سلسلة الفكر الاستراتيجي - الحلقة الثانية
على رغم جميع " مآثر " و مآسي هذه الحرب ، فإنّها لم تُفلح في أن تجعلَ الكثيرين من السّوريين وقوداً رخيصاً لها ؛ كما لم تُفلح الدّولة السّوريّة ، تماماً ، في إيصال خطابها السّياسيّ ، بالسّرعة الضّروريّة ، إلى العامّة.
لقد استحلّ البعضُ فرصةً تاريخيّة من حيث أنّهم وجدوا في الحرب ما لم يجدوه في السّلم من ظروف ، على صعيد ممارسة هوايات التّحلّل و التّخلّع و الجشع و التّطاول.. ، كما على صعيد اكتشاف إمكانيّة اكتشاف الجانب العدميّ في الحياة الذي يؤهّلهم لِيكونوا " فاعلين " أيضاً إلى درجة لا تقلّ عن فاعليّة الخاصّة و القادة و الزّعماء!
هذه الصّورة المعقّدة و الموضوعيّة و الصّعبة ، هي الواقع الذي يحكم و سيحكم ، مستقبلاً، نهايات الصّراع و مصائره ، في سورية.
لهذا فمن الأجدى أن نكون قادرين على التّنظير على المستقبل السّياسيّ لسورية ، مع أنّ الكثير من تباشيره صار اليوم رهن الوضوح العامّ ، و طبعاً في تجاوز التّفاصيل التي ستبقى ، دوماً ، رهناً لوقائع الحدث اليوميّ ، الذي كثيراً ما يفاجئ حتّى أقدر العقول و أوسعها استراتيجيّةً و شمولاً و واقعيّةً و عقلانيّة.
علينا ، في الفكر ، منذ اليوم ، أن ننظر بعين التّوقّع ، و الفهم ، إلى " استراتيجيّات " القوى الاجتماعيّة المعاندة للدّولة ، للنّظام العامّ ، و للنّظام السّياسيّ ، و التي لا تفتأ تعمل ، و ستعمل ، على تجيير أفضل النّتائج الوطنيّة التي خرجت ، و ستخرج ، بها الحرب ، لمصالحها التي لا تَنْبَتُّ عن المشاريع المنغلقة التي كانت وقوداً في تأجيج لهيب الحرب نفسها ، بما قدّمت لها من عِدّة و عديد و احتضانات مباشرة و غير مباشرة للإرهاب و العنف و العداء للدّولة و المجتمع و طرائق التّعاطي التّلقائيّة مع " الوطنيّة "و منظومات التّفكير.
من المفهوم ، و من دون الخوض في التّفاصيل ، كيف أنّ بعض تلك القوى الماضويّة و الرّجعيّة تحتلّ مكانةً " رسميّة " في الدّولة السّوريّة ، مختبئةً وراء شعارات و مزايدات و خطابات سياسيّة و أيديولوجيّة في أخاديد و مفاصل المؤسّسة و الإدارة ، في الوقت الذي تُمارسُ فيه جميعَ استعداداتها من أجل الانقضاض على نتائج النّجاح الوطنيّ و الانتصارات الشّعبيّة ، التي حقّقتْها الدّولة الوطنيّة السّوريّة في الميادين العسكريّة و الاجتماعيّة- السّياسيّة في أغلب مساحات الوطن.
إنّ الحشد و التّحشيد " الشّعبيّ " للإسلام السّياسيّ - كمثال - لا ينتهي على ما يبدو ، و إنّما يُعاد إنتاجه من جديد في كلّ " خطاب " يتمكّن من ذلك ، سواءٌ أكان هذا الخطاب أهليّاً أو مدنيّاً ، أم كان- و هذا الأنكى!- رسميّاً في " مؤسّسات " الدّولة ، سواءٌ في " نقد التّاريخ " الإسلاميّ - السّياسيّ ، أو في إعادة تدويره و استيراده إلى الحاضر.. !
هذا مثالٌ على الثّقافيّ (بأل التّعريف ) الذي لا يحدّه العامل "الثّقافيّ" (الاتّفاقيّ) و إنّما يتعدّاه إلى ما ليسَ له حدود.
إنّها حقيقة سياسيّة تاريخيّة هذه التي تقول باستحالة تخلّي القوى الرّجعيّة ، في أيّ مجتمع من المجتمعات المنغلقة ، عن برامجها و أدواتها و طموحاتها المختلفة ، و لو استطاعت أن تتغلّف أو تتبوّغ ريثما يتوفّر لها " المناخ " الملائم لتعاود انتعاشها من جديد.
و أمام حقيقة سياسيّة يُقرّ بها جميع المفكّرين السّياسيين الاستراتيجيين في الغرب و الشّرق ، و هي أن منطقة " الشّرق الأوسط " سوف تظلّ - كما كانت على الدّوام ، منذ الحرب العالميّة الأولى - مزعزعة و متصدّعة من الوجهة الاجتماعيّة و السّياسيّة ، في الوقت الذي يعني فيه هذا الأمر انفتاح الاحتمالات المختلفة على إعادة تجربة " الحرب " في أشكالٍ ناريّة مسلّحة للصّراع ، أو في أشكال أخرى متوقّعة أو غير ذلك ..
أمام هذه الحقيقة ، فإنّ احتمالات و وجهات التّفكير السّياسيّ الضّامن للوطن في " الدّولة "، يجب عليه أن يبدأ عصر " التّنظير المُخطّط "، فكريّاً و سياسيّاً ، منذ هذه الّلحظة ، بعد أن لم يكن كذلك في يوم من الأيّام.. !!؟
ربّما ما تزالُ احتمالات الانفجار الصّاعق ، في المنطقة ، قائمة حتّى قيام السّاعة السّياسيّة التي تصبح فيها دولُ المنطقة مستقلّة عمليّاً ، في " القرار " التّاريخيّ ، و قادرة على الرّدع أو ما هو أكثر من ذلك أيضاً.
و عندما نقول هكذا و نتّفق على ما نقول ، فإنّ المشكلةَ ، فعلاً ، إنّما تبدأ من تحت قدميك.
يجتمع الكثيرون من قرّاء السّياسة و المفكّرين السّياسيين ، على رأيِ أنّ القرن العشرين كان قرناً للمذابح و الحروب. . و أمام هذا لنا موقفان :
1 ـ الأوّل : هو أنّ هؤلاء لم يصلوا إلى القرن الواحد و العشرين ، بغالبيّتهم ، و إلاّ لشاهدوا افتتاحيّته الصّاعقة ، و ربّما لكانوا قد غيّروا أو خفّفوا من تطرّف أفكارهم هذا.
2 ـ و الثّاني :هو أنّنا في بداية قرننا هذا الذي افتتحته الحروب الطّامعة بواسطة العنفِ غير المسبوقِ ، علينا أن نُكثرَ من الاحتراس من أنّنا وارثون لقرنٍ ، أجمع أكابرُ نخبته على أنّه قرنٌ عنيف ، بالإضافة إلى ما نحياه اليوم من افتتاحيّة متوحّشة و بربريّة لقرننا المعاصر.
أمام هذين الموقفين ، لا بد من تحديد مغزى التّحفّظ أو التّحديد اللذين يستندان إليهما ، في وقت واحد.
كان لهذه الحرب نتيجة - و لو أنّها كانت خارج نطاق الأهداف ، أو ربّما لم تكن أيضاً كذلك.. - و هي زعزعة شبكة العلاقة الاجتماعيّة و النّفسيّة المستحدثة بواسطة السّياسة الوطنيّة المعاصرة ، في فترة معيّنة من الزّمن ، بالماضي الوطنيّ القريب.
لقد عملتْ أدواتُ الحرب السّياسيّة الدّاخليّة ، تلك المسمّاة " معارضة "، على تدمير التقاليد التي تراكمت منذ ما يقرب نصفَ القرن ، لسورية المعاصرة.
لقد تناول المحاولة ، كنتيجة موضوعيّة للصّراع ، على الأقلّ ، أسس العلاقات التي شكّلت بيئة ربط الأسباب بالنّتائج ، التي كانت بيئة لازمة و كافية في قدرتها على توجيه التّطوّر و مراكمة هذا التّطوّر في اتّجاهٍ بنائيّ.
أخذ ذلك " التّدمير " شكلَ تفتيت الآليّات الاجتماعيّة التي يرتبط بها الفرد - المواطن ، في تجربته المعاصرة المراكمة للجدوى و الانتماء ، بتجربة الأنساق الفكريّة السّابقة و أنماط الحامل الاجتماعيّ للأفكار و أنساقها ، التي كانت قيد الاستقرار ، مع جميع الأجيال السّابقة التي شكّلت بتضامنها التّاريخيّ الوطنيّ ، درساً اجتماعيّا موائماً للاجتماع. . هكذا كان الدّخول إلى " الاجتماعيّ " عن طريق " السّياسيّ ".
نحن هكذا ننظرُ إلى خطورة ما قامت به ما سُمّي و يسمّى بالمعارضة السّوريّة. . إنّ البعدَ الأخطر فيها و الذي لا يزال مشتغلاً في حقوله و فضاءاته في الممارسة المباشرة ، حصراً ، إنّما هو البعد " الثّقافيّ " الذي يبدو عليه " التّراجع "، و لكنْ فقط لاستحداث أدواته الجديدة المُطوّرة و المُحسّنة.
كان من باب التّقليل من الأضرار الاجتماعيّة في عدوى الظّاهرة ، في رفضٍ سياسيّ للانحرافات الوطنيّة الشّاملة ، موجّه و مقصود ، أن َنقبل على أكثر من المَضَضِ إعادة دمج المكوّنات المُناقضة للمجتمع.
البعضُ يقول لم يكن في ذلك خيار. . و الأحرى أن نقول إنّ ثمّة خياراً كان قائماً ، انطلاقاً من أنّنا لا ننظرُ إلى هذه المكوّنات المتنافرة في عمليّة الدّمج ، على أنّها القدّر السّياسيّ الوحيد أمام " المجتمع "، و لو أنّها يمكن أن تشكّل قدراً ثقافيّاً واحداً أمام " الجميع "، و لو إلى حين.
و على أنّ " التّعليل " الأفضل للعمليّة السّياسيّة الممكنة يكمن في " الثّقافيّ " الذي يشمل الكثير من مكوّنات " الاجتماعيّ " و " السّياسيّ "في كلٍّ من البنيتين التّحتيّة و الفوقيّة للدّولة و " النّظام "، فإنّ المنظومة الجديدة التي ننظر إليها على أنّها المنظومة الأكثر عمليّة لتوزيع القوّة و التّوجيه و الاستحداث و الإبداع ، و المتوفّرة توفّراً سخيّاً أمام " العمل " و التّأثير المؤكّد ، إنّما تواجهنا في " السّياسيّ "، في حقل " الثّقافيّ " بالتّحديد ..
و على هذا الأمر ينبغي أن يتوقّف الكثير من مستقبل تخطيط " الدّولة " بدءاً من " الدّستور " و مروراً ب" القانون " و معاصَرَةً - و ليس نهايةً.. - لبرامج التّأهيل و إعادة التّأهيل.
إنّ " الثّقافيّ " عاملٌ واسع و مضمار بلا حدود.
يبدو لغير المشتغلين بالسّياسة و لغير المجرّبين بالشّأن العام ، أنّ الإطار العامّ للثّقافة هو إطار محدود بالمضمون الّلغويّ للتّسمية أو بما يتجاوزها بقليل.
على أن هذا يعود لضحالة التّجربة " الثّقافيّة " نفسها تلك التي يتبنّاها هؤلاء في معرض الاطّلاع و الانتماء و التّطبيق.
يدخل في " الثّقافيّ " الكثير من أسباب النّتائج التي تبدو غير مفهومة و بلا أسباب مفهومة أو واضحة. . ففي هذا الإطار يجتمع ما هو من المكوّنات من " الهذيانات " الاجتماعيّة و النّفاق الأخلاقيّ الذي استطاعَ أن يحتكر شرعيّة الأخلاق.. ، و حتّى إمكانيّات الابتكار و القدرة على التّواؤم و التّمثّل و الانعكاس.
في التّاريخ لا يبدو ، يقيناً ، أنّ الاهتمام الإنسانيّ بالقضايا أو المسائل الاجتماعيّة و السّياسيّة ، أحدثُ عهداً ( أو أقدمُ عهداً.. ) من الاهتمام العلميّ ب" الكونيّات " أو " الطّبيعيّات " أو " التّطبيقيّات "[ هذا تبنٍّ لكلام قال مثله ( كارل بوبْر )..].
هذه حقيقة نسوقها على إيضاح عمق تداخل العلاقة ما بين الأبعاد التّكوينيّة الثّقافيّة ( الشّاملة ) للإنسان في معرض الحاجة إلى الانسياق وراء لغة المصير.
إذاً نستطيع أن نؤكّد ، إلى ذلك ، على أنّ التّفوّق " المعرفيّ " البشريّ ل" الذّات " المكوَّنة تكويناً " ثقافيّاً "، إنّما كان حصيلة للقفزات المركّبة في ، الأسباب و الظّروف ، في مواعيد ليست محدّدة ، على عكس ما يمكن أن يستوحي البعض..
و لو أنّ الأمر غالباً ما كان يترافق مع مؤشّرات تاريخيّة ، لها علاقة مباشرة بدرجة التّحدّي الذي تطرحه الطّبيعة و الأفكار أمام التّحفيز.
و هذا أمرٌ يتّصل ب " الإبستمولوجيا " من حيث الإجابة على سؤال : " كيف نعرف؟". . و نحن في " الثّقافيّ " دون ذلك ، من جهة أنّ " الثّقافيّ " هو ما بواسطته ، و من خلاله ، إنّما نستطيع أن نقدّرَ أو نخمّن و نَصِفَ الحالة الرّاهنة لاتّجاهات " التّطوّر " و احتمالاته ، و من هنا نفهم كيف يتّصل " الثّقافيّ " ب " السّياسيّ " اتّصالاً مباشراً في " المجتمع ".
لقد شكّلت " الحرب السّوريّة " مناسبةً تاريخيّة ، إذاً ، لاختلاطات الثّقافيّ بالاجتماعيّ بالسّياسيّ ، و كان ذلك عبر تداخل " الدّينيّ " ب" الأخلاقيّ "- و ربّما بالفلسفيّ ، أيضاً!- و كان أن تنطّح فيها لتمثيل الجانب ( أو العامل ) " الثّوريّ " في " الحركة " و " التّحرّك " و " الحراك " ما سُمّي ب" المعارضة " السّياسيّة المزيّفة و التي لم تعبّر سوى عن أطماع سياسيّة تاريخانيّة ، تتّهم التّاريخ بميله إلى " الحتميّات " الكاذبة ، و التّضاؤل و التّصاغر و التّتافُه و الخلاعة و الانحلال.
و من خلال ذلك ، فقط ، تبدو لنا الخشية من استمرار الانحرافات و الهذيانات و العُصابات الشّاملة التي عاصرت ظروف الحرب ، تبدو لنا أنّها مرشّحة لاحتمالات الاستمرار و ارتدائها ، أيضاً، لأقنعة مزيّفة تقدّم فيها نفسها على غير ما هي عليه.
ينهضُ وراء هذه " الاحتماليّة " ما أوردناه ، أوّلاً ، من احتماليّة عدم قدرة " المؤسّسة العامّة "، أو من عدم تأهيلها من أجل " الإحاطة " بظروف الأسباب و النّتائج.
لا يمكن إحصاء تلك الأسباب و النّتائج ، علمياً و لا واقعيّاً ، بمناهج و وسائل و أدوات سابقة على " الحرب " كانت أن جُرّبت و أخفقت في ظروف " السّلام "؛ كما أنّه لا يكفي أن يتّجه " العزم " إلى التّشخيص من دون " تأهيل " القواعد الّلازمة لذلك.
نوجّه ، هنا ، نقداً ثقافيّاً - كما لاحظنا في عموميّة " الثّقافة " و اتّساعها ، أعلاه - إلى واقع ثقافيّ أيضاً يشمل الكثير من مخاوف " العقل " في أن تبدو " الّلحظة " عابرة كما غيرها من الظّروف ، التي لا يطالها التّكهّن أو الضّبط أو التّحديد.
ذلك أنّه لا زالت " المؤهّلات " الأهليّة ل " المجتمع " عالية بحيث أنّها لا تعجز عن استغراق سلطة " المؤسّسة العامّة " التي يجب أن تمارسها " المؤسّسة " دون تحيّزٍ اجتماعيّ ارتكاسيّ أو نكوصيّ مكرور أمام الفكر.
و عبر " الثّقافيّ "، وحده ، بما هو إطارٌ كلّيّ للإنتاج الاجتماعيّ ، غير المتعضّي أو المتمايز ، يُستحسن ، عمليّاً ، " الاندماج " غير الأكيد ، و غير الأصيل ، ل" الإنسانيّ " في أن يستمرّ- و لكي يستمرّ - على رغم حاجات النّخبة المعبّرة عن " الطّليعة " التّاريخيّة في الفصول و المفاصل الصّنعيّة و الموضوعيّة ، كما هي تللك التي تقرّرها و تخلقها الحرب.
القبليّ و الدّينيّ ( أو بالأحرى ، التّديّنيّ ) و العرفيّ و الجمعيّ.. ، إلخ؛ كلّ هذا و ما إليه ينافسُ " الميل " الثّقافيّ الممكن الذي ينجم عن الضّرورة الظّرفيّة منها و المستقبليّة ، أيضاً ؛ و هو نفسه الذي يبدو ، في مبيان " الاجتماعيّ " أنّه مقبولٌ لقرابته مع " الثّقافيّ ". . هذا هو وجه التّعقيد الذي تواجه فيه " الثّقافة " مهمّات الانتقال من " مجتمع الحرب " إلى " مجتمع السّلم ".
يبدو ، على هذا الأساس ، أنّ التّحدّي المقبلَ- و الحالَّ - هو أكبر من مجرّد " تقنين " المرحلة الانتقاليّة التي بدأنا بها ، في سورية ، كمخلّفات من مخلّفات الحرب.
نحن أمام حاجة إلى " تجسير " ( جَسْرِ ) هذه الهوّة المفصليّة التي ترتّبت و تترتّب أمام الأجيال المقبلة ، بخاصّة ، و ذلك كلّما أسفرت الوقائع عن إمكانيّاتٍ جديدة للنّظرة الجديدة التي باتت واجباً، هي الأخرى ، من واجبات الإعداد و التّغيير.
من المهمّ جدّاً ، أن نستطيع ضبط " المتغيّرات " التي أحدثتها الحرب و تسميتها و وصفها ، جيّداً ، قبل الشّروع بتقنينها ، و كذلك في أثناء هذا التّقنين ، إلى ما يتجاوز التّقنين نفسه نحو تفعيل المؤسّسات الّلازمة لذلك و هي كثيرة ، على نحو لا تُدركه النّظرة " القديمة " السّابقة على الحرب ، حيث لم تستطع بدليل الكثير من الآثار و النّتائج غير المرغوبة ، و بخاصّة منها تلك التي لا تُعتبر من "موضوعيّات" هذه "الحداثة" التي تعاظمت فيها جميع صنوف الآلام و الآمال.
لا يقلّ ، إذاً ، التّنظير الثّقافيّ على نتائج و اتّجاهات التّطوّرات الجديدة ، أهمّيّةً ، عن وقف و تعطيل جميع أعمال الحرب.
و إذا كان الاجتماع " الدّامي "، أو " المنحرف "، قد عبّر و يعبّر عن مضامينَ عميقة في الّلاشعور التّاريخيّ للمجتمع ، فإنّ ما لا يستطيعه الّلاشعور لا يمكن أن يقوم به سوى اليقين المبثوث في العمل.
نحن لا يُمكننا أن نجتمع بذلك اليقين في ضروب التّكرار و القول في المعتقدات و صنوف الأيديولوجيا التي تجاوزت الحاجة إليها طاقتها و قدرتها على التّأثير أو الفعل ، في معرض الحاجة إلى خلق البيئة " الثّقافيّة " التي تتمكّن من التّفاعل الحيّ مع فجوات " الثّقافيّ "، التي أحدثتها أو كشفتها أعمال الحرب التي تشيّعت لها " المعارضة " و جزء كبير ، أيضاً ، ممّن يزعمون " الموالاة".
سوف تكبرُ مسألة " الثّقافيّ " في الوقت الذي سيعقُبُ الحرب ، و سوف تكون أكثرَ أهمّيّة اجتماعيّة ، عندما سنرى أنّ الانقسام المقبل ، الاجتماعيّ و السّياسيّ ، إنّما سيكون على " الثّقافة " بعد أن فشلت أدوات الحرب في تحقيق أهدافها على الدّولة و الوطن.
ربّما تكون قد أحرزت نتائج هامّة على صعيد " الاجتماعيّ "، الأمر الذي يعزّز نظريّتنا ، هذه ، في الدّخول إلى " الاجتماعيّ "، من جديد ، عن طريق " الثّقافيّ "، بعد أن لم يكن كافياً - و لن يكون - معالجة الاجتماعيّ بواسطة " الأخلاقيّ " أو " الدّينيّ " أو " الإعلاميّ " باستقلال أو بتعاون و تضامن و تركيب.
من الطّبيعيّ أنّ أشكال " الصّراع " المختلفة سوف تستمرّ في هذا الفالق " السّياسيّ "، بين الدّولة و " المعارضة " عن طريق " الثّقافيّ " الذي يمتد في الماضي إلى جذور تؤهّله ليكونَ فاعلاً ، أيضاً ، في المستقبل.
هذه المسألة ليست مسألة قرار سياسيّ أو رغبة أو نتيجة مباشرة للإرادة.. و من الممكن للجميع " التّكهّن " بهذا الاستمرار في حقول معروفة لم تكن ، حتّى اليوم ، حكراً على أيّ من الطّرفين - أو الأطراف – سواءٌ من قبل الدّولة و النّخبة الوطنيّة صاحبة النّظرة الواضحة في الانتماء ، أو من قبل أولئك الذي يرون في كلّ منعطف وطنيّ مناسبةً للاستثمار الرّيعيّ الشّخصيّ أو المرتزق و المأجور.
و من المفيد ، هنا ، أن نذكر أنّ كيفيّات " الصّراع " قد أخذت ، منذ البدايات ، أشكالاً مفتعلة ، قادتها " المعارضة "، على " الإنسانيّ " و " حقوق الإنسان "، وكذلك على " الأخلاقيّ " و ما إليه..
كانت هذه " النّغمة " تتصاعد في كلّ مرّة تندحر فيها قوى " المعارضة " المزيّفة نحو مزيدٍ من التّراجع المسلّح أو السّياسيّ.
كانت العلامة الأقوى لممارسات " الثّورة المضادّة " التي قادتها " المعارضة "، بالتّآزر مع " الإرهاب " البربريّ الفاشيّ ، هي الولوج إلى الثّقافيّ ، في تحريفيّة مضمونيّة غزيرة ، بواسطة الإعلام " العاطفيّ " ( و هذا مؤثّر ثقافيّ ، أيضاً ) و الممارسات القريبة منه.
و لأنّ ذلك مجالٌ قائمٌ و لا ينفُدُ ، كبيئة و موضوع ، فإنّه من البسيط أن يكون التّوقّع منصبّاً على هذه " المادّة " الخام المتوفّرة دائماً في حقول و أجواء " الصّراع ".
سنرى ، بعد حين وجيزٍ ، و بعد الخروج من تِيهِ مفردات " الصّراع " و معمعة خرافات التّبدّد السّياسيّ في مصطلحات كانت موحية ظرفيّاً ، كالصّراع على " الهويّة " و " الانتماء " و " المشروع " و " المستقبل "، و ربّما في أكثر من هذا " بداهةً " و " واقعيّة "، سنرى أن " الحرب " ستعود ، من جديد ، إلى المواجهة ما بين " الكتل " الثّقافيّة التّقليديّة أو " المُطوّرة "، و لكن تلك التي لا تخرج ، كمحصّلة عمليّة ، عن الخطاب الغائر في الشّقوق التي تغزو البناء المعاصر للدّول المستقلّة في ظلّ ظروف الهيمنة العالميّة للقوّة و الاستئثار.
الذي يجب أن يكون في قلب " الاهتمام " و الملاحظة الجديدة ، إنّما هو واقع أنّ " المعارضة " التّاريخانيّة لا يمكن لها إلّا أن تستمرّ في خياراتها الّلاتاريخيّة التي تعتمد على " الثّقافيّ "، أوّلاً ، من أجل تحقيق هدفها " السّياسي " أو من أجل العمل عليه - على الأقلّ - و هذا ما سوف ينغّص ، دوماً ، على " الاستقرار " و " الاستقلال " ضروراتهما التّاريخيّتين.
نحن ، إذاً ، على موعدٍ مع تجدّد " الصّراع " السّياسيّ ، بواسطة " الثّقافيّ " نفسه الذي كان عاملاً قويّاً من عوامل استمرار " الانقسام " العموديّ و الأفقيّ ، في هذه الحرب لسنوات طوال.
و في الوقت الذي لا يمكن فيه للفكر أن يُحدّد إطار و عمق تأثير " الثّقافيّ "- الاجتماعيّ ، في ميوله و اتّجاهاته الرّئيسيّة ، على الأقلّ ، فإنّه لا يُلامُ أبداً صانع " السّياسات " إلّا على ثقته المفرطة في براءةِ واقعٍ قائمٍ على خلل تاريخيّ يطبع المجتمعات الهجينة ، ثقافيّاً ، بطابعه القلق أو طابعه الّلاأخلاقيّ.
و عندها سوف لن يكون الأسف أو عدمه ، من مفردات الفعل السّياسيّ الذي لا يقف عند مثل هذه التّرّهات.
" الثّقافة " إطارٌ يشرط جميع حقول الدّولة و المجتمع كمنتوجَيْنِ تاريخيين للثّقافة. و السّياسة العامّة قدرة من التّقرير و الإلغاء تواجه فيها انحرافات " الثّقافيّ " في " المؤسّسة "، أوّلاً ، ثمّ في مناطق نفوذها في المجتمع و الأفراد و الفئات و الجماعات ، و المشاريع " السّياسيّة " التي لا تنتهي في الصّراع على " شرعيّة " القوّة التي تفسّر الطّموح إلى ما تُسمّى " السّلطة "، بما في ذلك " المصلحة " و " الثّروة " و " التّفوق " و " الإخضاع ".
أخيراً ، بجب أن نكونَ واضحين في القول إنّه ليس لما يُسمّى ب" المعارضة " حدود ، مثلما شاهدنا أنّه ليس للثّقافيّ حدود. .و أمام محدوديّة وظيفة " الدّولة "، بالقياس إلى ذلك ، فإنّ تفوّق " الدّولة " الضّروريّ ، يجب أن يكون في تعزيز دورها في البيئة التي تفوّقت فيها " الثّقافة " على " الدّولة "، من باب حاجة " السّياسيّ " إلى " الثّقافيّ "، و ذلك في " المكان " الذي غزته " المعارضة " في المنافسة على " السّياسيّ " و أعني في رحاب الثّقافة.. و هذه " بديهيّات " سياسيّة في الصّراع ، أو يجب كذلك أن تكون.