أسبوع العودة للمربع الأول كما يمكننا تسميته، وإن كنّا نشك أساساً أن كل الحراك السياسي الذي جرى في الأسابيع الماضية قد نقلنا لمربعات جديدة حتى نتفاجأ بالعودة للمربع الأول، والتحليلات والمعلومات التي تحدثت عن انفراجات هنا وهناك ذهبت أدراج الرياح، ليس لأن شروط التسوية لم تنضج بعد، بل لأن الفكرة من الأساس واضحة: هذه الفوضى يجب أن تنتهي بمنهزم ومنتصر، وإلا فسنبقى لعقود ندور في ذات المكان والرقعة ستكون أوسع بكثير مما يظن البعض.
من الأميركي نبدأ، فبعد الحديث عن انسحاب لقوات أميركية من سورية، وما حُكي عن تعهدات «ترامبية» لرئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان بأن ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لن تتسلح بعد اليوم بسلاح ثقيل ولن تشكّل تهديداً على الدولة التركية، ما فسره البعض بدايةَ رفع الأميركيين الغطاء عن هذه الميليشيا، ضرب الناطق باسم البنتاغون إيريك باهون بهذه التفاؤلات عُرضَ الحائط عندما قلَّل من أهمية سحب عدد من عناصر قوات البحرية، مؤكداً أن عدد القوات الأميركية في سورية يتحدد وفق المعطيات، وأن لا جدول زمنياً للانسحاب الأميركي من سورية حتى بعد انتهاء "داعش".
بالتأكيد لم يشَأ المتحدث أن يذكر ما «المعطيات» التي ستتحكم بتعداد القوات الأميركية زيادةً أم نقصاناً، لأن هذه المعطيات ستبقى بالنسبة لهم مسمار جحا الذي سيفاوضون عليه، بل وقد يفعّلونه ليصل لمرحلة إعادة محاربة الجيش العربي السوري بمن سيرث "داعش" بعد تطعيمهم بميليشيا «قسد» نفسها، ولعل هذا ما عناه الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صالح مسلم عندما قال قبل أسابيع: «إن هدف «قسد» تحرير كامل سورية»، لم يقل تحريرها ممن، لكن الأميركي يعرف، ويدرك أنه لا يزال قادراً أن يصوغ مسار الأحداث حسبما يراه وصولاً لرفعَ ورقة الابتزاز بوجه الروس، بمعنى؛ الانسحاب بالانسحاب، تحديداً أنه لا يبدو يعير الكلام الروسي عن شرعية الوجود الأميركي خارج التنسيق مع الحكومة السورية أي اهتمام، بل هذا التجاهل الأميركي يجعلنا نسأل الروس أنفسهم: ما مصير ورقة التفاهم التي أعلنها كل من الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي قبل ما يقارب الشهر؟.
بالتأكيد لسنا بحاجة للمزيد من التفكير بعد اليوم لنفهم أن البنتاغون بات يسير بخطاً ثابتة نحو تهميش الرئيس الأميركي أكثر وأكثر، بل إنه لا يرى برئيس دولته أكثرَ من مجرد إهانة للهيمنة الأميركية في وجه الروس، ويرى بنفسه الحامي الأخير للكرامة الأميركية في العالم، وترياق الحياة لهذه الاستمرارية هو الشمال السوري، حتى ولو اضطر لمجاراة التخوفات التركية وسحب السلاح الثقيل من يد «قسد» دون سحبه من المنطقة ليبقى جاهزاً للاحتمالات القادمة.
أما الطرف الثاني فهو الكيان الصهيوني الذي نفَّذ قبل أمس اعتداءً بالصواريخ طال نقاطاً عسكرية في ريف دمشق، بالتأكيد لا يبدو أن الأسلوب الذي يتبعه الكيان الصهيوني سيتبدل، تحديداً أنه يجد في عربدته دعماً مباشراً من دول عربية، لكن هذا الحدث يعود بنا للزيارة التي قام بها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو للأراضي المحتلة، يومها هناك من تحدث عن ضمانات قدمها الروس للإسرائيليين بانسحاب إيران وحزب اللـه من جبهة الجنوب مقابل ضمانات وقف الاعتداء، وأياً كانت مصداقية هذه المعلومات، وهي حكماً ليست صادقة، لكن هذا العدوان أثبت أن الإسرائيلي لا ضامن له، بل نكاد نجزم أن التوافق الروسي الإسرائيلي على أمر ما بما يتعلق بالحرب على سورية، أصعب من التوافق الأميركي الروسي ذات نفسه، فالروسي كان ولا يزال يصطدم بالعقل الإسرائيلي الذي يرى أن أي حل في سورية لا يُنتج رحيلاً للمنظومة الحاكمة لترحل معها فكرة «المقاومة»، هو حكماً هزيمة لهم، ولتثبيت هذا الكلام لم يكن مفاجئاً أن توقيت هذا العدوان الإسرائيلي جاء في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة التفاؤل، بل تزامن مع قيام إرهابيي ما يسمى «إتحاد قوات جبل الشيخ»، والذي يضم ميليشيات بعضها ملتزم باتفاق مناطق وقف التصعيد كـ«الجيش الحر» وجبهة النصرة المصنفة إرهابية حسب مجلس الأمن، بإسقاط طائرة سورية جنوب ريف دمشق بصاروخ حراري، هذا الحدث هو ما يجب الالتفات إليه وليس العدوان الإسرائيلي الذي باتت مراميه واضحة لجعل محور المقاومة يتورط بحرب لا يرى بها أولوية حالياً، أما إسقاط الطائرة السورية عبر التنظيمات الإرهابية المدعومة إسرائيليا مع اشتعال جبهة الغوطة فهو يهدد بنسف حتى ما يسمى «مناطق خفض التوتر»، تحديداً أن هناك من يرى أن مسألة استبدال جنيف بآستانا هو خط أحمر لا يجب أن يمر بأي طريقة.
أخيراً، أكمل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أضلاع مثلث نسف التفاؤل عندما قام عن عمد أو عن حسن نية بتفجير مفاوضات «جنيف8» قبل أن تبدأ بعد، وربما كان واضحاً منذ البداية أن «جنيف8» ولد ميتاً، هذا الأمر لا علاقةَ له فقط ببيان معارضة الرياض الذي وضع سقوفاً للمفاوضات هي أكثر تعقيداً من مصطلح «الشروط المسبقة»، لكن تجاهل دي ميستورا لفكرة أن وفد معارضة الرياض لا يمثل جميع أطياف المعارضة السورية، وتعاطيه غير المبالي مع بيانهم الذي يضع سقوفاً للمفاوضات، هو بحد ذاته رصاص الرحمة على هذا الاجتماع، فهل أصاب الوفد السوري عندما أعلن انتهاء الجولة بالنسبة له؟.
تحدث رئيس الوفد الرسمي بشار الجعفري أن الاعتراض كان بالشكل لأن المندوب الأممي ليس من مهامه تقديم ورقة مبادئ، هذا الكلام نتفق معه وإن كنا نحترم اللغة والمرامي الدبلوماسية التي تحدث بها الجعفري والذي ربط الانسحاب بالاعتراض على الشكل، لأنهم لم يناقشوا أساساً المضمون، فإن هذا لا يمنع أن نغوص قليلاً بمضمون بعض التناقضات التي وردت بورقة دي ميستورا:
أولاً: أصر دي ميستورا على استخدام تسميتين للإشارة إلى سورية وهما الدولة السورية والجمهورية العربية السورية، وإن كان مكتب دي ميستورا أوضح أن هذه المصطلحات هي خيارات قدمتها الأطراف، لكن في هذه الحالة كان عليه أن يتذكر أنه وسيط تابع للأمم المتحدة، وأن يعتمد التسمية الموجودة في الأمم المتحدة عندما يتحدث عن «الوطن السوري».
ثانياً: وردت في الفقرة الأولى عبارة تحدثت عن التزام الشعب السوري باستعادة الجولان السوري المحتل بـ«استخدام الأساليب القانونية ووفقاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي»، هذا الكلام هو بالنهاية كمن يقول للسوريين عليكم بالتنازل عن الجولان قبل التفكير بالحل، لأنه ببساطة أكد التزام السوريين فقط بالخيار السلمي وفق القانون الدولي، وكلام كهذا لا يعني فقط أنه يغرد خارج عقيدة الجيش العربي السوري الذي يعتبر "إسرائيل" عدواً ومحتلاً، بل يغرد خارج ميثاق الأمم المتحدة الذي سمح حسب المادة 51 منه بحق المقاومة والدفاع عن الأراضي، ثم لماذا تخصيص الجولان فحسب؟ ألا تمتلك سورية أراضي محتلة إلا الجولان؟ ماذا عن اللواء السليب، ولماذا لم يتم استخدام تعبير الأراضي السورية المحتلة؟.
ثالثاً: تحدثت المادة السابعة عن بناء جيش قوي وموحد، لكن من قال لدي ميستورا: إن الجيش العربي السوري ليس موحداً؟ استهداف الجيش بهذه الفقرة هو بالنهاية معطوف على ما يريدونه في الفقرة الأولى، أو ما تريده "إسرائيل" من مطالبة سلمية باستعادة الجولان.
هذا التناقض لا يشبهه إلا ادعاء مكتب دي ميستورا أنه لم يستخدم كلمة «علمانية» لأنها ليست واردة في الدستور السوري، وهذا الهروب للأمام من شبح «علمنة» سورية المتجددة هو ليس احتراماً للدستور السوري كما يدعون لكنه بالنهاية نزولاً عند رغبة مشيخات النفط، لو كان دي ميستورا فعلياً يأخذ بدوره كمبعوث وسيط ينقل الأفكار وليس مفوضاً سامياً يطرح الأفكار لدرس الورقة المقدمة من الوفد السوري أو ناقشهم بتعديلها، وعليه ومع اكتمال مثلث أضلاع قتل التفاؤل ماذا ينتظرنا؟.
لم نخطئ يوماً عندما قلنا ساخرين من «جنيف6»: نلقاكم في «جنيف16»، بل إن مسار الأحداث يثبت أن جنيف ومثيلاته عبارة عن مراحل تقطيع للوقت لا أكثر، على أمل أن يكون هناك حدث ما يبدل الموازين لدى هذا الطرف أو ذاك، لذلك أخفضوا مناسيب التفاؤل عندما يتحدث السياسيون، وحده الميدان من يرسم ترموستات التفاؤل فهل تكون العين على انفجار مرتقب لاتفاق «وقف التصعيد»؟ ربما هو أقرب من أي وقت مضى.