عديم الكفاءة، يعود لاستخدام المال، لابتزاز الفلسطينيين، بعد أن أشهر سلاح مساعداته لدول فقيرة، صوتت لصالح فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة. الرئيس دونالد ترامب يهدد الفلسطينيين بقطع المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لهم سواء من خلال "الأونروا"، أو من خلال المساعدات المباشرة للسلطة الوطنية الفلسطينية.
يعتقد ترامب أن الأوطان يمكن أن تباع وتشترى، بالمال السياسي، ولذلك فإنه يخطئ مرة أُخرى، بعد أن اعتقد أن قراره بشأن القدس، يشكل ضغطاً على الفلسطينيين والعرب، يجعلهم يقبلون بما يعتقد أنه، صفقة القرن. مثل هذا المنطق يليق بتجار العقارات، وإبرام الصفقات، لكنه لا يليق برئيس دولة كبرى، ترتب لنفسها دوراً في حماية الأمن والسلم الدوليين. العقلية التي تدير البيت الأبيض، من شأنها أن تجعل البيت أكثر سواداً من الفحم، حين تزج بالولايات المتحدة في مواجهة مع المجتمع الدولي، والقانون الدولي، وتطلق التهديدات في كل مكان واتجاه. قبل إعلانه الأخير الذي ينطوي على تهديد مباشر بقطع المساعدات المالية عن السلطة الوطنية، لأنها كما يقول ترفض العودة إلى المفاوضات. كانت الإدارة الأميركية قد أعلنت عن تخفيض حصتها المالية في موازنة الأمم المتحدة بمقدار نحو ثلاثمائة وخمسين مليون دولار.
من الواضح أن عقوبات الولايات المتحدة ضد الأمم المتحدة، وضد السلطة الوطنية الفلسطينية، وضد الدول الفقيرة لن تقف عند حدود ما أعلنته واتخذته من قرارات حتى اللحظة، ذلك أن الأمر في الأساس هو أن الولايات المتحدة وضعت نفسها أمام العالم. إن هذه الإجراءات والمواقف تعيد صياغة دور ومكانة الولايات المتحدة عالمياً باعتبارها الدولة الاستعمارية التي تناصب المجتمع الدولي العداء، وتستحق أن تكون إلى جانب إسرائيل على رأس أعداء الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
لا ينبس ترامب ولا أي مسؤول في إدارته اليهودية المتطرفة، ببنت شفة إزاء القوانين والقرارات والإجراءات الإسرائيلية التي تكرس سياسة التوسع، والاحتلال، وتنزلق أكثر فأكثر نحو مستنقع العنصرية.
لا يريد ترامب وإدارته المتهورة الاعتراف بأن إسرائيل هي المسؤولة حصرياً عن تعطيل وإفشال عملية السلام، ذلك أنه حين يفعل ذلك فسيكون عليه أن يعترف، أيضاً، بأن الولايات المتحدة تستحق الإدانة، للسبب ذاته الذي يتعلق بمسؤولية إسرائيل.
كيف يمكن لسياسي يقود أقوى دولة حتى الآن على وجه الأرض أن يعتقد بإمكانية استئناف المفاوضات، بينما تقود بلاده سياسة منحازة لإسرائيل التي لم تُبقِ ملفاً واحداً قابلاً للتفاوض.
فبعد مصادرة حق الفلسطينيين في القدس أولاً من قبل إسرائيل طيلة الوقت ولاحقاً من قبل الإدارة الأميركية، وبعد ذلك تحصين الإجراءات والقرارات الباطلة والمخالفة للقانون والقرارات الدولية من خلال تشريع يصدر عن الكنيست يمنع التفاوض بشأن المدينة الفلسطينية، كيف يمكن بعد ذلك أن يعود الفلسطينيون إلى أية مفاوضات؟
لقد سبق السيف العذل، إذ لم يعد ثمة ما يمكن التفاوض عليه بعد أن اتضحت طبيعة "صفقة القرن" التي تسعى وراء تحقيقها الولايات المتحدة. صفقة القرن التي أفضت حقيقة إلى صفعة القرن، تستظهرها القرارات والإجراءات الإسرائيلية التي تتقدم نحو مصادرة أجزاء كبيرة من الضفة الغربية بعد مصادرة القدس.
الليكود بالإجماع اتخذ قراراً بالتوجه نحو الكنيست لسن قانون يتعلق بفرض السيادة الإسرائيلية على أكثر من ستين بالمئة من أراضي الضفة الغربية، حتى يتخلص من الكثافة السكانية. هكذا تصبح صفقة القرن التي تسعى وراءها الولايات المتحدة واضحة تماماً، إذ ستفرض بدون مفاوضات على الفلسطينيين أن يقيموا دولتهم في قطاع غزة، وتترك ما تبقى من الضفة الغربية لصيغة ما من العلاقة مع الأردن. وطالما أن سياسة إسرائيل والولايات المتحدة قد أقفلت تماماً الطريق على العملية السلمية، فقد وضعت الدولتان نفسيهما في مواجهة، بل حرب مباشرة، مع الفلسطينيين ومن يقف إلى جانبهم. هذا هو المشهد دون رتوش، ودون مخادعة أو لف ودوران، وعلى هذا الأساس يترتب على الفلسطينيين، كل الفلسطينيين أن يقيموا حساباتهم، وأن يبنوا استراتيجياتهم لمواجهة التحديات الضخمة والخطيرة التي تواجههم، وتفرض عليهم التخلي عن الحسابات الصغيرة.
سيتلعثم الخطاب السياسي، الذي يستمر في الحديث عن رؤية الدولتين وعن إيجاد بدائل غير متوفرة عملياً للولايات المتحدة، في إدارة عملية سياسية هي في الأصل لم تعد موجودة.
وقد يتلعثم، أيضاً، الخطاب الذي يستمر في الحديث عن قرارات الأمم المتحدة، التي تتعلق ببعض حقوق الفلسطينيين، بعد أن فقد المجتمع الدولي القدرة على فرض تلك القرارات، والحقوق.
غير أن كل ذلك لا يعني البتّة إهمال الساحة الدولية بكل مفرداتها ومؤسساتها من العمل بجرأة وبتوسع، باعتبارها ساحة صراع مع الاحتلال ومع الولايات المتحدة. بإمكان إسرائيل أن تنسحب وقد انسحبت من اليونسكو لكن العمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني يمكن أن ينجح في طردها من أكثر من مؤسسة دولية، وأول هذه المؤسسات المجلس الدولي لحقوق الإنسان.
مطلوب في هذه الحالة مصارحة الأشقاء العرب، وتحميلهم المسؤولية عن مؤازرة الفلسطينيين في مواجهة الابتزاز الأميركي، وهم قادرون على أن يقدموا الدعم اللازم. لقد حان الوقت لكي يتجاوز العرب والمسلمون خطاب الشجب والاستنكار واتخاذ المواقف السياسية النظرية، التي لم تعد تؤثر لا على الولايات المتحدة ولا على إسرائيل. إن القضية الفلسطينية مهما أصابها من وهن ومن مؤامرات لا تزال صاحبة الفيتو في المنطقة العربية، وهي القادرة على رفع الغطاء الشفاف عن سياسات الدول التي تفكر بالتخلي عن واجباتها تجاه فلسطين وأهلها.