قبل أن ندخل إلى المناقشة لا بد لنا من توضيح أن كلمة "ثقافة" وكلمة "حضارة" من أكثر المفاهيم المُشكلة، التي أختلف المفكرون في تعريفها حتى أن بعضهم احصى أكثر من ألف تعريف لهما، وليس خفياً على أحد أن كلمة "Cultur" أو "Kultur" التي نترجمها إلى كلمة حضارة عادةً، تشير بمعظم اللغات الأوروبية إلى مفهوم ثقافة، لذلك حتى لا ندخل في هذا اللبس، فإننا سوف نستخدم المصطلحين بصورة إجرائية في حدود هذه المقالة فقط، فسوف نجعل مفهوم الثقافة متضمن في مفهوم الحضارة، وسوف نفهم مفهوم حضارة أمة ما، بأنها تقوم على دعامتين أساسيتين هما: المكونات الثقافية، والمكونات المادية، تشكل الأولى الثقافة بمجملها ونقصد بها هنا العوامل أو الجوانب الإنسانية الروحية والعقلية من الحضارة، في حين تتكون المكونات المادية من بقية العوامل. ولمزيد من التوضيح نشبه مفهوم الحضارة بالإنسان، الذي يتكون من الجزء الروحي والعقلي وهو ما يقابل فكرتنا عن الثقافة هنا، ومن الجزء الجسدي، الذي يقابل الجوانب االمادية من الحضارة. وكما تقوم حياة الإنسان على تكامل وتفاعل الروح والجسد، كذلك فإن الحضارة تقوم على التفاعل والتكامل بين العناصر الثقافية والمادية. ثم عندما نتكلم عن الثقافة العربية، التي هي موضوع هذه المقالة، فإننا سوف نميز بين نوعين منها: الأول عربي خالص يضم عناصر عربية من مثل (العرق، اللغة، التاريخ ...إلخ)، والثاني عربي إسلامي يتكون من الثقافة العربية مضافاً إليها التشريع الإسلامي، ونحن لا نقصد المعنى الحرفي لكلمة إضافة بل استخدمنا الكلمة من أجل التوضيح فقط، فالمقصود هنا هو أن الإسلام يشكل الحامل الأساسي الذي تتأسس عليه بقية المكونات الثقافية الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية، وهذا يعني أن الثقافة أوسع من الدين وأن الدين يكون عادة أحد مكونات الثقافة، مع الفرق أنه في حالة الثقافة العربية الإسلامية، يشكل الإسلام المكون الأساسي الذي تتبع له بقية المكونات الثقافية وليس العكس، أما في حالة الثقافة العربية الخالصة فإن اللغة أو العرق أو أي مكون آخر قد يشغل دور الحامل الأساسي، وهذا حسب ما نعتقده من أخطر الانحرافات التي أوصلت مجتمعاتنا إلى حالة الضعف والتخلف الحالي، وهنا يجب كذلك منذ البداية أن نوضح أنه يوجد فرق بين الإسلام بوصفه تشريعاً إلهياً معصوماً، وبين الفكر الإسلامي بوصفه نتاجاً بشرياً يصيبه ما يصيب بقية ضروب الفكر من انحراف وجمود وغيره . وبشكل عام فإن العناصر التي تتكون منها ثقافة ما تتبادل أدوار القوة والضعف من حيث الموقع الذي تشغله بين بقية العناصر الثقافية الأخرى عبر المراحل التاريخية المختلفة، فقد مر على المجتمعات البشرية أدوار سيطر فيها العنصر الأسطوري كما هو الحال في إمبراطوريات العالم القديم على ضفاف الأنهار العربية، وحضارات أمريكا الجنوبية وغيرها، في حين سيطر العنصر الديني في العصور الوسطى، ثم نجد سيطرة للعنصر المعرفي العلمي في بعض الحضارات المعاصرة في الغرب وبعض مناطق آسيا وأستراليا. أما الثقافة العربية المعاصرة فقد تمّ فيها تنحية العنصر الديني من موقع الصدارة أو المركز ليشغل محله عناصر ثقافية عربية أخرى أهمها اللغة والعرق، لذلك فإن وصف الثقافة العربية المعاصرة بكونها عربية هو أكثر صحة من كونها عربية إسلامية، ونحن نعتقد بأن هذا الشكل المعاصر من الثقافة العربية يعاني مرارة الهزيمة، والفشل، والتخلف، وبصورة غير مباشرة فإننا نعتقد أن المسؤولية تقع على عاتق التبديل أو التشويه الذي قامت به الأجيال المتأخرة بين أولويات ومواقع المكونات الثقافية، والذي نتج عنه تبدلات عميقة سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وعلمية ساهمت جميعها في إضعاف موقع ثقافتنا ومكانتها بين الأمم، وهذا بالضرورة ينعكس على قيمة ومكانة الإنسان العربي ووضعه بصورة مباشرة داخل مجتمعه وخارجه، وكل من تجول من العرب أو عاش في الدول الغربية والشرقية يدرك بشكل واضح هذا المعنى.
ثم إنه لكي نستطيع فهم بعض خصائص ما يسمى (بالهزيمة الثقافية) في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يتوجب علينا أن نحاول أولاً فهم كيف يحدث التحول الثقافي لجماعة ما من حال إلى أخرى فربما سوف يساعدنا هذا كثيراً في معرفة أسباب هزيمتنا الثقافية أمام الآخر، وعلى وجه التحديد الآخر الغربي القريب جغرافياً، والمشترك معنا بوشائج عميقة تاريخياً، ويجب هنا أن نعيد المرة تلو الأخرى طرح التساؤل حول هذا الذي قررناه من غير مناقشة: هل حقاً ثقافتنا مهزومة أمام الثقافة الغربية؟! أم أن هزيمتنا نفسية ومادية أكثر مما هي ثقافية؟! هل يوجد حقاً ضرورة حتمية للترابط بين الهزيمة العلمية والتقنية بالمعنى الخاص، والهزيمة الثقافية والمعرفية بالمعنى العام والشامل، فتأتي الثانية تابعة للأولى بالضرورة؟!
البعض اعتقد بأن الهزيمة الثقافية تأتي كتابع للهزيمة العسكرية والسياسية والاقتصادية، كما هو عليه ظاهر الحال في شؤون الدول والممالك والحضارات .. بمعنى أن مميزات الثقافة تتحدد بالحالة التي تفرضها ظروف القوة والضعف أو السيطرة أو الانحسار على المستوى المادي بمختلف أنواعه، وبالتالي يأتي السؤال: هل إذا عكسنا العلاقة سوف تبقى كذلك صحيحة؟ أي هل يمكن القول أنّ الفعل يكون أولاً ثم تأتي الفكرة؟ هل يحدث التغير المادي أولاً ثم يحدث بعده التغير الثقافي؟ وهل حقاً يمكن قراءة التطور الثقافي لأمة من الأمم أو مجتمع ما بهذه البساطة؟ أم أن الأمر يجري على النقيض من ذلك، كما يرى البعض مثلاً: بأن التغير الفكري أو الثقافي يحدث في البداية ثم يأتي التغير المادي كتابع له؟ أم أن العلاقة تكون جدلية بين المادي والثقافي؟ أم أنه يمكن أن تصح كلتا الحالتين كأن يسبق التحول المادي للجماعة ثم يحدث التغير الثقافي أو العكس؟ طبعاً هذا على فرض أن البعد الثقافي يقصد به الجوانب الفكرية بالمجمل، لأن بعض التعاريف تجعل الجوانب المادية متضمنة في تعريف الثقافة - كما بينا. لنحاول هنا فهم ما يحدث من خلال بعض الأمثلة، ولنرى إن كان من الممكن الإجابة على بعض هذه الأسئلة ومن ثمّ فهم ما يحدث لنا على المستوى الثقافي.
في الإطار العلمي التنظيري، صاغ كارل ماركس (1883- 1818)، (فرضيته) الجدلية المادية المشهورة على (فرض) أن العناصر المادية تتشكل أولاً ثم تتموضع العناصر الثقافية بوصفها تابعةً أو ناتجةً عن الأولى، فالصراع الطبقي في المجتمع يحُدث تطوراً وتبدلاً مادياً في شكل النظام الاقتصادي، ومن ثم يتم إنتاج أو خلق العناصر الثقافية بما فيها القيم الأخلاقية والدينية التي تلبي أو تعكس غالباً حاجات الطبقة المسيطرة مادياً. وبمعنى آخر فإن التبدل المادي يحدث أولاً ثم ينتج عنه تبدل ثقافي، وبالتالي فإن الطبقة المسيطرة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً سوف كذلك تسيطر ثقافياً وأخلاقياً. وبصورة غير مباشرة يفترض هذا الأمر أن أخلاق وقيم الطبقة المسيطرة أو التي تطورت اقتصادياً أو حدث تبدل في شكل إنتاجها الاقتصادي سوف تمتلك كذلك قيماً وثقافة أكثر تطوراً من الطبقات التي هي دونها في سلم التطور المادي. فمثلاً: قيم وثقافة المجتمع الإقطاعي تكون أقل رقياً في سلم التطور من أخلاق وثقافة المجتمع الرأسمالي. ولو أردنا أن نضع وجهة النظر هذه على محك الصحة التاريخية لوجدنا مثلاً: أن الدراسة التاريخية الموضوعية تبين أن قيم وأخلاق المجتمعات التي هي دون مرحلة المجتمع الإقطاعي في أمريكا الجنوبية ومجتمع الطبقات الدينية في الهند، كانت تمتلك نظاماً قيمياً وثقافة تكافلية اجتماعية أكثر رقياً وتحضراً بما لا يدعو مجالاً للشك من أخلاق الغازي الأوروبي الذي دمر بنية هذة المجتمعات وقام بنهبها. ولا نعتقد أن الأمر يحتاج إلى عظيم برهان في حالة المجتمعات العربية والإسلامية التي كانت في طور المرحلة الإقطاعية مع حالة المستعمر الأوروبي، هذا على فرض أنه يمكن فعلاً الحديث عن أنظمة اقتصادية ومراحل تراتبية بصورة مجردة أو على الشكل الذي رتبته النظرية الماركسية، حيث أن الأمثلة والشواهد التاريخية تبين أنه لا يشترط أن يخضع التطور في وسائل الإنتاج على نفس الوتيرة، فلا توجد ضرورة أن يتحول النظام الإقطاعي إلى رأسمالي، فقد يحدث العكس ويتم التطور باتجاه رجعي أو عكسي من الرأسمالي إلى العبودي، وليس أدلَّ على فشل هذا التصور من كون النظام الاقتصادي الاشتراكي في روسية بدلاً من أن يتطور باتجاه الشيوعية تحول بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بشكل تدريجي إلى الشكل الرأسمالي والاحتكاري إذا صح التعبير. على أن الفرضية الماركسية لم تصبح خواء من الفائدة حتى بسقوط الاتحاد السوفياتي بل يمكن أن تكون مفيدة بشكل كبير في تقديم تفسير جزئي لبعض مظاهر التطور الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن للمرء أن يفهم من هذا الكلام وبصورة غير مباشرة أنه ليس بالضرورة أن يرافق التقدم المادي بمختلف جوانبه العسكرية والتقنية والاقتصادية تقدماً قيمياً وأخلاقياً، بل قد يكون الأمر على النقيض من ذلك كما هو الحال في الأمثلة السابقة، وربما هذا يدعم وجهة نظر ابن خلدون، الذي رأى بأن النظام الأخلاقي والفضائل تسير بشكل عكسي مع التقدم الحضاري أو العمراني، فالفضائل والقيم في المجتمع البدوي هي أوضح وأظهر مما هي عليه في المجتمع الريفي أوالحضري، وكذلك فإن المجتمع الريفي خير من المجتمع المدني (نسبة للمدينة)، هذا على الرغم من أن ابن خلدون يُعتبر من المصادر الهامة للفرضية الماركسية في ربط التبدل العمراني في بعض جوانبه بالأسباب المادية، إلا أنه من المعروف أن ابن خلدون يركز على العصبية الدينية أو القومية كعامل أساسي في نشوء الممالك أو فسادها.
في مقابل وجهة النظر الماركسية التي قدمت العناصر المادية وجعلتها الأرضية التي تبنى عليها العناصر الثقافية الأخرى وجعلت العلاقة بينهم حتمية!، صاغ مؤسس علم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1920- 1864) وجهة نظر معاكسة أو مخالفة، تمثلت في فرضيته "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".
فرضية فيبر تقوم على أنّ الأولية تكون للقيم وللعناصر الثقافية بالمجمل على العناصر المادية. الإصلاح الديني الذي حدث في المسيحية في المجتمع الألماني من خلال المذهب البروتستانتي خلق قيم جديدة شجعت أخلاق العمل أو المهنة (Beruf)، وكذلك الأمر في المذهب الكالفني أو الكالفينية في إنجِلترا، هذه القيم الدينية الجديدة تميزت عن الأخلاق الكاثوليكية بأنها شجعت على مزاولة المهنة وعلى الإقبال على النشاط التجاري والصناعي في المجتمع من خلال ربط مفهوم التحرر من الخطيئة أو الخلاص المسيحي الذي كان يتم بواسطة أخلاق الرهبنة والعزلة ومعاقبة النفس في التقاليد الكاثوليكية إلى مفهوم الجد والاجتهاد في النشاط والعمل، وتحريض الفرد على الفاعلية المهنية الإيجابية، وكذلك شجعت البروتستانتية من جهة أخرى على أخلاق الزهد والتقشف في الحياة، بحيث يتم الإنفاق على الضروريات دون الإسراف، وهذا يعني باللغة الاقتصادية دخل كبير وإنفاق قليل، الأمر الذي ضاعف المدخرات وبالتالي تشكل رأس المال، وبمعنى آخر فإن القيم الدينية الجديدة كانت السبب المباشر في خلق النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية، أي أن العناصر الثقافية شكلت العناصر المادية، وهذا على عكس التصور الماركسي. تشكل فرضية فيبر إعادة اعتبار للعنصر الثقافي (الأخلاق أوالقيم الدينية) على المادي (العنصر الاقتصادي)، بحيث يصبح التبدل الثقافي سابق على التبدل المادي أي أن الفكرة تسبق الفعل، بدلاً من اعتبار الفكرة مجرد مبرر أو تابع للفعل. ومثل ما فعل ماركس حاول كذلك فيبر أن يستشهد على صدق فرضيته من خلال دراسة حركة التطور الاجتماعي مبيناً صلاتها بما يحدث من تبدل على صعيد القيم الدينية، وتبعيتها له، فوضع كتابه الموسوم "الأخلاق الاقتصادية للأديان العالمية" وكذلك كتابه الضخم والهام جداً "الاقتصاد والمجتمع"، فضّمنّ الكتاب الأول دراسة موسعة عن القيم اليهودية والبوذية والكنفوشية والإسلام وحاول استنتاج الدور الذي لعبته قيم كل دين في خلق النظام الاقتصادي في المجتمع التابع له. وكملاحظه جانبية هنا نقول للأسف كانت نظرته سطحية وسلبية في دراسة وفهم القيم الإسلامية، علماً أن فيبر مشهود له بالصرامة العلمية والسعي الحثيث للوصول للموضوعية العلمية في دراساته، ولكننا نرجح أن سبب ما ألمّ به من سوء فهم للإسلام كان ناتج عن المصادر التي اعتمد عليها كمراجع عن الوضع القيمي والاقتصادي في العالم الإسلامي. في حين جاء الكتاب الثاني مشتمل على توضيح مفصل ودقيق لأهم المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما فيها تصوره لنظرية تفسير(فهم) الفعل، والعلاقات الاجتماعية، وأنواع الأنظمة السياسية أو أشكال الحكم ومبررات سلطاتها. كل هذه الدراسات جعلها فيبر في سبيل خدمة الفكرة الأساسية في فرضيته، وهي أن العناصر الثقافية تكوّن العناصر المادية وليس العكس، وبالتالي إذا كانت البنية الثقافية متخلفة أو إذا كانت القيم الدينية سلبية بالمعنى الكابح للفاعلية فسوف ينتج عنها نظام مادي اقتصادي وتقني متخلف، ربما كانت فرضية فيبر جديرة بأن تتبطق على الحركات الصوفية في المجتمعات الإسلامية ودورها في تغييب الفرد عن حياة النشاط والفاعلية والانسحاب به إلى عوالم الوهم والكسل. بالطبع هناك انتقادات كثيرة لفرضية فيبر كما هو الحال مع فرضية ماركس، منها مثلاً أن البلدان الكاثوليكية مثل فرنسا وإيطاليا استطاعت بعد فترة وجيزة أن تلحق بالثورة الصناعية والرأسمالية التي حدثت في ألمانيا البروتستانتية وبريطانيا الكالفنية، وأن الصين البوذية التي يفُترض أن قيمها الدينية سوف تمهد لبنائها النظام الرأسمالي، حدث أن تحولت للنظام الاشتراكي مع الحكم الشيوعي. ورغم ذلك كما هو الحال في الفرضية الماركسية، تستطيع الفرضية الفيبرية أن تفسر بعض جوانب التطور الاجتماعي دون أن تحسم الإجابة على السؤال هل الأولية للعناصر الثقافية أم المادية؟.
ومن الطبيعي أن تظهر فيما بعد وجهات نظر وفرضيات توليفية أو جدلية أو بنيوية أو وظيفية لتحديد شكل العلاقات بين المكونات المادية والثقافية في تفسير حركة التطور أو التراجع الحضاري. وكثيراً ما تم الحديث عن تأثير البعدين الإيديولوجي والسياسي في صوغ الفرضية، ففي حين كانت تترافق الفرضية الماركسية مع التطلعات الثورية وحركات التغيير والتحرر في المجتمعات المُستَعمرة والشعوب المغلوبة على أمرها من قبل جماعات متنفذة ومتسلطة على السلطة السياسية في المجتمع، بغية تبرير حتمية عملية التغيير والتحرر أو التطور، كانت في المقابل فرضيات أخرى مثل فرضية فيبر والبنيوية والوظيفية والبنائية والتواصلية وغيرها، تعكس الرغبة في المحافظة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي القائم وخاصة في المجتمعات الغربية والرأسمالية.
نريد الآن بعد عرض فكرة موجزة عن بعض جوانب التصورات العلمية أو التفسيرية لعلاقة المكونات الحضارية فيما بينها وأولية العناصر المؤثرة في غيرها كما رأتها بعض الفرضات العلمية، أن نعود مرة أخرى إلى محاولة فهم ما جرى ويجري في وضع أو في حالة المجتمعات العربية والإسلامية، وهل ثقافتنا مهزومة أم نحن منهزمين نفسياً، وما هي أشكال هذه الهزيمة، وهل يمكن أن نفهم لماذا نعاني من هذه الظاهرة، وهل يمكن كبح أو التخفيف من أسباب تفاقم هذه الظاهرة؟
الاعتماد على فرضية لتفسير التطور الحضاري لأمة من الأمم سوف يفضي لا محالة إلى اختزال واستبعاد عناصر مشاركة في عملية التحول أو التشكل، ولكن يمكن فقط من الناحية الإجرائية أن يتم الاسترشاد بوجهة نظر ما، من خلال تركيز الاهتمام على بعض العناصر بعينها، والتي يعتقد الباحث أنها أكثر أهمية من غيرها في صناعة الظاهرة موضوع البحث، ولكن ذلك يكون بشرط ألا يستبعد أو يغلق الباب أمام أن يكون لبقية العناصر دور مؤثر وإن اختلفت نسبة تأثيره مقابل غيره من العناصر. لذلك يبدو لنا أن الحدث الهام الذي غير تاريخ البشرية عامة والأمة العربية خاصة من خلال ظهور المجتمع الإسلامي، لم يكن ناتجاً بدايةً عن تبدل في الشروط المادية كتغير نمط الإنتاج أو تبدل القيم الاقتصادية، كما افترض بعض المفكرين الماركسيين في فترة رواج بضاعتهم من تفسير التحولات الكبيرة التي حصلت في جزيرة العرب قبل أربعة عشرة قرن، بانقلاب قامت به طبقة التجار المكية، وأنها كانت المسؤولة عن ظهور دعوة الإسلام. مثل هذا التفسير يعكس بلا شك رؤية سطحية مخالفة للحقائق التاريخية، وخاصة أن طبقة التجار المكية كانت من أكثر الفئات معاداة لدعوة الإسلام. إننا نعتقد أن الدعوة الإسلامية لم تعتمد ولم (تركز) في لحظة التشكل الأولى التي بدأت مع الدعوة السرية للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- على تغير العناصر المادية أو أنها كانت ناتجة عن تطور أو تبدل حدث على مستوى العناصر المادية، بقدر ماكانت ناتجة عن ضغط تمارسه العناصر الثقافية التي تمثلت باستعداد وحاجة الأنفس والعقول إلى نظام تشريعي واعتقادي جديد، ونحن لا نغفل هنا العناصر المادية كما ذكرنا، ولكن نرى أن العناصر الثقافية كان لها الوزن الأثقل، والدليل أن الدعوة لم تبدأ بالمطالبة بتغيير النظام الاقتصادي المتمثل بالنظام الربوي، ونظام الاسترقاق، بل كان مطلبها الأول متركزاً في تغير المرجعية القيمية، "من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"، إنها أشبه بتغيير رؤيتنا أو وجهة نظرنا إلى العالم بالمعنى الاصطلاحي- "Weltanschauung"- الذي يستخدمه الفيلسوف فليهلم دلتاي (1911-1833) في فلسفة الحياة، مع ملاحظة أن المرجعية لهذه الدعوة – في الإسلام- لا تكون الرؤية الإنسانية للعالم كما افترض دلتاي، بل تكون الرؤية والمرجعية الإلهية. إذاً نحن نفترض أن العناصر الثقافية القيمية والأخلاقية كانت الأسبق منطقياً في خلق التحول والتطور في المجتمع وهذه المنظومة القيمية كانت تفترض وتساهم في خلق بقية الأبنية التالية، وبذلك بدأت معالم المجتمع الإسلامي بالظهور تباعاً من مختلف النواحي الاقتصادية والسياسية وغيرها، ولعل ذلك كان أحد أسباب أو من حكمة التدرج في الشريعة الإسلامية، فالمجتمع كان في حالة تخلّق يتطور بتطور الفاعل الاجتماعي وبقدرته على الاستيعاب وعلى تهيئة الظروف المادية لتَحقُق الفكرة أو الحكم الشرعي في السلوك العملي والنشاط المادي. نؤكد مرة أخرى أننا لا نشجع فكرة إمكانية انفصال العناصر المادية عن العناصر الثقافية في تكون المجتمع وتطوره، ولكن يمكن الحديث عن تمايز أو أسبقية منطقية للثقافي على المادي في الحالة الإسلامية. والعلاقة بين الطرفين علاقة تداخل تكاملية جدلية فبغير الثقافي لن يظهر المادي وبغير تهيئة العنصر المادي لن يتمكن العنصر الثقافي من ممارسة وتمثل دوره في الواقع. وإن كان من الواضح أن العنصر الثقافي يشغل نقطة المركز في الحضارة الإسلامية، ويتمتع بطاقة كامنة بالقوة كبذرة التفاح التي هي شجرة بالقوة. وهذا سر من أسرار الشريعة الإسلامية، لا بد أن يلقى اهتماماً شديداً من باحثينا وخاصة الشباب منهم، وقد لوحظ ذلك من قبل بعض مراقبي حركة التطور التاريخي للمجتمعات الإسلامية، فقد عبر أحد المستشرقين عن إعجابه الشديد بالدينماكية والحيوية المذهلة التي يستطيع فيها الإسلام أن يجدد نفسه، وقد ميز حوالي أربع عشر نقطة أو مرحلة ازدهار ونهوض حضاري في تاريخه. إن التجارب التاريخية اثبتت مراراً بأن العناصر الإسلامية الثقافية قادرة على الصمود والبقاء على قيد الحياة في أي حالة وفي كل الظروف، وحتى في أوقات الاندحار العسكري والدمار الاقتصادي والسياسي، الذي تعرضت له المجتمعات الإسلامية، وليس أدلّ على ذلك من تجربة الغزو التتاري في القرن السابع للهجرة وقبلها وبعدها الحروب الصليبية في القرون الوسطى والحديثة. إن تدمير عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد على يد التتار، والانكسار العسكري المريع، وخبوت الشروط المادية، لم يستطيع القضاء على العناصر الثقافية في الحضارة الإسلامية، بل كانت النتيجة كما هو معلوم تاريخياً بأن هزمت العناصر الثقافية (الإسلامية) العناصر المادية المعادية (السيطرة العسكرية التتارية)، حيث أفضت فيما بعد إلى تبني شعوب القوقاز للثقافة الإسلامية. ربما يحتاج البعض إلى مزيد من البرهان على قوة الثقافة العربية الإسلامية، فقد يقول قائل إن التتار قد تفوقوا من الناحية العسكرية بالفعل، ولكن يجب أن لا ننسى أنهم كانوا يمثلون ثقافة أدنى من الناحية العلمية والمعرفية، بل ربما كانوا شعوب شبه بدائية إذا ما قورنوا بشعوب المجتمعات الإسلامية آنذاك؟! نقول هذه وجهة نظر تستحق الوقوف عندها، وحتى ندعم فكرتنا دعنا نأخذ أوضاعاً مختلفة، تكون فيها الحالة المعرفية والعلمية والتقنية بما فيها العسكرية والسياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي هي في غاية التخلف والجمود والضعف كما هي عليه اليوم مثلاً، فلا يتخيل المرء أنه يوجد ظروف أسوأ مماهي عليه حالة التخلف الحضاري الذي تتلبس المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، ولكن رغم ذلك ... ورغم التدافع الشديد الذي يجده العالم الإسلامي من الثقافات الأخرى التي احكمت سيطرتها على أنفاسه، إلا أننا نلاحظ كما يلاحظ جميع العالم بأن العنصر الثقافي الحامل للحضارة الإسلامية، ألا وهو العنصر الإسلامي بوصفه – المكون الروحي- حتى في هذه الظروف المعقدة والحالكة يفرض قدرته ليس على البقاء فحسب، بل االقدرة المذهلة على الانتشار، مع ملاحظة شديدة الأهمية، الانتشار أين؟! في مناطق أكثر تخلفاً من الوسط العربي؟! لا بل في أكثر المجتمعات تحضراً وأكثرها تقدماً في جميع المجالات العلمية والتقنية و(الثقافية)، دونكم الاحصائيات القادمة من الشرق والغرب عن عدد المتبنين لهذا العنصر الثقافي الرئيسي، الذي تأسست عليه الحضارة العربية والإسلامية. وحتى لا يحدث اللبس نؤكد مرة أخرى بأن الثقافة أشمل من (الدين)، ولكننا استخدمنا كلمة العنصر الثقافي في الحالة العربية هنا بمعنى (المكون الروحي)، والذي هو الحامل الرئيسي للثقافة والحضارة العربية بالمعنى العام الذي يشمل مكوناتها المادية: الاقتصادية والتقنية، والعلمية، ومكوناتها الثقافية: الروحية والفكرية والنفسية. ونريد أن نخلص من وجهة النظر هذه، بأننا نعتقد أن المنظومة القيمية التي تستند إليها الثقافة العربية والإسلامية، ليست في حالة انهزام في المواجهة الثقافية مع الآخر، بل بالعكس تماماً إنها في حال توثب وفاعلية لا مثيل لها. إلى الدرجة التي يتخيل فيها المرء بأن بقية عناصر الحضارة العربية هي عالة عليها، بل كثيراً ما تكون من عوامل عرقلة مضاعفة فعليته، وهذا ربما يفسر قول روجيه غارودي "الحمد لله أني تعرفت على الإسلام قبل المسلمين". ونحن نرى بأن الثقافة المؤسسة على الدين الإسلامي بشكل صحيح لا يمكن هزيمتها مقابل أي ثقافة أخرى، ويبرر هذا الرأي القناعة الروحية بأن الشريعة إلهية المصدر، وبالتالي فهي الأقدر على فهم وتلبية فطرة الإنسان، ولا يمكن للثقافات البشرية مهما كانت درجة تطورها أن تجاريها، لذلك يلاحظ المراقب بأن أغلب المتحولين للثقافة الإسلامية في البلدان المتقدمة هم من النخب المتميزة كالعلماء والمفكرين والمثقفين وأصحاب الشهادات العُليا. ونحن نعتقد أنه من أكبر العوامل التي تشكل ما يشبه حاجز يحول دون تسريع إقبال الناس في المجتمعات الغربية على تبني الثقافة الإسلامية هو الجاليات الإسلامية وخصوصاً العرب والأكراد والأتراك، فهذه المجموعات تتحدث باسم الثقافة الإسلامية ولكنها في حقيقة الأمر تخضع للتشوهات التي أصابت البنية الثقافية في المجتمعات التي صدرت عنها، بحيث قدمت مكوناتها العرقية واللغوية على المكون الإسلامي، فغدت تعكس حالة من التخلف الشديد، فخذ مثلاً أن يقوم العربي بممارسة التقاليد العربية التي هي في مجملها بدوية وجاهلية فكيف سيكون سلوكه إذا لم يستند إلى المرجعية الإسلامية الصحيحة.
إذاً نود الآن أن نعيد صياغة ما توصلنا إليه، لنقول بأن الثقافة العربية الإسلامية لا تعاني من حالة الهزيمة أمام الثقافات الأخرى بل بالعكس من ذلك، في حين أن الثقافة العربية التي استبعدت أو وضعت المكون الديني في موقع هامشي هي التي تعاني من حالة الانهزامية أمام الآخر. وهذا لا يتعارض مع كون الهزيمة العسكرية والسياسية والاقتصادية متحققة في كلتا الحالتين، مع فرق أنه في حالة الثقافة العربية الإسلامية تكون مقومات النهوض الحضاري ممكنة أما في حال الثقافة العربية - حسب وجهة نظرنا الخاصة - فهي ممتنعة! ووجهة النظر الخاصة هذه تستند إلى مبررات منطقية منها؛ أن الثقافة العربية القومية التي فرضتها الأحزاب العلمانية في النصف الثاني من القرن المنصرم على مجتمعاتنا- جاعلةً نصب عينيها محارب المكون الروحي الديني للأمة في كل مناسبة- ماهي في حقيقتها سوى استبدال ثقافة الإسلام العالمية والمفتوحة على كافة الفضاءات بثقافة القبيلة الضيقة الموغلة في التخلف والجاهلية، ثقافة عنصرية كان أول من احترق بنيرانها هو مجتمعاتنا، التي تحتوي على نسيج متنوع من القوميات. ومن غير المعقول أن تستطيع ثقافة القبيلة البدوية المتخلفة أن تصمد أمام تحدي الثقافات الغربية المتقدمة والمتمدنة، والتي تكون فيها المواطنة مبنية على أساس القانون لا على أساس الدم. والأمر ينطبق على معظم الجوانب الثقافية، فكيف يمكن مثلاً للأحزاب السياسية العلمانية المستبدة، التي حكمت مجتمعاتنا أن تجاري الفكر السياسي في الغرب إذا كنا نحن بالأساس قد استوردنا هذه الأفكار العقيمة واجتثثناها من بيئتها الأصلية، فهل يعقل أن تجاري النسخة المزيفة التي عندنا النسخة الأصلية التي عندهم. هذا عدا أن الفكر السياسي الغربي قد مر بمراحل تتطور ونضج تاريخية حتى وصل إلى ما وصل عليه اليوم. وبكلام آخر إن القطع مع الثقافة الإسلامية في الثقافة العربية يعني بشكل واضح حرمان الحضارة العربية بمكوناتها الثقافية والمادية من تواجدها في نسق تطورها التاريخي والطبيعي، والعودة بها إلى مرحلة القبيلة، وهذا ما يفسر بأن الوضع الثقافي والمادي في الدول العربية اليوم قريب جداً من الحالة البدوية، ولا تغرنك المسميات التي نملأ بها قواميس اللغة، وعناوين الجامعات والمعاهد وما يسمى مراكز البحث وغيره. ويكفي أن تعلم أن واحداً من كل ثلاثة أفراد تقريباً في مجتمعاتنا لا يعرف القراءة والكتابة، وهو يقطن على مرمى حجر من جيرانه الأوروبيين، الذين يُسيرون المراكب إلى الفضاء. عندما تصطلح الأمة مع ذاتها وتعرف قدرها وقدر ما تملك، عندها فقط سوف تتوفر إمكانية نهوضها من جديد. إن الشكل الوحيد الذي يجعلك محترما بين الآخرين هو أن تحترم ذاتك لا أن تتبرّأ منها وتتمرد عليها وتسعى لتدميرها، وقد قالتها العرب "ومن يُهِن نفسه فلا مُكرم لها". وسوف يكون من باب أولى أنّ من يدير ظهره لشريعة الله أن يُصيبه الذل والهوان ليس فقط على يد البشر بل على يد الله: "وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ".
ونريد الآن أن نتحدث قليلاً عن بعض أشكال الهزيمة الثقافية على خلفية الهزيمة العسكرية والتقنية، وعن دور العامل النفسي في مضاعفة تأثيرها السلبي.
تتبدى آثار الهزيمة الثقافية في مجتمعاتنا العربية من خلال تبني ثقافة الغرب بوصفه المنتصر حضارياً، تبنياً أعمى وشاملاً، تتزعمه وتستجيب له بدايةً النخب السياسية والثقافية العليا في المجتمع، ثم تسري عدواه إلى بقية الفئات والطبقات الاجتماعية الأخرى. فنحن نحاول محاكاة ثقافتهم بشكل يدعو للسخرية، نريد أن نلبس ونأكل ونغني ونرسم ونرقص ونفكر ونعربد مثلهم تماماً دون أن نترك لهويتنا أية خصوصية، نقلد ونحاكي حتى في أكثر المسائل أهمية مثلاً على سبيل المثال لا الحصر: أصبحت النساء المسلمات في بعض البلدان العربية ترتدي حجاباً يشبه إلى حد بعيد غطاء الرأس الذي تستخدمه الراهبات! وأذكر في أحد المرات أنني دخلت إحدى صلات عرض الألبسة الغالية جداً، فسألت عن سبب غلاء الثياب على الرغم من أن شكلها مضحك؟ فكان جواب المسؤول بأن هذه الألبسة هي أرقى وأفخم أنواع الألبسة في أوروبا، ثم صادف بنفس الشهر أنني شاهدت برنامج على محطة ألمانية، يجري لقاء مع مصممي الثياب وكان منها ما يشابه تلك التي رأيتها في صالة العرض، فكانت العبرة المثيرة للدهشة، بأن المصمم قال بأنه استوحى هذه التصميمات من لباس القبائل الجرمنية القديمة، التي كانت تعيش في الغابات بصورة بدائية أو همجية؟!
ثم نحن سوف نقوم بارتداء هذه الثياب ودفع الأثمان الباهضة في سبيلها، تساءلت حينها ماذا يحدث لو أننا عرضنا في تلك الصالة ثياب كانت تُلبس من قبل القبائل العربية في الفترة البدائية؟! هل كان الزبون العربي سوف يرتديها ويدفع مقابلها النقود؟
في هذا المعنى يسخر الأستاذ عبد الوهاب المسيري رحمه الله، من أنه يتوجب علينا أن نبدل ثيابنا في العام مرتين بحسب ما يقرر ذلك القرد الأعظم الذي يسيطر على صالات العرض في باريس. فلكل موسم موديلات جديدة، وقصّات غريبة، وموسيقى عجيبة، وبرامج ليس لها غاية سوى تسطيح الثقافة، وخلق جيل هلامي لا أخلاقي، ليس له انتماء أو قيم، ثم حدث ولا حرج على مستوى التقنية، بحيث بالكاد تشتري القطعة الإلكترونية، حتى تصبح بعد قليل غير صالحة بسبب ظهور جيل أحدث منها، ويُقصد ألا تتوافق القطع الجديدة مع القديمة حتى نجبر على شراء الأحدث وبالتالي يجعل منا دوماً أمة مستهلكة ومقلدة نلهث خلف ما يرسل ويصدر إلينا. لقد صدقت فينا نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه".
لا نريد أن نستطرد في سرد الأمثلة، فهي تزكم الأنوف، وتصبح أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر بتبني الفلسفات والنزعات الفكرية والسياسية. ولاشك أن المنتصر أو الغرب عموماً يحاول أن يرسخ فكرة الهزيمة الثقافية في الذهنية العربية، وذلك من خلال محاولة سلب الحضارة العربية الإسلامية أي فضيلة أو مساهمة في التراث الإنساني، وقد بدأت حركة منظمة في الدوائر الثقافية الأوروبية منذ نهاية القرن الثاني عشر لمحو الصورة السابقة للشخصية العربية والإسلامية من الموسوعات الأوروبية، واستبدالها بما هو نقيضها، فعلى سبيل المثال كانت كلمة "عربي" في القواميس اللاتينية تعني "المفكر" و"الفيلسوف" و"العالم"، و"الحكيم"، فتم استبدالها لتصبح "البربري" و"المتخلف" و"العبد"، وغيرها. وهذا هو المستشرق جورافسكي مثلاً يقول: "ففي ذهنية الأوروبي المثقف في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، صورة راسخة للمسلمين كأمة متفلسفة بالدرجة الأولى". أما الفيلسوف والراهب الفرنسي بيتر أبيلار (1079-1142)، فإنه كان يعتقد بأن كلمة "عربي" من حيث المعنى الجوهري معادلة تماماً لكلمة "فيلسوف". ثم يشير المستشرق الروسي أليسكي جورافسكي مجدداً ليوضح أنه في المراحل اللاحقة قد تم تشويه صورة العربي والمسلم في الثقافة الأوروبية بصورة معاكسة تماماً، فيقول: "(...) بل إن صفة (عربي) ذاتها، حملت في هذا السياق نوعاً من المضمون التحقيري- الإزدرائي".
ومثل هذه "الإيديولوجية" تلعب دوراً مزدوجاً فهي موجهة للذهنية العربية لترسيخ فكرة التبعية والدونية والهزيمة الثقافية وتبريرها من جهة، وبنفس الوقت موجهة للذهنية الغربية نفسها لتبرير همينتها وسيطرتها على الشعوب المسلمة أمام الرأي العام الداخلي من جهة ثانية. فكيف يتأتى للمستعمر أن يسيطر على الشعوب المسلمة بحجة تنويرها وتمدينها، إذا نسب لها بعض فضائل التمدن وبعض المساهمات المعرفية في التراث الإنساني عامة وفي نهضة الغرب العلمية خاصة. ثم طلع علينا من بينهم من يزعم بكذبة ما سبقه "بها من أحد من العالمين"، فقد زعم المفكر الأمريكي فوكوياما (-1952)، بأن التاريخ اكتمل وتوقفت حركته عند البوابة الأمريكية، حيث بلغت البشرية بذلك قمة التطور والرقي الحضاري! وما ذلك إلا لتبرير قيم المنتصر وشرعنة هيمنته على غيره بحجة أن قيمه هي الأصلح، وبالتالي يجب أن تلغى من الأذهان أي فكرة لتغير أو قلب معادلة العلاقة بين المنتصر والمنهزم، وليس فقط في الوقت الراهن بل كذلك في المستقبل، كيف لا وقد بلغت البشرية حسب زعمهم قمة الهرم، لذلك فقد جعل فوكوياما عنوان كتابه المعروف: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". ثم يتساءل المرء ألم يحشوا رؤوسنا من قبل بأفكار التطور والصيرورة والتحرر وغيرها، فأين ذهبت مئات الفلسفات والفرضيات التي صدّروها لنا من قبل من صيرورة هيغل، إلى جدلية ماركس، إلى تطورية دارون وانتقائية لا مارك ودارونية ماير الجديدة وغيرهم ... الذي حدث أنه فجأة اقتضت مصالح المنتصر أن يغير نمط الثقافة التي يصدرها لنا، ولا عجب فقد تغيرت الهيمنة من المستعمر الأوروبي، إلى الهيمنة السوفياتية والأمريكية، وبالتالي كان من الطبيعي أن تتغير منظومة المفاهيم والأفكار مع تغير السيد الجديد المتنفذ على رقاب العالم العربي والإسلامي. وعندما بلغت بهم الوقاحة أن يقوموا باحتلال عسكري مباشر لبعض الدول العربية والمسلمة كالعراق وأفغانستان، ظهرت علينا حزمة من السخافات الجديدة التي يجب علينا أن نحشوا بها رؤوسنا وصحفنا ووسائل إعلامنا، من مثل "الشرق الأوسط الجديد" و"الفوضى الخلاقة"، وكأن هذه الشعوب قطعان من الغنم يسوقها السيد كيف وأنىّ شاء. ولم تعدم أياً من هذه المراحل أن تجد من أبناء جلدتنا من يطبل ويزمر لما يصدر إلينا.
أما الهزيمة من الناحية النفسية، فهي أشد خطورة وأمضى فتكاً منها على الصعيد العملي. إن التسليم بالأمر القائم وقبول دور المنهزم، وعدم السعي لإعادة الفاعلية لمجتمعاتنا، يعني أن نحكم على أنفسنا بالموت حضارياً. إن مجرد قبول كل ما يفد لنا، وكل ما يقال عنا، وكل ما يراد لنا هو ضرب من الحمق، وخور مهين في العزائم، والرضى بدور المستجدي على موائد بقية الأمم، والمتطفل على نتاجها المعرفي والتقني، سوف يخرجنا من التاريخ، هذا إذا لم نكن قد خرجنا بعد! إننا لا نقول أبداً بأننا يجب أن نرفض كل ما يفد إلينا أو يجب ألا نتعامل مع الآخر بل بالعكس يجب أن نشجع ذلك، ولكن! شريطة أن تكون العلاقة تثاقفاً، وتعلماً وليست تبعية وانكساراً، وأن نفهم ماذا نريد أن نتعلم من الآخر؟ ولماذا؟ وكيف؟ لا بد أن يكون لنا غرابيلنا الخاصة، ومقاييسنا التي نميز فيها الغث من السمين، وأن نحدد أولويات كل مرحلة. وإذا كان الأخذ عن الآخر لن يمر من غير تأثيره بصورة واعية أو غير واعية علينا، كما شرح ذلك المؤرخ الإنكليزي تنوبي في معرض حديثه عن نقل التقانة الغربية لليابان، فإنه ينبغي علينا إذ ذاك أن نكون حريصين على ألّا ينال ذلك التأثر من الثوابت التي بغيرها نفقد هويتنا الثقافية، يجب أن نتعلم من المهاتما غاندي، الذي يقول: "يجب عليَّ أن أفتح نوافذ بيتي؛ لكي تهبَّ عليها رياح كل الثقافات؛ بشرط ألاَّ تقتلعني من جذوري".
إن الانهزام النفسي يرسخ في الذهنية العربية وهم الدونية، حتى لترى بأن المهندس الأجنبي يحصل في البلدان العربية على ضعفي مرتب زميله العربي، الذي يكون قد درس معه على نفس المقعد الدراسي وربما يكون قد بزه كذلك. لا لشيء سوى لأنه قادم من مجتمع المنتصر. إنّ هذا الوضع مهين جداً، فإذا كنا نقر بأن العقلية العربية قد أصابها داء التخلف المعرفي، وأنها تعاني من مشاكل في أسلوب التفكير ومناهج وطرائق البحث، فإنّ هذا لا يعني أبداً أنها تعاني من تخلف جيني، كما اعتقد بعض أساتذة الفلسفة العرب المنهزمين نفسياً، إن هذا التصور هو سقوط في أفخاخ الإيديولوجيات المصدرة لنا، بل إن التجربة لتثبت في كثير من الأحيان العكس تماماً، إن الشعوب العربية والإسلامية هي من أذكى شعوب الأرض، ولا يعتقد أحداً بأننا نبالغ بهذا الزعم، فلا أدلّ على ذلك من شواهد الحضارات العظيمة، التي شيدتها شعوبنا عبر مراحل مختلفة من التاريخ، والتي لا تزال أثارها تبز أعين اللئام، فهل يستطيع أحد من العالمين أن يلغي وجود الأهرامات مثلاً؟!
يجب أن نعيد الثقة بأنفسنا وقدراتنا وأن نعرف بأن الأيام سجال، فلا يدوم أمر على حاله، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالعودة إلى أصالتنا، وإلى الثقة بخالقنا، ومن ثمة تشمير السواعد، للجد والعمل ولإعادة تأهيل أنفسنا والأجيال القادمة، وهاهي بشائر الخير قد أقبلت مع هذه النسائم التي هبت في ربيع الثورات العربية. وإني جدُّ متفائل بأن جيل الشباب وجيل الأطفال الناشئ سوف يغير بإذن الله الهزيمة إلى نصر.
بقي أن نقول: إن هذه الأسئلة الكبيرة، التي طرحت في هذه المقالة المتواضعة حول الثقافة وتكونها وعوامل ضعفها وقوتها، وأسباب الهزيمة الثقافية أمام الآخر وأشكالها، ودور العامل النفسي في مفاقمة نتائجها السلبية، تحتاج إلى تضافر جهود فكرية كبيرة، وخاصة من شباب الأمة، من المفكرين الشباب، لبحثها ومحاولة الإجابة عليها، فلا يستطيع فرد بعينه مهما بلغ من العلم، أن يزعم بأنه قادر على تقديم إجابات نهائية، وكاملة عليها، ويجب أن تكون أبحاثنا وأفكارنا وكتاباتنا مكملة بعضها لبعض، وأن تتسم بطابع النقد البناء، والحوار الهادف، وقبل هذا وذاك، لابد من إخلاص النية، وصدق العزيمة. نتمنى أن نكون قد قدمنا هنا ما يفيد، وأن نكون قد خطونا خطوة صغيرة بالاتجاه الصحيح.