يعتبر التعذيب بمدلوله الواضح في اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 من أشد الجرائم خطورة لما يشكله من مساس بالغ بالسلامة الشخصية للإنسان، ومثل هذا المساس قد يكون جسدياً أو معنوياً، وهو بالضرورة ناتج عن فعل يقوم به موظف رسمي أو من هو في حكمه.
ومن الطبيعي، والحالة هذه أن يؤكد القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبشكل خاص اتفاقية مناهضة التعذيب آنفة الذكر، والتشريعات الوطنية للدول، على وجوب إنصاف ضحايا التعذيب ومحاسبة مقترفية أو من أمروا بذلك، وذلك بهدف ضمان عدم تكراره. كما أن مثل هذا الحظر لم يكن أقل وضوحاً في القانون الدولي الإنساني، وبشكل خاص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين وقت الحرب المنطبقة قانوناً على الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث أدرجته المادة 147 ضمن المخالفات الجسيمة التي أوجبت المادة 146 ملاحقة ومحاسبة مقترفيها أو من أمروا بها. ولا يفوتنا الإشارة للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتبره ضمن الجرائم الخطيرة التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة.
وفي الوضع الفلسطيني يحظى التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية والحاطة بالكرامة بأهمية خاصة نظراً للوضع المزدوج الذي يعيشه المواطن الفلسطيني حيث يمارس التعذيب من قبل سلطتين، الأولى سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي دأبت أجهزتها الأمنية على ممارسة التعذيب بشكل منهجي منذ أيام الاحتلال الأولى، وقد ذهبت إلى حد أن جهازها القضائي قد شرعن التعذيب من خلال مسميات أخرى مثل إجازة استخدام ضغوط جسدية ونفسية معتدلة ضد المشتبه بهم بالقيام بأعمال معنية. وقد أظهرت الوقائع أن مثل هذه "الضغوط المعتدلة" لم تكن في الحقيقة إلا تعذيباً صارخاً أدى إلى وفاة العديد أثناء التحقيق وهو أصبح معروفاً لدى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وأجسام الأمم المتحدة ذات العلاقة، بل وهو ما أكدته لجنة التحقيق القضائية الإسرائيلية بهذا الشأن والمعروفة باسم لجنة لنداو. وقد أكدت في تقريرها زيف شهادة المحققين أمام المحاكم وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب. ومن الأشخاص الذين قضوا أثناء التحقيق جراء التعذيب، وفق ما أثبته الطب الشرعي الذي تم بحضور أخصائيين دوليين في علم التشريح، خالد الشيخ علي الذي قضى في سجن غزة المركزي عام 1989، ومصطفى عكاوي (1993)، وعبد الصمد حريزات (1995)، والقائمة تطول وصولاً إلى عرفات جرادات الذي توفي عام 2013.
ورغم ذلك يتواصل التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي ويجري بين فترة وأخرى إدخال تعديلات على الأساليب والتقنيات المستخدمة. ومن الملاحظ أنها تتجه نحو التركيز على الضغط النفسي، ولكن دون التوقف عن استخدام العنف الجسدي. ومن أبرز الأساليب المستخدمة هذه الأيام هو الشبح حيث يتم إرغام المعتقل على البقاء واقفاً أو جالساً أو على كرسي مكبل اليدين ومغطى الرأس بكيس نتن لفترات قد تصل إلى أسابيع وأكثر، ولا يفك قيده إلا لدقائق عند قضاء الحاجة أو تناول الطعام. وهذا الأسلوب يتضمن أساليب أخرى مثل الحرمان من النوم والنظافة الشخصية. وعموماً فإن كل شخص وبغض النظر عن عمره أو جنسه أو التهم المنسوبة إليه، يتعرض للتعذيب أو كحد أدنى لمعاملة سيئة وحاطة بالكرامة الإنسانية.
وإذا كان سوء المعاملة والتعذيب أهم ما يميز أقبية التحقيق فإن العنف الجسدي والرش بالغاز في الأماكن المغلقة هو الأسلوب الشائع في عنابر المعتقلات على أيدي قوات خاصة تابعة لمصلحة السجون ومدججة بأسلحة القمع والكلاب البوليسية. وتقوم هذه القوات باقتحام السجون من حين لأخر ولأبسط الأسباب حيث تعتدي جسدياً على المعتقلين وتجري تفتيشات عارية ومذلة مع إبقائهم في العراء تحت أشعة الشمس الحارقة والبرد القارس لساعات طويلة. ويتواصل هذا المسلسل الذي تحوّل إلى نهج أثناء عمليات نقل المعتقلين والأسرى من سجن لأخر بواسطة مركبات نقل خاصة يتولى مسؤوليتها منذ سنوات فرقة خاصة تدعى "النحشون"، وهي فرقة معروفة بفظاظتها وعدوانيتها تجاه المعتقلين، وهو ما أدى إلى تعريض حياتهم للخطر الحقيقي مراراً، وفي أحيان إلى الوفاة كما حصل بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر 2014 مع الأسير رائد عبد السلام الجعبري - عمره 35 عاماً وأب لخمسة أبناء - الذي ارتقى نتيجة الضرب العنيف على رأسه أثناء نقله من معتقل "عوفر" إلى سجن "ايشل" في بئر السبع.
ويتعزز التعذيب باستمرار بسبب الحماية التي يوفرها الجهاز القضائي الإسرائيلي للمحققين حيث ينأى عموماً عن محاسبة المتورطين في التعذيب، وإن فعل ذلك في أحيان نادرة فإن العقوبة لا تتناسب مع الجرم ويقع معظمها في الإطار الإداري. وقد أدى هذا الوضع إلى حالة من انعدام الثقة في القضاء الإسرائيلي وهو ما يفسر إحجام الضحايا أو ذويهم عن التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية وهو ما يفتح الباب إلى ضرورة الملاحقة القضائية على المستوى الدولي وأمام المحاكم الوطنية للدول التي أجاز تشريعها الجنائي محاكمة أشخاص متهمين باقتراف جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة.
السلطة الثانية التي تمارس التعذيب وبغض النظر عن وتيرته، وإن كان منهجياً أم غير ذلك، هي السلطة الوطنية الفلسطينية التي أدى التعذيب في سجونها إلى وفاة عدد من الضحايا خاصة في سنواتها الأولى منهم المواطن سليمان جلايطة (42 عاماً) من مدينة أريحا، وقد توفي في سجن جهاز المخابرات العامة بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير 1995، والمواطن محمود الجميل من مدينة نابلس الذي توفي على يد جهاز الشرطة البحرية بتاريخ 31 تموز/يوليو 1996، والمواطن مجد البرغوثي الذي توفي في 22 شباط عام 2008 على يد أجهزة المخابرات، والمواطن هيثم عمرو من بلدة دورا قضاء الخليل الذي توفي نتيجة التعذيب في سجون السلطة عام 2009.
وراهنا ورغم استمراره إلا أنه شهد تراجعاً ملحوظاً بفعل الضغوط التي مارستها مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية والذي قاد إلى اتخاذ بعض التدابير وإن لم تكن كافية للحد من ممارسة التعذيب.
فعلى مستوى التشريعات الفلسطينية، فإن القانون الأساسي الفلسطيني حظر في مادته 13 بوضوح "إخضاع أحد لأي إكراه أو تعذيب"، وأكد على معاملة المحتجزين معاملة لائقة. كما أنه أكد بطلان كل قول أو اعتراف نتج عن التعذيب. والمادة 32 من القانون الأساسي أوجبت تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه ضرر ناتج عن الاعتداء على أي من الحقوق والحريات التي كفلها له القانون الأساسي.
كما أن الرئيس أبو مازن وعلى ضوء تقرير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان رقم 18 لعام 2013، أصدر تعليمات بهذا الخصوص تؤكد على جميع الجهات ذات العلاقة بالتوقيف والاحتجاز والتحقيق بضرورة الالتزام بنصوص القانون الأساسي والقوانين ذات العلاقة التي تمنع أشكال التعذيب كافة.
إلا أن الإشكالية تكمن في قانون العقوبات الفلسطيني النافذ وهو قانون العقوبات الأردني لعام 1960، الذي لم يرتقي في معالجته لموضوع التعذيب إلى ما تضمنه القانون الأساسي بهذا الشأن حيث اعتبره جنحة لا جريمة. أي أنه قلل من خطورته وبالتالي من العقوبة المترتبة عليه ومستوى الإنصاف للضحايا، وهذا يقتضي بالضرورة العمل على تطويره ليس بهدف الارتقاء إلى مستوى القانون الأساسي فحسب وإنما لمواءمته مع اتفاقية مناهضة التعذيب بعد أن أصبحت دولة فلسطين عضواً فيها مما جعله استحقاقاً يقتضي منها الإسراع في اتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية وغيرها لتحقيق هذه الموائمة.
وعلى صعيد إنصاف الضحايا فإن الموائمة المطلوبة يجب أن تتضمن كحد أدنى:
التعويض المادي بما يضمن تعويض مالي عن الأذى الجسدي أو النفسي الذي لحق بالضحية إضافة إلى الفرص التي ضاعت بسبب الاعتقال أو التعذيب؛
تأهيل الضحايا بما يشمل إعادة التأهيل وكل ما يتعلق بالرعاية الطبية والنفسية إضافة إلى الخدمات الاجتماعية والقانونية؛
محاسبة المتورطين في التعذيب وتشمل المحاكمة والإعفاء من المناصب العامة وهذا ضروري لإرضاء الضحية وضمان عدم تكرار هذه الجريمة؛
الاعتذار للضحايا والمجتمع والاعتراف بالمسؤولية وبما لحق بالضحايا من معاناة نفسية وجسدية ودلالات ذلك على الحرص في الإقلاع عن هذا السلوك.
وما يجري في الواقع لا يراعي هذه المتطلبات، ومن الملاحظ أن ضحايا التعذيب في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية لا يتقدمون بشكاوى في المحاكم الفلسطينية ولا يطالبون بالإنصاف والتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، ويعود ذلك برأينا إلى مجموعة من الأسباب أهمها:
ضعف النصوص الواردة في قانون العقوبات الفلسطيني النافذ الذي يعتبر التعذيب جنحة لا جريمة، إضافة إلى عدم وجود نصوص قانونية واضحة بشأن التعويض؛
صعوبة الحصول على التوثيق الذي يرتقي إلى مستوى الأدلّة التي تمكّن من المتابعة القضائية؛
غياب ثقافة التعويض في المجتمع الفلسطيني والتقليل من شأنها مما يشجع اللجوء إلى حلول فردية؛
شيوع الحل العشائري بدل سيادة القانون في العلاقة بين المواطن والسلطة خاصة في ضوء خشية العديد ممن تعرضوا للتعذيب لتقديم الشكاوى؛
ضعف الثقة في القضاء الفلسطيني وتعقيدات الإجراءات القضائية وطول أمدها.
والخروج من هذه الحالة يستوجب العمل على تحقيق أشكال إصلاح الضرر آنفة الذكر وتعزيز الوعي بين المواطنين في أهمية التصدي للتعذيب من خلال القانون والقضاء.
إن أهمية كل ذلك تأتي في سياق التأكيد على أن دولة فلسطين تناهض التعذيب كجزء من التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرصها على إقامة مجتمع يرتكز على مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته الاساسية – بما في ذلك إنصاف ضحايا التعذيب ويُظهر فلسطين كدولة تلتزم باحترام تعهداتها الدولية.