يفرض شهر تشرين الثاني/ نوفمبر كل عام؛ أن يُصار إلى تذكر وعد بلفور في الثاني منه 1917، وتذكر 29 منه 1947، يوم صدور قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ القرار 181.
لكلٍ من الحدثين أهميته، مع الفارق، في مشروع إقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين. ولكن كليهما يشكل شهادة أكيدة على أن الكيان الصهيوني صناعة خارجية؛ صدرت إلى أرض فلسطين، ليقيم "دولة". وذلك بعد اقتلاع شعبها الأصلي صاحب الحق الحصري فيها؛ من جانب مجموعات من المهاجرين الغرباء. وقد جاؤوا من قوميات عدة، وبلدان مختلفة، وحملوا لغات وتواريخ وحضارات مغايرة. مما يزيد من سمة الصناعة والاصطناع في تشكل الكيان الصهيوني، فضلاً عن فرضه بالقوة والجرائم والإبادة، واقتلاع حوالى 900 ألف عربي فلسطيني من أراضيهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم، وإلقائهم خارج ما حُدّد من خطوط هدنة، كما خارج فلسطين.
على أن قرار التقسيم اختلف شكلاً وإخراجاً عن، وعد بلفور، حيث وجد من يدافع عنه خارج أوساط الإمبريالية الغربية، مثل المعسكر الاشتراكي (السوفييتي) السابق، ثم عدد من العرب والفلسطينيين لاحقاً، ثم امتد ليشمل الصين والهند وعدد من دول العالم الثالث (دول باندونغ)، لا سيما بعد اتفاق أوسلو.
من هنا نشأت ضرورة أن يُقرأ قرار التقسيم وتداعياته، حتى اليوم، قراءة صحيحة مدققة تسقط كل الأوهام التي دفعت البعض لنقد المواقف الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالم ثالثية، وعدد من أحرار العالم، كانت، ولم تزل، تدين القرار وتعتبره قرار الجريمة، وقد أسهم في النكبة الفلسطينية وتداعياتها. طبعاً القرار، كأي قرار، لا يُنفذ ويحمل قيمته التطبيقية إلاّ إذا ترجمته وحققته قوى قاهرة، في موازين قوى محددة. ولكن بالرغم من هذه الحقيقة، يجب ألاّ يقلل بالنسبة إلى قضية فلسطين أهمية القرار بحد ذاته، وذلك بسبب أهمية البعد الذي يتعلق بـ"شرعية" وعدم شرعية قيام الكيان الصهيوني ودولته في فلسطين. فقرار التقسيم الرقم 181 لعام 1947، شكل المرجع "الشرعي" الدولي الذي استند إليه بن غوريون في نص "إعلان قيام دولة إسرائيل". وذلك بالرغم من عدم اعترافه به. فقد استل منه البعد المتعلق بدولة لليهود من بين تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية؛ لأنه من جانبه (بن غوريون) لا يريد أن يعترف بالدولة الأخرى التي نص عليها القرار.
طبعاً "الكهنة" الذين صاغوا قرار التقسيم كانوا يعلمون علم اليقين أن قرار التقسيم لم يُقصد منه حل "المشكلة"، بل إنهم يعلمون علم اليقين؛ أن قرار التقسيم غير قابل للتنفيذ لو قبله الفلسطينيون والعرب، وبلا اعتراض واحد. وذلك لأن إقامة دولة الكيان الصهيوني غير ممكنة ضمن ما نص عليه القرار، فدولة الكيان الصهيوني لا يمكن أن تقوم ضمن الـ56 في المئة من فلسطين، فيما سكان هذا القسم من العرب يعادل عدد سكانه من اليهود، أو أقل بواحد في المئة، وفيما ملكية الأرض التي بحوزة العرب في ذلك الجزء قد تزيد عن 90 في المئة، ولا تسل عن كل ما له علاقة بالأبنية والزراعة والصناعة والتجارة.
فكيف يمكن أن تقوم دولة يهود ضمن هذا الوضع؟ ثم كيف يمكن أن يَقبل قادة الهاغناه (الجيش) والوكالة اليهودية، وهما يمتلكان القوة المسلحة الكاسحة مقابل الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح.. كيف يقبلون به والدول عربية تحت السيطرة الغربية، ولم تمتلك جيوشها السبعة التي دخلت فلسطين أكثر من 22 ألف جندي، بينما جيش الهاغناه المنظم الضارب 67 ألفاً، ناهيك عن المليشيات في "المستعمرات" (المستوطنات)؟ ثم كيف يقبل قادة المشروع الصهيوني بتطبيق قرار التقسيم؛ ومن ورائهم دعم سياسي وعسكري من "المعسكرين" الأمريكي- الغربي والسوفييتي؟
من هنا، كانت وظيفة قرار التقسيم رقم 181 إعطاء الغطاء "الشرعي" الدولي لإقامة دولة الكيان الصهيوني. أما الباقي فالقول الفصل فيه للحرب المضمونة النتائج بالنسبة إلى جيش الهاغناه، وذلك باقتلاع حوالي 900 ألف فلسطيني بالقوة والترهيب والمجازر والحلول مكانهم، مع التوسع برسم خريطة جديدة لفلسطين (مؤقتة)، تضم 78 في المئة من فلسطين، وهي التي رسمتها خطوط الهدنة عام 1948/1949. أما الباقي فقد تم احتلاله في حرب العدوان في حزيران 1967.
لذلك أخطأ، وما زال يخطئ، خطأ جسيماً، كل من قال إن عدم موافقة الفلسطينيين والعرب على قرار التقسيم كان السبب في وقوع حرب 1948، وحدوث النكبة. فمسألة افتعال أسباب للحرب كانت جاهزة وسهلة، والأهم كانت الموافقة الفلسطينية والعربية على قرار التقسيم ستعطي للكيان الصهيوني شرعية إقامة دولته، وشرعية كل ما حدث من هجرة يهودية إلى فلسطين، فيما نتائج النكبة حاصلة لا مفر منها.
وبكلمة، إن دولة الكيان الصهيوني لا تقوم بلا اقتلاع السكان، ومصادرة أراضيهم وأملاكهم وقراهم ومدنهم، والحلول مكانهم.
أما الأعجب من الذين أخطأوا في أوائل الخمسينيات؛ حين توهموا أن تنفيذ قرار التقسيم كان ممكناً لو وافق عليه الفلسطينيون والعرب، فهم الذين يرددون النقد نفسه اليوم، أو الذين أصبحوا يرددونه. حقاً إنه أعجب من العجب العجاب، وذلك بعد كل التجارب التي كشفت حقيقة المشروع الصهيوني، مثل أنه لم يوافق على تنفيذ قرار 242، بالرغم مما حظي به من اعتراف فوري عربي، علماً أن ثمة عشرات التجارب التي تؤكد أن الكيان الصهيوني لم يعترف أو يوافق على أي قرار دولي من قرارات هيئة الأمم المتحدة في ما يتعلق بفلسطين.
ولأن قراءة قرار التقسيم ظلت ناقصة، بمعنى أن الموافقة الفلسطينية والعربية عليه كانت ستكون بلا جدوى، وكانت النكبة حادثة لا محالة، وذلك بسبب طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، والأهم بسبب موازين القوى فلسطينياً وعربياً ودولياً، ومن ثم كانت الموافقة عليه ستعطيه شرعية فلسطينية فوق النكبة وويلاتها. فقد أثبتت التجربة التاريخية أن مسألة "شرعية" الكيان الصهيوني أو عدمها؛ مسألة في غاية الأهمية في الصراع، راهناً وحاضراً ومستقبلاً.
ولهذا شُنت حملة منذ أواخر الثمانينيات، وكان صوتها خافتاً قبل ذلك، ضد ما أسموها سياسة "لا" التي راحت تُحمَّل مسؤولية ما في كل ما ارتكبه العدو الصهيوني من توسع وجرائم حرب. ولكن تجربة ما بعد مفاوضات مدريد، ثم اتفاق أوسلو، وصولاً إلى الاتفاق الأمني، أثبتت أن مواقف الرفض لكل تنازل يمس ثوابت القضية الفلسطينية؛ كانت، ولم تزل وستبقى، هي السياسة الصحيحة، فيما انتهت تجربة الموافقة على التنازلات ولا سيما التي تتضمن اعترافاً بالكيان الصهيوني، إلى فشل فاضح، بل غطت ما راحت تتعرض له القدس والضفة الغربية من استيطان واحتلال.
لقد أعطوا "شرعية" للمشروع الصهيوني ودولته، وهما اللذان يفتقران لكل شرعية من حيث الهجرة تحت حراب الاستعمار البريطاني (1918-1948)، وهي مخالفة للقانون الدولي الذي يحرم أي تغيير ديمغرافي يمارسه الاستعمار في المستعمرات. وكذلك أعطوا الشرعية لتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية، فيما القانون الدولي يجعل تقرير المصير حصراً للشعب الذي كان يسكن فلسطين يوم دخول الاستعمار واحتلالها. كما أن ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يعطي الجمعية العامة أو مجلس الأمن حق تقرير مصير الدول أو تقسيمها، أضف إليها الشرعيات الأخرى التي تحرم الكيان الصهيوني من شرعية اقتلاع الشعب الفلسطيني والحلول مكانه.