"لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية". هذه، ربما تكون خلاصة أكثر من أربعة آلاف صفحة هي مجمل صفحات الأجزاء الأربعة لعمل المفكر المصري جمال حمدان الموسوعي "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان". ففيها يقدم الباحث العربي جمال حمدان عرضا عبقريا لعلاقة جغرافيا مصر بتاريخها، لتفاعل الزمان والمكان الذي أنتج "مجالها التاريخي"، لمكان ومكانة مصر التي أنتجتها "الملحمة الكبرى للجغرافيا" التي أرخ لها حمدان بعبقرية. ربما يظن القارئ المتخصص، محقا، أن عمل حمدان الفذ هذا يذكر بعمل فرناند بروديل الشهير بأجزائه الثلاثة "البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني" ومقولته الأساسية "المدى الطويل" التي تقدم تفسيرا وشرحا لسيرورة التاريخ ومنعطفاته ومكانيته. لكن حمدان تجاوز بروديل كثيرا بعمله الفذ بإستدخاله للهوية الحضارية (العربية) التي أنتجها تفاعل جغرافيا مصر بتاريخها وزمانها بمكانها (عمل بروديل لاحقا عن الهوية الفرنسية لم يكتمل، كما أن فهمه وفهم بعض مزاعمه في سياقهما الاوروبي ربما سيضعه حقا ضمن تقليد وسلسلة انتجت لنا لاحقا صامويل هانتنجتون وخرافة "صراع الحضارات"). لهذا جادلت في مكان آخر أن من يريد فهم اسباب سقوط وفشل تجربة الاخوان المسلمين في مصر، وأسباب استمرار تداول اسم جمال عبدالناصر وأهميته والحنين لتجربته رغم مرور أكثر من أربعين عاما على رحيله عليه أن يبدأ بقراءة جمال حمدان أولا (وايضا محمد شفيق غربال "تكوين مصر عبر العصور"، حسين مؤنس "مصر ورسالتها"، صبحي وحيدة "في اصول المسألة المصرية" وغيرهم الكثير من مفكري مصر). كان حمدان، حتى وفاته، وبلا منازع أفضل من قدم الفكرة (وللفكرة) العربية التي أنتجتها "الملحمة الكبرى للجغرافيا". لكن قراءة حمدان في عمله هذا وأعماله الاخرى (خصوصا أعماله عن "جغرافيا المدن" و "المدينة العربية") بسبب طبيعتها الأكاديمية تقتصر للأسف على المتخصصين في أفضل الأحوال. فهذه الأعمال تتضمن فيما تتضمن اعترافا، أو دورا، أو استخالا للعوامل غير الاجتماعية في فهم وكتابة وتركيب وإدراك التاريخ (شكل الأرض، الايكولوجيا، المياه، البحار، الأنهار، الرياح، الخ).
لم تكن الصيغة العروبية التي أدركها وطورها تدريجيا وطبعت الرؤية السياسية للرئيس جمال عبد الناصر بعيدة عن أعمال وكتابات عباقرة مصر ومفكريها ومؤرخيها الذين أسست أعمالهم (عن قصد أو بغير قصد) منذ محمد علي لأيديولوجيا عربية مصرية . لكن هذه الفكرة لم تصبح تيارا عاما وفلسفة حكم إلا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (وسيادتها ربما تفسر جزئيا النجاح النسبي لتجربة ناصر وفشل كل من لحقه حين تخلى عنها بدل تطويرها). فما قاله عبد الناصر في فلسفة الثورة، مثلا، أن "رفح ليست آخر حدودنا"، وأن "قتال العرب في فلسطين هو دفاع عن النفس"، وأنه "لم يعد هناك مفر أمام كل دولة من أن تجيل البصر حولها وتبحث عن وضعها وظروفها في المكان، وترى ماذا تستطيع أن تفعل وما هو مجالها الحيوي وميدان نشاطها ودورها الايجابي في هذا العالم المضطرب"، لم يكن نتيجة لخلفية ناصر العسكرية ودراسته لـ "لتاريخ حملات فلسطين ومشاكل البحر" أو دراسته لتاريخ المنطقة فقط، بل فهمه العميق لتاريخ وجغرافيا مصر ذاتها ولحالة العالم في زمنه. لهذا كان عند عبد الناصر وحمدان ووحيدة وغربال ومؤنس: حب المصري لمصر يقاس بمدى عروبته، والمصري الأكثر مصرية هو المصري الأكثر عروبية.
بمعنى أن الرئيس عبد الناصر، ولاحقا الأحزاب القومية العربية والقومية العربية اليسارية (سوريا، العراق، الجزائر، ليبيا، اليمن) أدركوا البعد الاستراتيجي للوحدة وأهمية الجغرافيا السياسية وفهموا حقائق التاريخ والجغرافيا والمكان والزمان/ و"المجال الجغرافي" كما سماه فرناند بروديل، أو ما انتجته "الملحمة الكبرى للجغرافيا" حسب جمال حمدان. وأهمية هذه الرؤية القصوى كانت في وعي وإدراك طبيعة السيطرة الامبريالية، والادراك انه لا يمكن تحقيق الاستقلال والسيادة، خصوصا في عصر الامبراطوريات الكبرى، الا عبر الوحدة. كانت الوحدة في مواجهة الكيان الصهيوني تحديدا، وبالتالي وبالضرورة في مواجهة الإمبريالية الغربية، تستند إلى قاعدة بسيطة، أجملتها في مكان آخر بعبار "كلما كبر العرب صغرت "إسرائيل"" .
لكن ناصر أدرك، لاحقا، أن ذلك لوحده ليس كافيا لتحقيق الوحدة العربية. العروبة كانت حتى ذلك الوقت وبهذا الفهم وبرغم تطوره عما سبقه قاصرة وتفتقد للروح. العروبة حتى ذلك الوقت، وبتلك الصيغة كانت تقف على رأسها. فتلك الرؤية كانت تفتقد لآلية تحقيقها أولا، وكانت قاصرة لأنها تضمنت لدى البعض فهما خاطئا بوعي الوحدة كـ "فكرة مطلقة". فالتجزئة "ليست حدودا سياسية نجمت عن تعدد الدول الاستعمارية التي حكمت الوطن العربي، وحسب. إنها أكبر من ذلك بكثير، فلقد أرسلت وترسل جذورها في الإنتاج وعلاقات الإنتاج" . لهذا، فكما كان للتجزئة مضمون طبقي واقتصادي-اجتماعي، كان لا بد لمشروع الوحدة أن يتميز بمضمون طبقي مضاد. لهذا فمأثرة عبد الناصر الكبرى كانت في تبني نموذج اشتراكي عالمثالثي أسس لإطلاق آلية لتطور اقتصادي تلقائي باتجاه الوحدة كانت العروبة تفتقدها حتى تلك اللحظة. هكذا وقفت العروبة على قدميها بعد أن كانت تقف على رأسها. والجمع بين الجيو-سياسي والاقتصادي-الاجتماعي كان الفكرة الأهم التي تفوقت بها الرؤية العروبية حينها على رؤية اليسار الماركسي التقليدي حينها. فالأخير بقي أسيرا للأفق القطري ولم ير ولم يعادي الامبريالية إلا من زاوية الاوضاع الاجتماعية-الاقتصادية فقط، ولم يكن يدرك مركزية التقسيم والتجزئة وجدليتها كآلية امبريالية ضرورية للهيمنة والاستغلال وأيضا كنتيجة لها.
فحين اصطدمت الأفكار والمشاريع الوحدوية العربية بالبنية الاجتماعية القديمة القائمة، أدرك القوميون العرب مركزية التنمية واهمية تفكيك البنى التقليدية القائمة والمرتبطة موضوعيا بالحالة الاستعمارية، وأهمية إطلاق آلية لتطور اقتصادي تلقائي باتجاه الوحدة. ولأنه لم يكن هناك وصفة جاهزة طبعا للنموذج، ولا حتى تجربة حية يمكن الاستناد لها، كانت سياسات عبد الناصر تحديدا "تجريبية" في هذا المجال ، كما وصفها ياسين الحافظ، أو "ماركسية موضوعية" ، كما وصفها عبدالله العروي، وهذا كان أكثر فاعلية في الحقيقة من أي التزام أيديولوجي مسبق. هذا يعني، كما يقول ياسين الحافظ، أنهم أدركوا أن الوحدة العربية هي أولا عملية تاريخية، وثانيا هي مؤسسة على شرط إدراك آليات الهيمنة الاستعمارية (التجزئة، المصادر، البترول، الكيان الصهيوني)، وليست مجرد اتفاق سياسي بين دولتين (ولهذا بالضبط تتصادم مشاريع الوحدة بالضرورة مع الاستعمار) .
الفكرة (الاشتراكية العربية رغم طبيعتها التجريبية حينها) تبدو اليوم وبرغم فعاليتها الهائلة بسيطة ولا تشكل حتى نظرية جديدة على الاطلاق بقدر ما تعتمد على نقطة محاسبية (من محاسب) مهمة تتعلق بكيفية النظر للاقتصاد القومي وادارته تم تبنيها في دول الجنوب في اعقاب مؤتمر باندونغ ويمكنني أن ألخصها كما يلي: يتوجب منع تسريب فائض القيمة للخارج، أو يتوجب إغلاق كل الأبواب ومنع تسريب أي فائض أو أي قيمة مضافة للخارج. بل يتوجب تحريكها وتوسيعها في الداخل وإعادة توزيعها بما يسمح بزيادة حصة الأكثر فقرا وبما يسمح لخلق بيئة شعبية حاضنة للمشروع القومي وتعزيزها ماديا وايديولوجيا. هذا يفترض بالضرورة دورا مركزيا لجهاز الدولة في السيطرة والتحكم بالاقتصاد الكلي والاشراف عليه بفاعلية صارمة، وتحديدا الإشراف على السياسة النقدية والسياسة الضرائبية لتحقيق هدف عدم تسريب القيمة.
لكن الاشتراكية العربية لم تطلق آلية اقتصادية باتجاه الوحدة فقط، ولكنها شكلت أيضا الحامل الضروري لوعي وحدوي تاريخي يتبناه قطاع واسع من الشارع العربي الذي شكل الحاضنة الشعبية الضرورية لحماية المشروع الوحدوي وتحقيق أهدافه. وهذا يتضح من توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي/الوطني والارتفاع المضطرد لحصة الطبقة الأفقر والشرائح الشعبية في الأقطار العربية التي تبنت هذا النهج. في الحقيقة، أن مجمل الأداء الاقتصادي خلال مرحلة الاشتراكية العربية 1960-1980 (معدل النمو السنوي، معدل ارتفاع الدخل الفردي، البطالة، الديون، نسبة خدمة الديون من الناتج القومي)، كما تفيد البيانات، تؤكد بما لا يترك أي مجال للشك تفوق نموذج الاشتراكية العربية عن المرحلة التي تلتها.
لكن بعد حرب 1967، تعرضت الاشتراكية العربية لعملية تفكيك منهجية وتمت إعادة دمج الوطن العربي في النظام الرأسمالي العالمي وفق شروط الهزيمة. وهذا التفكيك، وبرغم تبعاته الاقتصادية المباشرة التي يمكن قياسها امبريقيا بسهولة، كانت له تبعات ثقافية ومعرفية كارثية أسست لما حل بالوطن العربي في أعقاب عام 2010. فتقويض الأسس الاشتراكية للوحدة قادت لمصاب معرفي وأسس لوضع الطائفة والمذهب في مقابل الطبقة ما سهل تشتيت القوى المتضررة من النموذج النيوليبرالي وحتى تصارعها بعنف، بدل توحدها ضد النموذج الرأسمالي المتوحش، مما ساهم في إشعال الحروب الأهلية المدعومة من الخارج. أكثر من ذلك، كان للمصاب المعرفي الذي أصاب العقل السياسي العربي دور كبير في قلب الكثير من المفاهيم رأسا على عقب. هكذا أصبح طلب تدخل القوى الاستعمارية في بلادنا مطلب "ثوري"، كما يراه البعض، بعد أن كان الكل يجمع أنه يطابق التعريف المعجمي للخيانة العظمى.
*عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة ويسكنسون، وعضو مجلس الادارة في معهد الدراسات العربية / بوسطن