مع بداية شهر تشرين الأول من هذا العام كان لي الشرف أن أزور سورية بمهمة كي أطلع بشكل محسوس على أدوات الحرب هناك، وعقلية الشعب السوري، والمشهد العام على أرض الواقع. كان الهدف أن أرى البلد بشكل شخصي، وأرى كيف تبدو الحياة في سورية اليوم، والتحدّث إلى المواطنين السوريين، وأسمع رأيهم بما جرى في بلدهم، ورأيهم بالحكومة والإرهابيين، وظروف حياتهم قبل الحرب وما بعدها، وأي شيء آخر يريدون أن يتحدّثوا عنه، وأن نرى المناطق التي ما تزال تحت سيطرة الإرهابيين والتحدّث مع المواطنين هناك، كما نريد أيضاً أن نزور المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة والتحدّث مع المواطنين الذين يقطنون فيها أيضاً.
وبما أن الأزمة شملت معظم أجزاء سورية خلال الست سنوات الماضية، حصلت على إحساس جميل من الآراء الصادرة عن المواطنين السوريين، إذ كان لابد من فحص الموقف أولاً، والتحدّث مع السوريين أنفسهم الذين ليس لهم ارتباط شخصي، بالإضافة إلى الغرباء بشكل عشوائي في الشارع من أجل الحصول على رد فعل غير مفلتر للكثير من الأسئلة التي نريد أن نسألها بعد إتاحة الفرصة لزيارة العديد من الأماكن التي كتب حولها خلال الأزمة. ثانياً: وأنا الآن أكثر قناعة من قبل أن المعلومات التي انتشرت من خلال منافذ تيار الإعلام من قبل محطات “سي. إن. إن”، و”إم إس إن بي سي”، وفوكس، وجميع القنوات بشكل بسيط وكامل وحتى بشكل نهائي هي جميعها كذب ونفاق، وجميع المواطنين في أمريكا وبشكل تراجيدي جاهلون بما يحدث في سورية وبقية العالم، نتيجة الوابل الثابت من الدعاية الإعلامية التي كانت مناقضة للحقيقة بشكل مباشر.
وما يعزّز الرحلة هي مشاهدة عدد من المدن (دمشق-حلب-حمص- طرطوس)، وعدد كبير من المدن الصغيرة والقرى بينها.
لدى وصولنا إلى دمشق أول شيء استوقفنا هو ليس الهندسة المعمارية أو الطرق أو حتى حقيقة أن الحياة بدأت تعود لطبيعتها في المناطق التي تم تحريرها من قبل الجيش العربي السوري، بل هم الناس أنفسهم، وهذا يدل على أن الكثير من المواطنين الأمريكيين يتعذبون ويعانون من الداعية الأمريكية بأن جميع الشعوب في مناطق الشرق الأوسط تكرههم لحريتهم ولدينهم ولباسهم القصير، ربما لا تتفاجأ أن الشعب السوري شعب ذكي بما فيه الكفاية كي يميّز بين الشعب الأمريكي والحكومة الأمريكية، وهذا ما يدل على أن الشعب الأمريكي هو غير الذكي لدرجة أنهم يصدقون ما تمليه الدعاية التي روجتها أمريكا للمشاهد الغربي.
يتميّز الشعب السوري بأنه من أكثر الشعوب ترحيباً، ومودة، وكبشر في العالم، ومن لحظة دخولنا سورية تم الترحيب بنا من قبل الجنود السوريين على جميع نقاط التفتيش، وخلال مسيرنا تمّ الترحيب بنا أيضاً من قبل المواطنين أنفسهم بطرقتهم المشهورة، وفي كل مكان ذهبنا إليه في جميع زيارتنا كنا نلقى الترحاب بعبارة “أهلاً بكم في سورية” من جميع المارة في الشوارع، والتجار، وحتى كل شخص تواصلنا معه، كانت الترحيبات صادقة وحقيقية، وكل شخص كان مسروراً بشكل واضح لدرجة أننا شعرنا أن هذا التكريم ليس مخصصاً لنا فقط بل أعتقد لجميع الأجانب الذين يزورون سورية، وكثير منهم عبر عن سعادته أن السواح عادوا إلى سورية بعد ست سنوات من الحرب، إنها إشارة أن الأمور بدأت تعود لحياتها الطبيعية بشكل بطيء.
بينما يبقى المواطن في الغرب تحت تأثير أن السوريين مهووسون بالدين، وحذرون، ويكرهون الأجانب (خاصة أمريكا وكل ادعاءاتها بالحرية المزعومة) أستطيع أن أقول: إن هذا ليس حقيقياً، وذلك لم يتم أبداً، لأنني لم ألمس أي نوع من الكراهية من السوريين من لحظة دخولي سورية، في الحقيقة تم إجبارنا على مشاهدة النقيض بشكل كامل مني شخصياً والآخرين من لحظة دعوتنا إلى العشاء في مدينة حمص، وحتى بعد عزائم القهوة والشاي التي دعينا إليها بعد الأحاديث القصيرة مع المواطنين.
عليه فإن الشخص الذي يرفض مضمون هذا المقال هو مجرد متشتت، لأنه بعد سنوات من التفجيرات والتمويل والإرهابيين والدعاية الإعلامية الهستيرية الكاذبة على الشاشات الأمريكية، فإن الأمريكيين يعرفون القليل عن سورية وعن الثقافة السورية، ويعتقدون كأنها شيء مشابه للملكة السعودية، حيث كل النساء مغطاة من الرأس حتى القدمين وبدون حقوق وما سواها، ولكن الحقيقة أنه في سورية لا يوجد اضطهاد ديني، ولا يوجد قانون إسلاموي يفرض على غير المسلمين الذين يولدون هناك.
حتى الريف في سورية لا شيء بالنسبة لأمريكا، لأن الكثبان الرملية بعيدة ولا يمكن للعين أن تراها لا ماء لا أشجار، حقيقة هوليود والإعلام المتحالف معها قاموا بأعمال جيدة لإقناع الطبقة الوسطى في أمريكا، بأن هؤلاء هم سكان الصحراء، متوحشون من العصر الحجري، والإعلام الأمريكي تلقى الأموال كي يضخ هذه الأكاذيب.
ولتبديد جزء من هذه الخرافات التي تم تبريرها منذ زمن طويل من المفيد الإشارة إلى أن التصوير التقليدي للشرق الأوسط (نساء محجبات- توحش-قطع رؤوس) هي أقرب ما تكون في السعودية حليفة أمريكا في الإرهاب على سورية.
سورية تملك صحاري بالتأكيد، ولكنها تملك أيضاً جبالاً ومناطق واسعة خضراء، ومناطق ساحلية، وبحيرات، والنساء قادرة على قيادة السيارات والتصويت، وحتى أنها ترتقي لمواقع حكومية متقدمة، والقيام بأعمال يمكن أن يقوم بها الرجال إذا رغبن بذلك.
النساء لسن جميعهن محجبات، وبدلاً من ذلك تراهن يسرن في شوارع المحافظات بدون حجاب، ويلبسن اللباس الضيق، ولا يوجد لديهم شرطة دينية لاعتقالهن، كما أن الحكومة علمانية وتفرض العلمانية في إطار القانون والنظام، والحريات الدينية تطبق على المسلمين واليهود والمسيحيين بالتساوي، وهناك الكثير من البارات في المدن، ومحال بيع المشروبات الروحية، وحتى أن هناك الكثير من الأماكن لشرب الخمور كما هو الحال في البلاد الغربية.
في المقابل تلعب الشهوة الدينية بشكل كبير في عقول الأمريكيين، بينما في سورية قلّما تجد مثل هذه الحالات، وجميع الطوائف تتعايش مع بعضها بسلام منذ أجيال ومستمرة حتى الآن.
والسير في شوارع المحافظات السورية يعكس ذلك بشكل واضح حتى هذه الأيام، لا أحد في سورية تورط دينياً بالحرب، إنها فقط في عقول الغرب الذي كان الموضوع الدائم في الدعاية الإعلامية اليومية بأن الأزمة في سورية مردها للدين والاقتتال المذهبي وهي فقط كانت على شاشات التلقين لمحطات سي. إن. إن- ام اس ان بي سي أن الأزمة في سورية هي حرب أهلية، ولكن بعد ست سنوات من القتال الشرس والكثير من الأعمال الوحشية التي رآها العالم التصقت جميعها بالإرهابيين المدعومين من أمريكا.
لقد بدأ السوريون مرحلة إعادة الإعمار حتى في المناطق التي كانت يسيطر عليها سكان الكهوف الموالين لأمريكا، والحياة بدأت تعود لسورية، وتم إعادة فتح المحال التجارية، وحمص بدأت تعود لها الحياة مع إعادة ترميم أبنية الخدمات، وهذه سمة مميزة في السوريين الذين ساعدوا في أن يظهروا حبهم لبلدهم من خلال الابتسامة على وجوههم وإبداء المرونة في وجه الخلافات غير المعقولة.
وخلال مسيرتنا بالقرب من قلعة حلب، التي كانت مزدحمة في يوم من الأيام تحوّلت المحلات الآن إلى أنقاض وجدران مهدمة، لكن عزيمة السوريين كانت أكبر، والآن شاهدنا الكثير منهم يسيرون إلى محالهم القديمة مع حقائب ومجارف للبدء بعمليات الصيانة ورفع التراب والأنقاض والصخور وتنظيف محالهم لإعادة بناءها بشكل نهائي وافتتاحها وعيونهم متسعة من التحديق بهذا الحجم من الدمار والموت الذي لا يصدق.
الإرادة السورية:
من الصعب أن تجد الكلمات المناسبة لإرادة السوريين الذين أظهروا، ليس فقط الحفاظ على ثقافتهم خلال أحلك فترة في تاريخ بلادهم، أو في إعادة بناء منازلهم وأعمالهم، ولكن أيضاً في رفضهم بدون خوف جميع العروض التي قدمت لهم من قبل الامبرياليين الغربيين لتدمير بلدهم وثقافتهم.
سورية بلد استثنائي، ومعظم السوريين مدركون لذلك، وعند تناول العشاء في مطعم الفندق في دمشق قابلنا زوجين سوريين عبرا لنا عن معرفتهم بسورية بأنها بلد استثنائي في كافة المجالات، وكيف أنهم أنفسهم ارتبطوا بهذه الأرض بطريقة لا يفهما الغرب، لأنه حسب ما قالوا أن الدم الذي يجري في الأرض السورية هو نفسه الدم الذي يجري في أوردتهم.
تحدثنا مع مجموعة من الفنانين وطلاب المسرح وأساتذتهم الذين لم يغادروا دمشق خلال الحرب، الفتيات كنا بعمر العشرينيات عاصرن الأزمة منذ بدايتها، وتأكدنا أنهن يملكن علاقات حب ويردن تعلم قيادة السيارات، هم شاهدوا قذائف الإرهابيين وأفعالهم الوحشية وشاهدوا أصدقائهم يذبحون من قبل الإرهابيين، وصارعوا بما فيه الكفاية ليعيشوا من يوم ليوم، بالنسبة لهم ضاع معظم الشباب من قبل إرهابيي أمريكا. هؤلاء المراهقون الذين يحملون ذكريات هذه السنوات الأليمة لأسوء أنواع الأعمال الوحشية قالوا: إن الإرهابيين دمروا مدارسهم وبات المراهقون من الشباب ضائعون لا مدارس تؤويهم وشردت عائلاتهم ولهذا تمرد معظم الشباب، ولكن الملفت أن تطلعاتهن لازالت ايجابية بشكل لا يصدق.
بعد الحديث معهن وأثناء مغادرتنا شكر أحد مجموعتنا الفتيات على هذا اليوم الجميل، فأجابت إحدى المراهقات: كل الأيام جميلة وعلينا أن نميز ذلك الجمال.
هل هذه سورية التي عاشت ست سنوات من الحرب؟ الجواب بسيط كما قالت إحداهن: “هذه سورية” والغرب حتى الآن لا يريد أن يفهم ارتباط السوريين ببلدهم