"غيرَ آبهينَ برياحِ الحياة العاتيات..و زخرفِ الأيام وقشورها.. يمضُونَ مزنَّرينَ بوشاحِ المعرفةِ ، و كتابِ الحكمة ، وسفرِ الكِفاح ، الذي قضَوا كلَّ أشطرِ حياتهم ، يُسطِّرُون أجزاءَه ، و يلوِّنُونَ صفحاتِه ، و يكتبُونَ فصُولَه ، الواحد تلوَ الآخر، بحبرِ الرُّوح ، و قلمِ الصَّبر ، و ريشةِ الأناة ، ومدادِ الحُلُم ، و قرطاسِ العزيمة ، قائمينَ كالحقِّ.. مصقولينَ كحدِّ سيفهِ... لا تجلوهُ عوادي الأيَّام إلا لمعاناً ومضاءً..فكانوا فرسانَ الطِّعان.. يطعنون مواطنَ ضعفهم ، فيشذِّبُون من اعوجاجِهَا حتى تستقيم...و يصبرونَ على هناتِها حتى ليستعذبون الوجع ليصلوا شهد الحقيقة و يلذُّون طعم الحق ..
المثقفُ الأصيلُ من البشرِ القلائل الذين يبقون حتى لحظة رحيلهم أوفياء وفاءً مطلقاً لكلمتهم، ويعطون، عبر مسيرتهم الثقافية والإبداعية، مثالاً يحتذى في الكرامة الفكرية والأخلاقية، ويهدمون بيد مباركة ذلك الجدارَ الملعونَ الفاصلَ بين الفكرِ المعلنِ ، والفكرِ المعيشِ، وإلى هذا وذاك فقد كانوا مناراتٍ تُحتَذى ، و طاقاتٍ إبداعيةً فذّةً، استطاعت باقتدارٍ مميزٍ أنْ تجمعَ بين الفكر و السِّيرة في وحدة فنيَّة خلاقة عضوية لا انفصام فيها ، بعيدة كل البعد عن أية مراوغةٍ أو مجاملةٍ أو مداورةٍ أو مهادنةٍ أو مخاتلة.. استطاعت أن تسقط جميع أشكال الأقنعة وتساعد الإنسان على فهم ذاته ووجوده وعالمه وواقعه.. وعملت على إيقاظ الوعي لديه و وضعته في مواجهة مفتوحة مع ذاته و وجوده وعالمه و واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي...
لقد كانت العلاقة القائمة بينهم وبين أعمالهم ومهنهم علاقة صميمية حميمية احتراقية، بل كانت العلاقة بينهما بمنزلة الروح من الجسد، والجسد من الروح، وعلى ضوء هذا الاحتراق النبيل، وهذه العلاقة العشقية حتى الموت كتبوا عنا ولنا، وأبدعوا ما أبدعوا من أجل غدٍ حرٍّ كريم عادل، متقدم وحضاري.. يقول (جيور دانو برونو): "مع أننا قد لا ندرك قطّ الهدف الذي تشوّقنا إليه ومع أن شدّة الجهد قد تلتهم النفس ولا تبقي منها شيئاً، فإنه يكفي أن تحترق بمثل هذا النبل.."
" في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة ». هذا ما كان يردده سعد الله ونوس حتى الخفقة الأخيرة من حياته، وحَسْبُ المبدع والمثقف هذا الشرف...
وبعدُ.. فإننا ندعو الدعوة الصادقة إلى ثقافة وطنية تقدمية منفتحة وتنويرية مضيئة... تشنّ حرباً شعواء على التخلف والجهل (و الجهل المُرَكَّب) والسلبية والفساد والفردية المُتَوَرِّمة... ثقافة تلتزم قضايا الوطن الكبرى وحقوقه وأهدافه ، تستقرئ واقعه ، وتستنبط المعالجة ، وتستشرف المستقبل ، وترسم خططه وطريقه الواضح المشرِّفَ المشرق ، و تعمل على صيانة الوطن وإنسانه ، وحمايته وإعادة بنائه ماديّاً ومعنوياً بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معانٍ ودلالات ومفردات وجودية أساسية منشودة.. ندعو إلى ثقافة تقف وقفة لا هوادة فيها في وجه الاستبداد وقوى الهيمنة والاستعمار الغربي والإمبريالية الأمريكية وسليلتها الصهيونية.. وتقف في وجه ( المكونات) الظلامية، المُغلقة، التكفيرية القاتلة.. وإلى هذا وذاك ثقافة تقف بصرامة في وجه ما تشكل من مكونات الوظيفية، التجارية، السلعية، المداهنة، الخانعة والانتهازية...
في كل الأزمنة والأمكنة ثمة مثقفون يناهضُونَ الثقافةَ الوظيفيَّة، التِّجَاريَّة، الغنائميَّة الانتهازية... وينحازون إلى الحق والخير والعدالة والحرية والجمال وكرامة الحياة والأوطان، ويدافعون عنها بثبات وحزم واقتدار... يدفعون من نبل أرواحهم ثمن الجمال و جدارة الحياة وثقافة الحب والأمل .. و الأمثلة قائمة ماثلة في الوجدان والذاكرة ...فها هو المبدع المثقف الحَيَوِيّ (سعد الله ونوس) قدوتنا في هذا المقام، ومثالنا الذي يُحتذى به...والذي يقول :" إن المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها أو افتقر إليها. ومهما بدا الحصار شديداً، والواقع محبطاً، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة، وعلى مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته. "
أما الأديب الروائي حنا مينة ..الذي أسرج من ذاكرته الفطرية ونسج على نول روحه سيرة في الكفاح : يقول :" أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين ، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى ، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً."
هكذا مضوا .. نجوماً أشرقت و سطعت .. و شهباً تهاوت تاركة وشماً في الرُّوح لا يمحى..ونقشاً على جدار الحق والحقيقة لا يزول..و سطراً من كتاب الأوطان نوراً على نور...
و هكذا ماضون على إثرهم..كلمة كلمة وحرفاً بحرف..بكل كرامة الوطن وإنسانه العزيز الشامخ الراسخ ، الذي لم تزده سنون الأزمة إلا إيماناً بحقه وحقيقته ، و لم تعرفه ساحات النضال إلا شهيداً أو مشروع شهيد في مختلف مواقع النضال المشرفة ..
كثيراً ما تستحضر الذاكرة ما نقش على ذلك الرُّقم البابلي :
( الرياحُ تدورُ حولَ التلال ِ وتذهبْ..
إنَّ الترابَ يتوجّعُ..
إنَّ العشبَ لا يولّي الأدبارْ..
لا يجثو حين تأتي الثيرانُ المتوحشّة ْ..
لسوفَ تدورُ وتدورُ .. ثمّ تذهبُ.. )
طوبى لسوريا عزيزةً حرةً كريمةً شامخةً..بإنسانها السُّوريِّ الصَّميم..من البدء..إلى الأزل.."
المصدر: صحيفة الثَّورة السُّوريَّة