التطورات والمتغيّرات في المنطقة سريعة ومتلاحقة، والصراع بين محاورها يبلغ درجة عالية من التأزّم، وهو يدور حول النفوذ والمصالح في المنطقة، وكلّ التطورات والتغيّرات الحاصلة، لها ارتباط بالتطورات المباشرة في ملفات الأزمات السورية والعراقية واليمنية والقطرية، فواضح أنّ المشروع الذي قادته أميركا ومن خلفها السعودية و«إسرائيل» في بلاد الشام وبلاد الرافدين، أصيب بانتكاسة كبيرة، بل لا نبالغ إذا قلنا بأنّ هذا المشروع قد هُزم، هُزم مشروع «الفوضى الخلاقة» والتفتيت المذهبي والطائفي، كما هُزم مشروع الانفصال الكردي عن العراق، وإيران عزّزت من دورها ونفوذها في المنطقة وترسّخت كقوة إقليمية، وكذلك ذراعها المتقدّم في المنطقة حزب الله، وما يشكله ذلك من خطر على أمن ومستقبل «إسرائيل» في المنطقة، وكذلك على المصالح السعودية في لبنان.
السعودية ومَن خلفها لن يسلّموا بالهزيمة بسهولة، ولذلك وجدنا بانّ السعودية، اتخذت مجموعة من الخطوات الدراماتيكية، والتي تؤشر الى أنها تريد أن ترفع من حدة الصراع مع طهران وحزب الله، فمن بعد قيام جماعة أنصار الله «الحوثيين» بإطلاق صاروخ «بركان «2 على العمق السعودي، استهداف مطار خالد بن عبد العزيز، اتخذت السعودية مجموعة خطوات تصعيدية، توحي برفع حدة المواجهة مع طهران والحزب، حيث تمّ استدعاء رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى الرياض، ومن هناك جرى إعلان استقالته، ولم يُعرف حتى اللحظة إنْ كان قد استقال او أقيل، في إطار التصعيد المرجح ضدّ حزب الله، ولكن ما يرجح الإقالة، هو تهديدات وزير الدولة السعودي السبهان، للبنان، بأنّ تشكيل أيّ حكومة لبنانية جديدة من ضمنها حزب الله، هو بمثابة إعلان حرب على السعودية، وكذلك اتهام السعودية للحزب بأنه يقف من وراء إطلاق الصاروخ اليمني على العمق السعودي، حيث عمدت السعودية الى فرض حصار بري وجوي وبحري كامل على اليمن…
في الداخل السعودي كانت التطورات الدراماتيكية المعنونة بمحاربة الفساد، حيث عمد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى اعتقال ثلاث جماعات أو فئات، فئة الأمراء والوزراء، وفئة رجال الدين التقليديين، وفئة الرأسمال والقطاع الخاص، وهذه الإجراءات من أجل تثبيت زعامته وسيطرته على مقاليد الحكم في السعودية، وقطع الطريق على أيّ معارضة محتملة من داخل العائلة المالكة أو خارجها، ولعلّ من المهمّ القول بأنّ الاستدعاء السعودي للرئيس عباس الى الرياض بشكل مفاجئ، يحمل معاني ودلالات لها علاقة بالترتيبات والتصعيد المحتمل في المنطقة، فالسعودية، تريد من الرئيس عباس ان يصطفّ الى جانب محور السعودية، والإعلان بشكل علني عن دعمه لتوجهاتها ومواقفها، وأيضاً ربما أبلغته بموقفها برفض المصالحة في ظلّ توثيق حماس لعلاقاتها مع طهران وحزب الله، وكذلك الزيارة مؤشر على انّ بعض استحقاقات المنطقة المتعلقة بما يسمّى «صفقة القرن» الأميركية قد نضجت، ولعلّ السعودية تراهن على انّ إقالتها للحريري، ستخلق إرباكات كبيرة في لبنان، وتهيّئ المناخ لصراع داخلي، وإلى حرب اسرائيلية على حزب الله ولبنان، وهذه الأحداث والتطورات يجب ربطها بما حدث سابقاً وما يحدث حالياً، لكي نستشعر بأن هناك نذر حرب في المنطقة باتت أقرب من أيّ وقت مضى، فقد عقدت لقاءات مكثفة بين قيادات حماس وطهران والضاحية الجنوبية، وسعي حثيث من حزب الله لترميم العلاقات الإيرانية مع حماس على وجه التحديد، كمقدّمة لعودة العلاقات السورية الحمساوية، و«إسرائيل» تستشعر المخاطر والتحديات الحاصلة في المنطقة، ولذلك واصلت عدوانها على الأراضي السورية، كما قصفت نفقاً يخصّ حركة الجهاد الإسلامي شرقي خان يونس، نتج عنه خمسة عشر شهيداً والعديد من الإصابات والمفقودين، و«إسرائيل» بدأت منذ 5 تشرين الثاني الحالي ولمدة أحد عشر يوماً، أكبر تمرين جوي دولي في تاريخ دولة الاحتلال، تحت اسم «العلم الأزرق»، حيث يشترك في التمرين الذي يعتبر ذا أهمية استراتيجية كبيرة لسلاح الجوي الإسرائيلي، عامل التفوّق الرئيسي على أسلحة الجو العربية، 100 طائرة واكثر من 1000 طيار وتقني جوي من عدة دول حليفة معظمها لـ«إسرائيل» من بينها، أميركا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والهند واليونان، وسينفذ هذا التمرين الضخم في قاعدة «عوفدا» جنوب فلسطين.
أميركا و«إسرائيل» لا تريدان لأيّ حركة مقاومة ان تنمو وتكبر عربياً وإسلامياً وتشكل خطراً جدياً وحقيقياً على مصالحهما في المنطقة وعلى وجود «إسرائيل» على وجه التحديد، ولذلك أوكلت أميركا إلى «إسرائيل» في تموز /2006 ان تخوض عنها لأول مرة حرب بالوكالة، وكما قالت الراحلة وزير خارجية أميركا آنذاك كونداليزا رايس، الحرب من أجل خلق «الشرق الأوسط الجديد»، ولكن «إسرائيل» خسرت تلك الحرب، وتعسّرت ولادة «الشرق الأوسط الجديد»، الخالي من قوى المقاومة والخاضع للسيطرة الإسرائيلية والجاعل للمنطقة بحيرة أميركية مغلقة… ولكن أميركا لا تتخلى ولا تتراجع عن مخططاتها بسهولة، فهي تدرك بأنّ تجذر وتمدّد نهج وخيار المقاومة، سيقتلع الكثير من المصالح الأميركية في المنطقة، وسيسقط أنظمة عديدة، هي من ركائز الوجود الأميركي في المنطقة، ولذلك كانت خطة «الفوضى الخلاقة»، القائمة على إدخال كامل المنطقة العربية في الحروب المذهبية والطائفية، ضرب الإسلام بالإسلام سني – شيعي ، ولذلك كان لا بدّ من استحضار الجماعات الإرهابية والتكفيرية للقيام بهذا الدور، وقد تمّ إحضار «القاعدة» المجرّبة في أفغانستان وأخواتها وأمهاتها من المجاميع الإرهابية والتكفيرية الأخرى، لكي تقوم بهذه المهمة في المنطقة العربية، ولكي تنقل الفتنة المذهبية من الجانب الرسمي الى الجانب الشعبي، وفي البداية نجح المشروع الإرهابي التكفيري الدموي في التمدّد في المنطقة، وسيطرت ما تسمّى بـ«دولة الخلافة الإسلامية ـ داعش» على مساحات شاسعة من أراضي العراق وسورية، ولكن حالة الاستعصاء التي واجهتها تلك الحركة في الحلقة السورية، رغم كلّ الإمكانيات التي توفرت لها عسكرية ومادية وسياسية وإعلامية واستخباراتية ولوجستية وأحدث أجهزة التكنولوجيا والتجسّس، والاحتضان والرعاية من قبل قوى عربية وإقليمية ودولية، لكنها فشلت في كسر وهزيمة الحلقة السورية، صمود الحلقة السورية وتماسكها قيادة وجيشاً وشعباً، بدعم وإسناد ومشاركة مباشرة من قوات حزب الله في الحرب والمعارك الى جانب الجيش السوري، وكذلك التدخل الجوي الروسي الفاعل والقوي والإسناد والتسليح والخبراء الإيرانيين، كلّ ذلك لعب دوراً حاسماً في هزيمة المشروع المعادي، وما يهمّنا هنا القول بأنّ حزب الله خرج من هذه الحرب أكثر قوة وخبرة وتجربة وتسليحاً، عما كان عليه في حرب تموز 2006، وأصبح يصنع معادلات وتحالفات إقليمية.
فشل «إسرائيل» وفشل «القاعدة» في تحقيق الأهداف الأميركية لا يعني أنها ستسلّم بسهولة. فنحن نشهد حالة غير مسبوقة من التحريض على حزب الله فيها الكثير من الشواهد تجعلنا متيقنين بانّ حرباً باتت وشيكة عليه، فلعلنا نذكر جميعاً بأنّ القمم الثلاثة التي عقدت في الرياض، وارتضت ان يصطفّ العرب والمسلمين خلف «إمامة» ترامب لهم، واحد من قرارتها باعتبار إيران دولة راعية لـ«الإرهاب» وخطراً على أمن واستقرار المنطقة، وبأنها أقامت أخطر منظمة «إرهابية» في المنطقة، والمقصود هنا حزب الله.
وأميركا والسعودية و«إسرائيل»، لم تكتف بإعلان حزب الله منظمة إرهابية، بل سعت من أجل تجفيف موارده المالية، وضغطت على البنوك في لبنان وغيرها لعدم التعامل مع حزب الله، وكذلك وزارة الخزانة الأميركية، اعتبرت حزب الله منظمة إرهابية.
الضغوط والتحريض على حزب الله تكثفت بشكل كبير، بعد قيام حزب الله بتحرير كامل سلسلة الجرود الجبلية اللبنانية السورية من عصابات «داعش» و «جبهة النصرة» في زمن قياسي، جعل قادة الاحتلال يتخوّفون من قدرة وكفاءة مقاتلي حزب الله، وكذلك ما لديهم من ترسانة عسكرية، تجعل التفوّق العسكري الإسرائيلي في مهبّ الريح.
فجأة الإدارة الأميركية تذكرت قتلى العملية الاستشهادية التي نفذت ضدّ جنود المشاة البحرية الأميركية المارينز في بيروت عام 1983 وأدّت الى قتل 241 منهم، وستقيم احتفالاً لهم في الذكرى الرابعة والثلاثين لمقتلهم، والرئيس الأميركي يقول بأنّ أميركا لن تنسى جنودها الذين قتلوا في بيروت، وحليف ترامب المتطرف ليبرمان دخل على الخط، وقال بأنّ السيد حسن نصرالله مسؤول عن إطلاق القذائف باتجاه الجولان المحتلّ على مواقع إسرائيلية في تناغم مع الموقف الأميركي.
أميركا تعلم جيداً بأنّ «إسرائيل» فشلت في حربها، وكذلك مشروع ما يسمّى «دولة الخلافة الإسلامية ـ داعش» في مراحله النهائية والأوضاع والظروف والمعطيات تغيّرت كثيراً، فأميركا لم تعد شرطي العالم وقدره، المشروع الأميركي في المنطقة يتراجع وتتقدّم قوى دولية وإقليمية وعربية وتملأ الفراغ، فروسيا استعادت قوّتها ودورها وحضورها، وصارت الرقم المقرّر في أوضاع المنطقة، وكذلك هي إيران، وحزب الله غدا قوة إقليمية مقرّرة في المنطقة، وهذا واضح من لقاء رؤساء أركان الجيوش العربية «المحور السني» ورئيس أركان جيش الإحتلال، مع رئيس أركان الجيش الأميركي في واشنطن، الذين وضعوا شعار «مقاومة هيمنة حزب الله على المنطقة» بعد عقود من انطلاق حزب الله تحت شعار مقاومة الهيمنة الأميركية «الإسرائيلية» على المنطقة.
الحرب الأميركية على العراق أتت بإيران إلى العراق، والحرب العدوانية التي تشنّ على سورية أتت بإيران وحزب الله الى سورية، والحرب على حزب الله ستؤدّي الى تواجد إيران وحزب الله في فلسطين، ودولة الاحتلال سيكون وجودها على المحك.
فتهديداتها بشنّ الحرب على حزب الله ودمشق وطهران، ليست بالنزهة، فبالقدر الذي ستستهدف فيه الجبهة الداخلية اللبنانية، وبناه التحتية، كذلك سينال الجبهة الداخلية الإسرائيلية وبناها التحتية الكثير من الدمار، فمعادلات الردع اليوم موجودة، والمواجهة لن تكون ساحتها لا بيروت ولا الضاحية الجنوبية فقط، بل هي ساحة اشتباك ستمتدّ من بيروت والضاحية لتمرّ بدمشق وطهران، وستنضمّ إليها بغداد، وسيشارك فيها عشرات الآلاف من المقاومين العرب والمسلمين، وكما هُزم مشروع الشرق الأوسط الأميركي، سيهزم المشروع الأميركي الجديد المسمّى «داعش»، والسيد حسن نصرالله قال إنّ زمن الهزائم قد ولى، وتكلفة المقاومة والقول للرئيس الراحل حافظ الأسد أقلّ من تكلفة الهزيمة، وهذه المنطقة قدرها أن لا تعرف الاستقرار، بسبب السياسات والأطماع الاستعمارية، فيها خيرات وثروات ومواقع وجغرافيا وأهمية جيو استراتيجية، ولكن يبدو انّ المنطقة ستكون أمام متغيّرات وتحالفات جديدة في إطار التحوّل، تحوّل يقول بانتهاء عصر الضياع والهزائم العربية، نحو تراكم نضالي يصنع فجراً وحرية لشعوب تواقة لقيادة تعبّر عن همومها وطموحاتها، وتعيد لها كرامتها وعزتها وتصنع لها نصراً.
المنازلة الكبرى والحرب قادمة… وهي بانتظار صاعق التفجير، وعلى نتائجها سيتوقف مصير المنطقة بكاملها، وحزب الله سيكون عنصراً أساسياً في هذه الحرب، وفي قلب الإستهداف، ويبقى السؤال هو متى ستندلع هذه الحرب؟ وهل ستخوض «إسرائيل» حرباً بالوكالة عن السعودية، التي تبنّت وجهة نظرها بالكامل ودعت الى دعمها ضدّ حزب الله وإيران، ام انّ إسرائيل لن تخوض هذه الحرب إلا بضوء أخضر أميركي؟