يبدو أكثر وأكثر ان تطور الثقافة العربية في العقود الأخيرة يؤدي الى نوع من التصحر الناتج عن عوامل عديدة ومنها بشكل خاص ذوبان هذه الثقافة في مناقشات حادة حول الدين الإسلامي بين نظرة معتدلة اليه ونظرة متشددة وراديكالية. وقد اجتاحت القضايا الدينية معظم الحيّز العقلي والثقافي والسياسي للمجتمعات العربية. وهذا التطور الخطير ناتج عن وطأة وسائل الإعلام العربية والغربية على هذه الأمور وكذلك أعمال أكاديمية الطابع من قبل عدد كبير من المثقفين العرب والغربيين. أضف الى ذلك العديد من المؤلفات العربية التي تعيدنا الى الماضي مثل الكتابات حول الفتنة الكبرى وحول الخلافات الدينية والعقيدية التي برزت في القرون الأولى من نشر الديانة الإسلامية ومدارسها الفقهية المتعددة؛ أو المؤلفات التي تسعى الى تبيان ماهية العقل العربي وتكوينه وكأنه عقل جامد يعتمد بشكل شبه حصري على رؤية دينية الى العالم.
وقد نتج عن ذلك نوع من الانقطاع في الذاكرة العربية أدّى الى نسيان المصادر المتعددة للثقافة العربية وغنى وتنوع الفكر العربي، سواء خلال فترة القرون الأولى من تألق الحضارة العربية الإسلامية أو في عصرنا الحديث منذ ان أدرك العرب الهوة العميقة بين التقدم الكبير الحاصل في أوروبا وتأخر المجتمعات العربية والإسلامية تقنياً وعلمياً وحضارياً. فهذه الثغرة في الذاكرة هي مزدوجة اذن، الأولى تعود الى تنكّر تعدد مصادر الفكر العربي والثانية تتعلق بنسيان حركة النهضة العربية البرّاقة التي بدأت مع كتابات الشيخ رفعت رفاعة الطهطاوي وتواصلت مع العديد من المفكرين العرب من كل الاتجاهات الفكرية.
الجذور المتعدّدة للثقافة العربية وغنى الفكر السياسي العربي المعاصر
أودّ التذكير أولاً بأن جذور الثقافة العربية تكمن في الشعر العربي وفي ثراء اللغة العربية وعبقريتها. ولا يزال الشعر نواة الثقافة العربية إلى يومنا هذا. ومشاهير الشعراء العرب القدامى والجدد يكرَّمون ويُحتفى بهم في كل مكان في المجتمعات العربية. وينبغي الإشارة أيضاً إلى أن العرب كانوا تجّاراً لهم مكانتهم واتصالاتهم بالحضارتين الفارسية والبيزنطية. لم يقتصر حضور هؤلاء التجّار على شبه الجزيرة العربية، بل شمل سوريا وبلاد ما بين النهرين. وهناك عدد من القبائل العربية التي تحوّلت إلى اليهودية أو النصرانية. لكنّ الفتوحات العربية في القرن السابع تحت راية الدِّين الإسلامي التوحيدي الجديد استطاعت “تعريب” بلاد المشرق حيث حافظت شرائح سكانية كبيرة على انتماءاتها المسيحية واليهودية والزرادشتية ولم تعتنق الإسلام. ومع أنّ الفاتحين العرب نشروا الإسلام في شمال أفريقيا، فقد حافظت قبائل بربرية كثيرة على لغتها الخاصة وبالتالي لم تستعرب. بعبارة أدقّ، لم يكن العرب مجموعة منغلقة تميّزت بنمط حياة بدوية على سبيل الحصر، بل كانوا أناساً ملمّين بالعالم الكبير الذي عاشوا فيه.
عندما أقيمت الخلافتان المتتاليتان الأموية (661-750) والعبّاسية (750-1258)، شرّع الخلفاءُ العرب أبوابهما أمام التأثيرات الثقافية الرئيسة التي وُجدت حولهما، ودمجتا المسيحيين واليهود في المجتمع الإسلامي الجديد الذي كان في طور النشوء. بل إنّهم شّرعوا أبواب الخلافتين أمام التأثيرات الهندية والصينية من خلال توسّع التجارة العربية. والشيء الذي يمكننا وصفه بالحضارة العربية الإسلامية التي ازدهرت فيها العلومُ الطبيعية والفلسفة والتاريخ وعلوم الفلك والجغرافيا والأنثروبولوجيا إنما كان نتاج تفاعل عميق بين النخبة العربية والواقع المعرفي القائم في الحضارات الكبرى الأخرى. وأضحت العربيةُ اللغةَ المشتركة لجميع المفكّرين على اختلاف أصولهم الإثنية، ورجال الدِّين، بالإضافة إلى العلماء. وكان العرب على إلمام قوي باللغة الآرامية السريانية بخاصّة وبالمعارف السائدة في أغلب بلاد المشرق وبلاد ما بين النهرين.
وليس هنا المجال بالتذكير بعظمة المفكرين الكبار والعلماء في شتى أنواع المعرفة البشرية في هذه الحقبة المجيدة من تاريخنا العربي حيث تفاعل فيما بينهم علماء من جميع الجنسيات والمجتمعات وبشكل خاص الى جانب العرب، الفرس والأتراك الذين برعوا جميعاً في علم الكلام وعلم الفلك والطب والرياضيات والجغرافيا والتاريخ البشري وعلم المنطق والفلسفة وعلم السياسة. في حينه كان العلماء العرب مع زملائهم من الفرس والاتراك في طليعة التطور الحضاري خاصة بالمقارنة مع أوروبا، بالإضافة الى عدد الشعراء الكبار والكتابات الصوفية الطابع.
هذا يدلّ بما لا لبس فيه ان العقل العربي في ذلك الحين قد كان في غاية الانفتاح والإبداع ولذلك سادت اللغة العربية المتطورة والغنية للغاية كلغة علم اعتمدها مثقفو ومفكرو الشعوب الأخرى التي اعتنقت الديانة الإسلامية او حتى بالنسبة الى مثقفي أوروبا الذين درسوا اللغة العربية للاستفادة من العلوم والفنون التي كانت تحملها.
لذلك عندما نشهد التقوقع والانغلاق الكبيرين الذين أصابا الحيّز الثقافي ـ السياسي ـ الديني في العديد من المجتمعات العربية وحالة التزمّت الذي يأخذ أشكالاً دموية في حروب أهلية تتميز بموجات إرهابية قلّ نظيرها نتساءل بقلق كبير حول هذا الانهيار الهائل في مقومات الذاكرة العربية وما هو مصدره.
نسيان مكونات النهضة العربية الحديثة وتجاهل غنى الفكر والثقافة الوضعيتين العربيتين
ان الفكر العربي الحديث قد تركّز منذ حملة نابليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر على القضايا الرئيسية التالية: (1) ما هو سبب تخلّف المجتمعات العربية وضعفها؟ (2) ما هي هُويتنا؟ (3) لماذا نحن متفرّقون وعاجزون عن بناء أمّة عصرية متماسكة تحظى باحترام الأمم الأخرى؟ لا تزال هذه الأسئلة الرئيسة الثلاثة التي ميّزت كلّ المؤلّفات السياسية منذ بداية القرن التاسع عشر موضوع البحث عن الذات إلى يومنا هذا. والحوادث التي وقعت مؤخّراً منذ بداية سنة 2011 زادت الموضوع إلحاحاً. لكن بقي الردّ على تلك القضايا السياسية والثقافية الرئيسة الثلاث المذكورة هنا سبب انقسام حادّ في الحياة الفكرية العربية في الوقت عينه.
والحقيقة اننا الى اليوم لم نصل الى قناعة مشتركة حول الإجابة حول التساؤلات الثلاث المذكورة. وعلى سبيل المثال فإن الاتفاق الذي حصل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بأن ما يجمع العرب هو قومية واحدة مبنية على لغة مشتركة وتاريخ مشترك قد تمّ ضعضعته بتضخيم عنصر الهوية الدينية على حساب الهوية القومية الثقافية اللغوية وصعود شعار “الإسلام هو الحلّ” كشعار مبّسط جامع أدّى الى مزيد من الفتن فيما بين العرب وساهم في ذوبان الشخصية الثقافية العربية في شعارات عقيدية دينية الطابع وتعاظم المظاهر الخارجية للتديّن.
أما بالنسبة الى البحث عن أسباب تخلف المجتمعات العربية الاقتصادي والاجتماعي فقد كان الاتفاق على ان الاستعمار المتحالف بقوى الإقطاع المحلي هو سبب التخلف يجب معالجته بسياسات اقتصادية واجتماعية جريئة تكسر الحلقة المفرغة للتخلف، وقد كان العديد من الاتجاهات الفكرية والعملية تميل نحو إجراءات اشتراكية الطابع من أجل تحقيق تنمية شاملة تُخرج الجماهير الفقيرة من تهميشها لتُدخل في المساهمة في بناء الوطن وإخراجه من التخلف.
أما البحث عن أسباب التفرقة فيما بين الأنظمة العربية وبالتالي العجز عن بناء امة عصرية متماسكة تحظى باحترام الأمم الأخرى، فقد كانت الاتجاهات الفكرية تصبّ جميعها في تحقيق الحدّ الادنى من التنسيق بين الأقطار العربية في مجال السياسة الخارجية، خاصة عبر تقوية أجهزة الجامعة العربية المختلفة مجابهةً لجهود القوى الاستعمارية القديمة لبسط أنواع جديدة من الهيمنة السياسية والاقتصادية على الدول العربية. وقد أصبحت الولايات المتحدة قوى جديدة لم يكن هاجسها الاّ محاربة الاتحاد السوفييتي وكذلك الأفكار القومية والتقدمّية التي كانت تنتشر بسرعة في كل العالم الثالث. والجدير بالذكر هنا ان العالم العربي حينذاك كان احدى الركائزالأساسية لحركة عدم الانحياز وأبطالها رئيس وزراء الهند “نهرو” ورئيس يوغسلافيا “تيتو” والرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وقد تمّ محاربة قوميات العالم الثالث الصاعدة واتجاهاتها التحررية والاشتراكية بأساليب عديدة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوروبية، فأصبحت كتلة الدول الغربية هذه المتجمعة بالحلف الأطلسي تعمل ليلاً ونهاراً على بث التفرقة بين الدول العربية. وقد نتج عن هذه الجهود تقسيم المجموعة العربية الى دول “معتدلة” ودول “راديكالية”، تحظى الكتلة الأولى برعاية ومساندة متواصلة، بينما تواجه الكتلة الثانية بشتى أساليب العداء ومحاولات زعزعة استقرارها الداخلي. ضف على ذلك الصراع بين رؤساء الدول العربية لتزعم مجموعة الدول العربية مما أدى الى محاولات متكررة فاشلة لتجارب الوحدة بين دولتين عربيتين أو أكثر.
وفي هذه الأجواء المضطربة شهدت الساحة العربية صعود حركات الإسلام السياسي وتمّ أيضاً إنشاء منظمة الدول الإسلامية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية المتفرعة عنها وهي أصبحت تزاحم كل من جامعة الدول العربية وحركة عدم الانحياز اللتين كانتا تتميزان بثقافة سياسية وضعية لا تستنجد بالأديان وبالقيم الدينية. وقد شهدت الساحة الفكرية العربية بالتدريج صعود تيارات فكرية تدعو الى وحدة الشعوب الإسلامية وعودة الدين الإسلامي كمخزون هويتي رئيسي على حساب الفكر القومي الحديث وعلى رأسهم فكرة القومية العربية الوضعية التي لا تتنكر الى أهمية الديانة الإسلامية في التاريخ العربي المشترك والوعي الجماعي، انما لا تجعل منه العامل الهويتي الحصري الذي يقصي العوامل الأخرى الوضعية في تكوين الأمم.
وفي هذا السياق أصبح بعض من الإعلام العربي والعديد من الدراسات الأكاديمية سواء في الدول الغربية او في العالم العربي يبرز بشكل مثير ومتكرر الأفكار الراديكالية الدينية الإسلامية الطابع لكل من سيد قطب وابن تيمية وابو العلاء المودودي، مما أدى الى إقصاء الفكر الإسلامي لكبار الفقهاء المسلمين العرب مثل الشيخ رفعت رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ احمد أمين وطه حسين والشيخ بن باديس والامير عبد القادر الجزائري ناهيك عن جمال الدين الأفغاني والامير شكيب أرسلان وجميعهم عملوا وناضلوا من أجل التوفيق بين الحداثة والقيم الدينية الإسلامية، وكان لهم أكبر الأثر في موجة التحديث للبنى المؤسساتية في المجتمعات العربية ودولها.
وجدت هذه الحركة الحداثية العديد من الأتباع في المجتمع، ممّن لم يتلقّ تعليماً دينياً من المسلمين والمسيحيين على السواء، كما في مصر وسوريا ولبنان والعراق. وفي هذا الصدد، يمكن للمرء الاستدلال بشخصيات مؤثّرة مثل أحمد لطفي السيّد، وهو مفكّر مصري كبير، أدخل تحسينات جوهرية على الصحافة المصرية، وكان بالغ التأثير بتطلّعاته الحداثية والعلمانية. لكن ذاع صيت كثير من المفكّرين الآخرين، من المسلمين والمسيحيين، في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين.
تطوّر فكر نقدي عربي في مواجهة إخفاقات العرب
وعلى أثر النكبات المتتالية التي أصابت المجموعة العربية وبشكل خاص العجز العسكري الهائل الذي ظهر على أثر الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967 واحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية في كل من مصر وسوريا، ظهر فكر نقدي عربي غني. وقد برزت هذه المدرسة الفكرية بقوة عقب أخفاقين عربيَّين مدوّيَين، أولهما إخفاق أولى تجارب الوحدة التي لم تدم طويلاً بين مصر وسوريا (1958-1961) والتي اعتُبرت بدايةً لحركة وحدة عربية كبرى تزيل الحدود التي فرضتها اتّفاقية سايس بيكو في سنة 1916. أما الإخفاق الثاني فهو قد ظهر في الهزيمة العسكرية النكراء التي نزلت بالعرب في حربهم مع إسرائيل في سنة 1967 والتي أفضت إلى استيلائها على شبه جزيرة سيناء المصرية، وعلى مرتفعات الجولان السورية، وعلى الضفة الغربية الفلسطينية التي كانت خاضعة للإدارة الأردنية. أفسح هذان الحدثان المأساويان المجال أمام توجيه انتقادات حادّة من قِبل عدد من المفكّرين العرب، بعضهم منتمٍ إلى مدرسة الفكر الماركسي ومدرسة الفكر القومي. أعدّ هؤلاء دراسات وكتباً كثيرة قيّموا فيها الأسباب الرئيسة لعجز العرب عن تحقيق الوحدة أمام تحدّيات عديدة واجهتها المنطقة العربية. حدّدوا تلك التحدّيات بأنها الإخفاق في مواجهة احتلال دولة إسرائيل الحديثة لفلسطين، وفي مساعدة الفلسطينيين على استرجاع ولو جزء من الأراضي التي خسروها في حرب العام 1967، والفشل في مواجهة سياسات الاستعماريين الجدد التي انتهجتها الولاياتُ المتّحدة وحلفاؤها، والفشل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متسارعة.
شجبت هذه المدرسة السياساتِ الفاشلة التي انتهجتها الانقلابات العسكرية كما حصل في مصر وسوريا والعراق والتي عُلّقت عليها آمال كبيرة. وقد رأى بعض هؤلاء، من أمثال جلال صادق العظم، أن المشكلة الرئيسة تكمن في الدور السلبي الذي بقيت المؤسسات الدينية تقوم به في الدول العربية وهو ما يحول دون نموّ الطاقات والقدرات العربية وإسهامها في مكافحة التخلّف. ورأى آخرون، من أمثال ياسين الحافظ، ومهدي عامل، وهو مفكّر لبناني لامع اغتيل في سنة 1987، أنّ العامل الرئيس الذي أدّى إلى إخفاق المجتمعات العربية كان إخضاع “البرجوازية الصغيرة” الحديثة للبرجوازية المحلّية الأعلى مقاماً بسبب الثورات التي قادها ضبّاط عسكريون.
يظهر أن ياسين الحافظ ومهدي عامل تأثّرا بمؤلفات فرانتز فانون، وهو طبيب وعالم نفساني من جزر “الأنتيل” التي استعمرها الفرنسيون والذي التحق بجبهة التحرير الوطني الجزائرية. أسهب فانون في كتابه Les damnés de la terre (معذبو الأرض) في وصف أخطار ما بعد التحرّر والحصول على الاستقلال. تكهّن بأن القيادات الجديدة في تلك الدول ستستسلم لإغراء تقليد سلوك أسيادها المستعمِرين السابقين وتتحوّل بسهولة إلى حلفاء لهم. ولذلك أوصى ببقاء تلك القيادات الجديدة قريبة من الجماهير الشعبية، وبخاصّة سكان المناطق الريفية كونهم الخزّان الأمثل للسير في الطريق المؤدّي إلى الاستقلال الحقيقي والتغيير الاجتماعي ونصرة المحرومين. وحذّر من سوء استغلال التقاليد المتحجّرة لإبقاء الجماهير تحت السيطرة وهو ما يجعلها تعبيراً فولكلورياً للهُويّة.
ويمكن الإتيان على ذكر عديد من المفكّرين العلمانيين هنا، لا سيما الشاعر السوري الشهير أدونيس (الذي انتقده مهدي عامل لمقاربته الجوهرانية تجاه الدِّين الإسلامي)، وسمير أمين، العالم الاقتصادي المصري الأصل، وكثير من الوطنيين الحداثيين العرب غير الماركسيين مثل عبد الله عبد الدايم وقسطنطين زريق، وهما مفكّران سوريان عظيما التأثير. المفكّر المؤثّر الآخر هو المغربي عبد الله العروي المجاهر بماركسيته والذي حلّل بذكاء الفجوة المتكررة بين التغيّرات التي تشهدها الحياة الفكرية الغربية والتغيّرات اللاحقة التي شهدها الفكر العربي ونظرته إلى العالم تحت تأثير التغيرات الفكرية الأوروبية. يرى العروي أنه لا يمكن للحياة الفكرية العربية أن تقضي على هذا التخلف بالشكل المناسب على صعيد الحداثة إلاّ باعتماد نظرة عالمية مبنية على النزعة التاريخانية الماركسية.
بالعودة إلى موضوع إخفاق المجتمعات العربية في الانخراط في تنمية اقتصادية متسارعة في سبعينات القرن الماضي، شكّك عدد من الخبراء الاقتصاديين العرب في اعتماد الاقتصادات العربية المتعاظم على ريع النفط. كما شكّكوا في تصدير القوة العاملة الماهرة وغير الماهرة الى خارج الوطن العربي، والميل إلى زيادة استهلاك الكماليات وإهمال سكّان المناطق الريفية والقدرة الزراعية على إنتاج الغذاء للاستهلاك المحلّي، بالإضافة إلى الإخفاق في تحصيل العلوم والتكنولوجيا وبالتالي شدّة الاعتماد على الواردات من المكائن والمعدات الصناعية. نشير في هذا السياق إلى الراحل يوسف صايغ، أحد أشهر الخبراء الاقتصاديين العرب، والذي ألّف كتاب محددات التنمية الاقتصادية العربية (The determinants of Arab Economic Development) في سنة 1978. لا يزال هذا الكتاب أبلغ وأسهب وصف لإخفاقات السياسات الحكومية في العالم العربي. كما ألّف الصايغ كتيّب قيّم في سنة 1961 بعنوان Bread with Dignity (الخبز مع الكرامة) لخّص فيه القضايا الاجتماعية الاقتصادية الأساسية في المجتمعات العربية. وعلى ضوء المظاهرات الشعبية العارمة التي شهدها معظم المجتمعات العربية في سنة 2011 والتي طالبت بتوفير العدد الكافي من فرص العمل، وتأمين العدالة الاجتماعية، والحرّيات السياسية ومحاربة الفساد، تُظهر مقالة يوسف الصايغ التي نُشرت قبل سنين كثيرة من حدوث الاضطرابات الاجتماعية مدى بُعْد نظر الكاتب. وحلّل أنطوان زحلان، وهو خبير اقتصادي فلسطيني آخر وعالم فيزيائي، بكثير من التفصيل الأسباب العديدة لإخفاق المجتمعات العربية وحكوماتها في فهم القضايا المتصلة بالاستحواذ على العلوم والتكنولوجيا وتوطينها محلياً.
الإقلاع عن مناقشة لا نهاية لها للأمور الدينية والعودة الى مناقشات أسباب الفشل العربي الذريع في تملّك وتوطين العلم والتكنولوجيا
لقد آن الأوان للالتفات إلى القضايا المتّصلة بتعاظم الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية في أغلب الدول العربية على صعيد استيعاب العلوم والتكنولوجيا، والتصنيع والأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية، واشتمال أفقر الطبقات السكانية وتمكينها. إن الملايين من الشباب العرب العاطلين عن العمل والمهمَّشين في مجتمعاتهم يشكّلون بيئة محلية سلبية يمكن أن تتيح للمنظمات العنيفة والإرهابية تجنيدهم. وفي هذا الخصوص لا بدّ من التذكير بأن المنطقة العربية تعاني من أسوأ معدلات البطالة من بين سكّان سائر المناطق في العالم، وبخاصّة العنصر الشاب. وعلى الرغم من ثراء بعض الدول العربية، لم يُبذَل شيء لتصحيح أنماط اختلال التوازن الاجتماعي وتأمين فرص عمل لائقة وبأعداد كافية. وبوجود عدد كبير من العرب من أصحاب الملايين، يصبح الوضع أشدّ خزياً.
هذا هو سبب وجوب إيلاء القضايا المتّصلة بهذه الإخفاقات اهتماماً فكرياً أكبر بكثير خاصة بالمقارنة بالنجاحات في مناطق أخرى في العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. عانت دول أخرى غير الدول العربية من عدوان القوى الاستعمارية الغربية، لكنها نجحت في استيعاب العلوم والتكنولوجيات الحديثة وأضحت اقتصادات دينامية ومبتكِرة (كوريا الجنوبية، تايوان، الصين، سنغافورة، بل واليابان في القرن التاسع عشر). كما أنها تخلّت عن علاقات الحبّ /الكراهية الملتبسة مع العالم الغربي، وتكاملت مع الحداثة العالمية التي أشاعتها المجتمعات الغربية في سياق ديناميات العولمة الاقتصادية.
لذلك، ينبغي أن يصبح التحقيق في أسباب وكيفية إخفاء وطمس غنى وتعدد الثقافة والفكر العربي المعاصر ولجم النزعة الحداثوية في المجتمعات العربية قضيةً مركزية في الدراسات الأكاديمية عن العالم العربي. القضية الأخرى هي ضرورة قيام الباحثين العرب بالتقليل من اهتمامهم بالعلاقات بين العرب والمجتمعات والثقافات الغربية ليتسنّى لهم التركيز على دراسة عملية التحديث الناجحة للمجتمعات الآسيوية والأمريكية اللاتينية الأكثر دينامية. وهناك بالتأكيد دروس كثيرة يمكن تعلّمها من تجاربهم. غير أن قلّة قليلة من المفكّرين درستها حتى هذه الساعة. وأنا أرى أن الوقت قد حان لتعديل الأجندة الأكاديمية المتّصلة بالعالم العربي للخروج من المناقشات العقيمة التي تركّز على الديانة الإسلامية ذلك ان الدين وتفسيراته المتنوّعة ليست ظاهرة جامدة، بل هي تتطور وتتغير حسب الظروف التاريخية، وإذا كان الدين مصدر من مصادر تطور الفكر، فهو لا يمكن أن يكون بديلاً عن النسيج المتعدد الأطراف للفكر والثقافة.
لذلك، “العقل العربي” ليس عقلاً لاهوتياً إقصائياً. وهو قد شهد على مرّ التاريخ تغيّرات كثيرة؛ وثقافته سواء الإسلامية أو التي سبقت الإسلام مبنية على طرائق متنوّعة للتعبير عن الذات، بدءاً بالشعر وانتهاءً بالفلسفة والموسيقى والرسم والأدب بكافّة أشكاله، لذلك فإن اختزاله بعقل ديني لاهوتي هو مجرّد سخافة.