تمضي انتفاضة فلسطين المتجددة في أسبوعها الثالث، متخطية الرهان الاسرائيلي والاميركي على انطفائها في غضون ايام.
هذا الرهان انطلق من تقديرات مسبقة بأن الشارع الفلسطيني "تعب" من المقاومة الشعبية العفوية، وبأنه لا يمتلك إمكانات مادية تسليحية تؤهله لخوض مواجهة طويلة وفعّالة مع الاحتلال. كما انطلق من تفاهمات تتم في الكواليس، وأحياناً في العلن، بين الادارة الاميركية وحكومات عربية والكيان الصهيوني بهدف إحياء التسوية على أسس تأخذ في الاعتبار الوقائع الإسرائيلية على الأرض أولاً.
لكن حكومة العدو بدأت تعرب عن قلقٍ متنامٍ من استمرار المواجهات وتتحسب لانفجار الوضع على نطاق أوسع قد يشمل قطاع غزة. ولا بد من الإقرار بأن المواجهات الحالية لم تأخذ بعدُ وجهةً شاملة على غرار ما شهدنا في مراحل سابقة، حيث تتركز في بقع معينة في الضفة الغربية، مع تجاوب شعبي على حدود قطاع غزة وتحركات محدودة في الاراضي المحتلة عام 1948. ويمكن وصف الوضع الحالي بأنه جس نبض ميداني متبادل، حيث يختبر الفلسطينيون إمكانات التحشيد والتعبئة في أوقات وأماكن محددة لتنظيم الانتفاضة الحالية والحفاظ على ديمومتها لأطول فترة ممكنة تجنباً لتسلل الفتور والإحباط الى الشارع الفلسطيني، بينما يسعى العدو جهده لاحتوائها. وفي هذا الإطار يلاحظ ان الاحتلال يحاول حتى الآن ضبط وتيرة القمع قياساً على التجارب السابقة، ومردّ هذه السياسة العمل لتنفيس عزم المنتفضين، بالتلازم مع اتصالات تتم على غير صعيد خارجي لاستيعاب الوضع.
نشير ايضا الى ان جيش الاحتلال عمل جاهداً في الفترة الماضية على إحباط جهود الفلسطينيين للحصول على أية إمكانات عسكرية بسيطة من خلال قيامه باعتقالات يومية في الضفة الغربية ودهم المنشآت الصناعية (مخارط الحديد) بهدف تعطيل عمليات تصنيع اسلحة فردية. وفي حسبان الاحتلال، الذي التقط ترددات الدعوة الى تسليح ابناء الضفة، ان العمل العسكري هو الوقود الحقيقي لتزخيم الانتفاضة وإعطائها الفعالية المطلوبة. مع العلم ان انتفاضة السكاكين والدهس التي بدأت في اكتوبر/ تشرين الاول عام 2015 اعطت نتائج ملموسة على صعيد إقلاق الاحتلال.
وتكمن أهمية الانتفاضة الحالية، على تواضع إمكاناتها، في أنها تمثل الجذوة التي يتنفس من خلالها العالم الاسلامي والعربي ويندفع للتحرك من اجل التعبير عن معارضة مساعي تشريع احتلال القدس. ويمكن تلمس نتائج لها في الوقت الراهن:
1- تعطيل جهود الإدارة الاميركية لإغلاق القضية الفلسطينية على إنكار حقوق الشعب الفلسطيني، فكلما قويت الانتفاضة واشتدّ عودها، أصيبت الدبلوماسية الاميركية في هذا السبيل بإعاقة كبيرة. وقد لاحظنا تأجيل زيارة نائب الرئيس الاميركي الى المنطقة واسوداد وجه الادارة الاميركية بنتيجة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2- بالتالي، يتبين مرة اخرى ان واشنطن تعاني من عزلة على الساحة الدولية، وان كل ما تدعيه من نطقها باسم "الإجماع الدولي" في ساحة او اخرى لا يمتّ الى الواقع بصلة. حتى ان الدول الأوروبية، وبعضها يتحمل مسؤولية تاريخية عن نكبة فلسطين مثل بريطانيا صاحبة وعد بلفور، آثرت "السلامة" من الغضب الإسلامي من خلال الإبتعاد عن الموقف الأميركي من القدس وصوّتت الى جانب مشروع القرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
3- فرملة هرولة بعض الانظمة الرسمية العربية لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. فأي خطوة في هذا الشأن سترتد سلباً على مطلقيها. حتى الأنظمة الخليجية التي بدأت تحركات تطبيعية في الآونة الاخيرة (السعودية، البحرين، الإمارات) لم تستطع إلا ان تجاري الجو السائد على مستوى الأمة بتصويتها الى جانب مشروع القرار الأخير بشأن القدس في الجمعية العامة، على رغم قناعتها الصريحة بأنه لا ينبغي إعطاء "قضية هامشية" مثل القدس (على ما عبّر وزير خارجية البحرين) الأولوية على حساب المساعي الجارية لتحريك التسوية وللتعبئة ضد ايران. ونذكّر بأن هذه الأنظمة نفسها تعمدت تقليص مستوى تمثيلها في قمة منظمة التعاون الاسلامي في اسطنبول لبحث قضية القدس.
4- وضع الكيان الصهيوني في موقع "دفاعي" بعدما اتخذ وجهة هجومية عدوانية بعد الانتصار الذي حققه الجيش السوري والحلفاء على داعش في سوريا. وتراجعت التصريحات اليومية لقادة الاحتلال الى الحديث عن الشأن الفلسطيني وكيفية التصدي له، تحسباً لتصاعد الوضع. وكانت الاهتمامات قبل ذلك منصبة على متابعة الوضع على الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا) مع رسم "خطوط حمر" والتلويح باعتداءات جديدة.
ومع انتقال محور المقاومة الى وضعية أفضل وتأكيده على أولوية مساندة كفاح الشعب الفلسطيني على أرضه، باتت الحسابات مختلفة، وانقلب سحر ترامب على أصحابه. فالصدمة التي أريد بها شلّ إرادة الأمة وتطبيعها مع الخطوات الإستسلامية أحدثت وعياً متجدداً بالقضية المركزية ودفعت الى تحفيز الطاقات، بناءً على ما تمثله القدس من قيمة كبرى في الوجدان العام. وقد يكون مبعث ذلك ببساطة السحر الخاص للقدس في قلوب المسلمين والعرب.