائيل” ومراعاة “سيادتها” على المدينة.
في مسألة تعليق أعمال الاستيطان، ضغط أوباما على نتنياهو لضمان تمديد مهلة تعليق الاستيطان طالما المفاوضات قائمة. لذلك فقد وعد “نده الإسرائيلي” بأن يضغط على الدول العربية، لاسيما المعتدلة منها، وعلى السلطة الفلسطينية للقبول بمبدأ المفاوضات المباشرة وبدخولها قبل أواخر سبتمبر/ أيلول المقبل. أكثر من ذلك، دعا أوباما “الدول العربية التي تؤيد السلام” أثناء مؤتمره الصحافي المشترك مع نتنياهو، إلى ممارسة الدور المطلوب منها “لأن الفلسطينيين و”الإسرائيليين” لن يحققوا النجاح في مفاوضاتهم إلاّ إذا ساهمت الدول العربية المجاورة واستثمرت في العملية السلمية”.
في مسألة العقوبات بحق إيران هنأ أوباما نفسه وبلاده على العقوبات الدولية والأمريكية التي جرى اتخاذها لغاية الوقت الحاضر، ولم ينسَ إعادة التأكيد ل”إسرائيل” أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية.
ماذا يمكن استنتاجه من لقاء أوباما - نتنياهو وانعكاسه على الفلسطينيين والعرب؟
ثمة حقيقة راسخة ومزمنة وزادها اللقاء الأخير رسوخاً ووثوقاً، هي أن الولايات المتحدة تلتزم بقوة أمن “إسرائيل” وتعتبره جزءاً لا يتجزأ من أمنها. وعليه، فإن أي مقاربة لحل أي مشكلة عالقة بين “إسرائيل” وغيرها يُنظر إليها من منظار أمن “إسرائيل” ليس إلاّ، حتى لو اقتضى الأمر مخالفة أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وحقوق الأطراف المعنيين.
أمن “إسرائيل” يبقى فوق كل اعتبار، فالاستيطان والقدس والحدود النهائية وعودة اللاجئين وبرنامج إيران النووي وأي قضية أخرى، يجب النظر إليها من منظار أمن “إسرائيل” ومعالجتها بما يضمن هذا الأمن حتى لو اقتضى الأمر أن تواجه الولايات المتحدة كل تداعيات بقاء “إسرائيل” استثناءً لكل ميثاق أو معاهدة أو قانون أو قرار أو إرادة دولية.
هذه الحقيقة، بكل مضمونها المناقض للحق والعدل والإنسانية، جرى ترسيخها في لقاء أوباما- نتنياهو الأخير، وما على الغير إلا الامتثال والانضباط والتسليم. والغير، هنا، هم الفلسطينيون والعرب والمسلمون المطالَبون دائماً بالطاعة والرضوخ وتقديم التنازلات المتلاحقة إلى أبد الآبدين.
أجل، ثمة طريق باتجاه واحد في عالمنا المعاصر اسمه التنازلات العربية، التنازل أضحى شرط وجود وبقاء بل شرط تأهيل للتزيي بشرف الاعتدال والانخراط في نادي المعتدلين.
هل بات الاعتدال مرادفاً للاختلال؟
"الخليج"