تُدار مصر وتحكم منذ عام 1974م، بموجب كتالوج وضعه الأمريكان للرئيس السادات ونظامه، فالتزم به هو ومَن معه، ولا يزالون..ويعتبر هذا الكتالوج هو الدستور الفعلي والحقيقي لمصر، فله السيادة على دستورنا الرسمي الصادر عام 1974م، وكان الهدف الرئيسي لهذا الكتالوج، وما زال هو تفكيك مصر التي أنجزت النصر العسكري في 1973م، تفكيكها مسمارًا مسمارًا، وصامولةً صامولة، واستبدال مصر أخرى بها غير راغبة في مواجهة الكيان الصهيوني، وغير قادرة على ذلك إن هي رغبت؛ فأمن الصهاينة هو الفلسفة والغاية التي من أجلها تم تصنيع مصر الجديدة، مصر على الطريقة الأمريكية، ولهذا الكتالوج المقدس، خمسة أبواب، نستعرضها معًا بابًا، بابًا:
الباب الأول
- هو إبقاء سيناء رهينة، بحيث يمكن للصهاينة إعادة احتلالها في أي وقتٍ خلال أيام.
- وذلك بهدف وضع النظام المصري تحت تهديد وضغط مستمر، يجعله يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على أية سياسة أو خطوة تغضب منها الولايات المتحدة وإسرائيل.
كيف فعلوا ذلك؟
- فعلوها من خلال الترتيبات الأمنية القائمة في سيناء بموجب اتفاقية السلام، والواردة في الملحق الأمني، والتي بموجبها تم تقسيم سيناء إلى شرائح طولية موازية لقناة السويس أسموها من الغرب إلى الشرق (أ) و(ب) و(ج)، وسمح لمصر بوضع قوات مسلحة في المنطقة (أ) فقط، وبتعداد 22 ألف جندي فقط أي ما يوازي ربع عدد القوات التي عبرنا بها في 1973م، بعرق جبيننا وبدم شهدائنا، والتي قبل الرئيس السادات إعادتها مرةً أخرى إلى غرب قناة السويس في اتفاقيات فض الاشتباك الأول المُوقَّعة في 18 يناير 1974م.
- أما المنطقة (ب) فمحظور وضع أكثر من 4000 جندي حرس حدود فقط مسلحين بأسلحة خفيفة.
- وفي المنطقة (ج) بوليس مصري فقط.
- وتراقبنا على أراضينا، قوات أجنبية موجودة في سيناء في قاعدتين عسكرتين في شرم الشيخ والجورة، بالإضافة إلى 31 نقطة تفتيش أخرى، وهي قوات غير خاضعة للأمم المتحدة، يطلقون عليها قوات متعددة الجنسية، وهي في حقيقتها قوات وحيدة الجنسية؛ حيث إن 40% منها قوات أمريكية، والباقي قوات حليفة لها من حلف الناتو وأمريكا اللاتينية والقيادة دائمًا أمريكية.
هذه هي خلاصة التدابير الأمنية في سيناء، والتي تحول دون قدرتنا على الدفاع عنها في حالة تكرار العدوان الصهيوني علينا، على الوجه الذي حدث في عامي 1956 و1967م.
إن هذا الوضع هو بمثابة "طبنجة" موجهة إلى رأس مصر طول الوقت، وهي طبنجة مستترة، غير مرئية للعامة، العدو لا يُعلن عنها، والنظام يُنكر وجودها، ولكنه يعمل لها ألف حساب.
هذا هو الباب الأول في كتالوج حكم مصر.
الباب الثاني
- جاء هذا الباب لتجريد مصر من المقدرة على دعم أي مجهودٍ حربي جديد على الوجه الذي حدث قبل وأثناء حرب 1973م.
- فلقد اكتشفوا أن وراء نصر أكتوبر قوة اقتصادية صلبة هي القطاع العام المصري الذي استطاع أن يمول الحرب، فقرروا تصفيته.
- أي أن بيع القطاع العام أو الخصخصة كما يقولون، والذي تمارسه الإدارة المصرية بنشاط وحماس منذ 1974م وحتى الآن، ليس مجرد انحياز إلى القطاع الخاص أو إلى الفكر الرأسمالي، وليس قرارًا سياديًّا صادرًا من وزارة الاقتصاد المصرية، وإنما هو قرار حرب صادر من وزارة الخارجية الأمريكية، ألزمت به الإدارة المصرية، فالتزمته.
- وكان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية هي آليات الضغط والتنفيذ لإتمام هذه المهمة.
- واستبدل دور القطاع العام في دعم المجهود الحربي، بمعونة عسكرية أمريكية سنوية لمصر مقدارها 1.3 مليار دولار، يعتمدها الكونجرس في ميزانيته في مارس من كل عام، مقابل 2.4 مليار للكيان الصهيوني.
وبهذه الطريقة ضمنوا الضبط الدائم للميزان العسكري لصالح الصهاينة، والإحاطة الكاملة بقدراتنا العسكرية، والتحكم فيها من خلال الخبراء وقطع الغيار وخلافه.
إن صدور قانون الانفتاح الاقتصادي في مارس 1979م بعد شهرين من اتفاقية فضِّ الاشتباك الأول، وقبل انسحاب القوات الصهيونية من سيناء ليس صدفة.
كان هذا هو الباب الثاني في كتالوج حكم مصر.
الباب الثالث
- وهو الباب الذي ينظم الحياة السياسية في مصر، فيرسم الخطوط الحمراء والخضراء، ويحدد معايير الشرعية ومحاذيرها، ويحدد من المسموح له بالعمل السياسي والمشاركة في النظام من الحكومة والمعارضة، ومن المحجوب عن الشرعية والمحظور من جنتها.
- وفى هذا الباب تم وضع الشرط الأمريكي الأساسي بل والوحيد لحق أي مصري في ممارسة العمل السياسي، وهو شرط الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود، والقبول بالسلام والتعايش معها.
- وعلى ذلك فإن أي جماعة أو حزب لا تقبل الاعتراف بإسرائيل، يحظر عليها المشاركة في العملية السياسية.
- وتم صياغة ذلك بتأسيس نظام حزبي صوري، مكون من عددٍ محدودٍ من الأحزاب على رأسها دائمًا حزبا واحدا يستأثر بالحكم وبالسلطة، يُسمَّى بحزب مصر أو الحزب الوطني أو حزب المستقبل أو أي اسم، ولكن بشرط أن يكون في الصلب من برنامجه ما يُفيد أن السلام خيار إستراتيجي.
- والسلام كما نعلم هو الاسم الحركي لأمن العدو الصهيوني؛ وعلى ذلك فإن الالتزام الرئيسي للحزب الحاكم في مصر يجب أن يكون هو: "أمن إسرائيل خيار إستراتيجي".
- ولقد وضع الأمريكان هذا الباب في الكتالوج؛ خوفًا من أن يأتي خليفة لأنور السادات ينقلب على السلام مع إسرائيل، كما انقلب هو على سياسة عبد الناصر بسهولة فائقة.
- ليس ذلك فحسب، بل بلغت بهم الدقة في تفكيك مصر القديمة، مصر المعادية للصهاينة، إن قرروا منع العمل السياسي في الجامعات المصرية؛ وذلك بسبب ما رصدوه من دور الحركة الطلابية في أعوام 1971 و72 و73 في الضغط على السادات للتعجيل بقرار الحرب، وما رصدوه أيضًا من دور الجامعة والحياة الطلابية في تربية وإعداد وصناعة أجيال وطنية تُعادي أمريكا وإسرائيل.
فقرروا إغلاق المصنع الوحيد في مصر الذي ينتج شبابًا وطنيًّا، مسبسًا، واعيًا بحقائق الأمور.
- ولم تكن صدفة أن تصدر اللائحة الطلابية التي تمنع العمل السياسي في الجامعات عام 1979م، في ذات العام الذي وقَّعت فيه مصر اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني.
كان هذا هو الباب الثالث في كتالوج حكم مصر.
الباب الرابع
- أما هذا الباب فكان هدفه بناء وتصنيع طبقة من رجال الأعمال المصريين موالية وتابعة للولايات المتحدة وصديقة للعدو الصهيوني.
- طبقة تتبنى المشروع الأمريكي وتدافع عن النظام الجديد وتحميه ضد باقي طبقات الشعب وفئاته.
- طبقة تدافع عن السلام مع الصهاينة، وعن التبعية لأمريكا، وترتبط مصالحهم معًا بروابط التوكيلات والتجارة والبيزنس.
- ولقد تم تصنيع هذه الطبقة بأموال المعونة الأمريكية الاقتصادية البالغة 800 مليون دولار سنويًّا منذ 1975م، والتي تقلَّصت فقط في السنوات الأخيرة.
فقامت هيئة المعونة الأمريكية بالتعاقد مع مئاتٍ من الأفراد والشركات على مئات المشروعات وبتسهيلاتٍ هائلة وصلت في بعضها إلى إقراضهم بفائدة مؤجلة 1.5%، بأقل كثيرًا عن الفائدة السائدة في البنوك المصرية.
- وتمت المهمة بنجاح، وتم تصنيع طبقة المصريين الأمريكان، وهي التي تملك مصر الآن وتُديرها، وهي التي تعقد اتفاقيات البترول والغاز والكويز والسياحة مع الكيان الصهيوني، وهي التي أدخلت الشتلات الزراعية الصهيونية إلى مصر، وصدَّرت الإسمنت إلى الجدار العازل هناك، وما خفي كان أعظم.
- وهي الآن تمتلك عددًا من الصحف والقنوات الفضائية والجمعيات الأهلية، وتوجه ما يصدر من تشريعاتٍ برلمانية، ومن رجالاتها تتشكل كل عام بعثات طرق الأبواب التي تحج إلى أمريكا كل عامٍ لتلين العلاقات، وتعقد الصفقات، وتُسجِّل التعليمات.
كان هذا هو الباب الرابع من الكتالوج.
الباب الخامس
- أما الباب الخامس والأخير في الكتالوج الأمريكي لحكم مصر، فهو يتناول كل خطط عزل مصر عن الأمة العربية والإسلامية، وضرب أي جماعةٍ أو فكرة أو عقيدةٍ أو أيديولوجية تعادى المشروع الأمريكي الصهيوني.
- ولقد وضع الأساس القانوني لهذا الباب في المادة السادسة من معاهدة السلام التي نصَّت صراحة على أولوية هذه المعاهدة عن أي التزامات مصرية سابقة عليها، وبالذات اتفاقيات الدفاع العربي المشترك.
- كما ألزمت مصر في نفس المادة بعدم الدخول في أي التزامات جديدة تتناقض مع أحكام ونصوص المعاهدة الصهيونية.
- وكانت الخطوة التالية هي تشكيل جيش من المفكرين والكُتَّاب والصحفيين والإعلاميين، مهمته توجيه مدفعية فكرية ثقيلة، إلى كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي، وكل ما هو وطني أو تقدمي.
- جيش مهمته تجريد مصر من هويتها التاريخية والحضارية بصفتها جزءًا من كل عربي إسلامي في مواجهة مشروع استعماري أمريكي صهيوني.
- وكان المستهدف في هذا الباب هو وعي الناس ومعتقداتهم، من حيث هما خط الدفاع الأخير والأصلب عن الوطن.
- وافتتح الهجوم توفيق الحكيم عندما كتب في منتصف السبعينيات مقالاً بعنوان "حياد مصر"، طالب فيه بأن تقف مصر على الحياد بين العرب والكيان الصهيوني، كما وقفت سويسرا على الحياد في الحرب العالمية الثانية، وانضمَّ له في الهجوم لويس عوض وحسين فوزي، وبدءوا حملةً على عروبة مصر، وعلى ما أسموه بالغزو العربي الإسلامي، ونادوا بالفرعونية وبحضارة 5000 سنة، وبالروابط التاريخية بيننا وبين اليهود...إلخ.
- وتصدى لهم حينذاك، نخبةٌ من أشرف الكُتَّابِ الوطنيين، على رأسهم أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش، ولكنهم ما زالوا بيننا، ينشطون مع كل اعتداءٍ جديدٍ على الأمة. نشطوا في العدوان الأخير على غزة، وفي العدوان على لبنان 2006م، وفي الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م، و في الانتفاضة الفلسطينية 2000م، ومرات كثيرة أخرى، يكون مطلوبًا فيها التغطية على موقفٍ للإدارة المصرية.
كان هذا هو الكتالوج الأمريكي المقدس لحكم مصر بأبوابه الخمسة:
1- رهن سيناء.
2- تصفية القطاع العام.
3- نظام سياسي، حكومة ومعارضة، يعترف بالكيان ويسالمه.
4- طبقة رأسمالية تابعة لأمريكا وصديقة للكيان الصهيوني.
5- وأخيرًا عزل مصر عربيًّا.
والكتالوج- كما ذكرنا في البداية- له السيادة والسمو الفعلي عن كلِّ ما عداه من نصوص أو قوانين أخرى بما فيها الدستور المصري ذاته، ولن نجد لأي تفصيلة مما يحدث في مصر الآن خارجة عنه، وكل القضايا الحالية المثارة الآن حول التوريث والفساد والاستبداد والطوارئ.. إلخ، ما هي في حقيقتها، إلا مجرَّد سطرٍ هنا أو سطر هناك في أحد أبواب الكتالوج.