تحتفل الأمّة العربية هذه الأيام بنصرين متلازمين: النصر الأول في مدينة القدس حيث أوقع الشعب الفلسطيني هزيمة سياسية مدوية لحكومة الكيان وأجبرها على التراجع عن الإجراءات غير القانونية، وغير الأخلاقية، بحق المقدسيين ومجموع الفلسطينيين والمصلّين في جامع الأقصى. أما النصر الثاني فهو دحر فلول جبهة النصرة في جرود عرسال بسبب جهود المقاومة الإسلامية والجيش اللبناني.
النصران يندرجان في سياق تحوّلات إقليمية ودولية ظهرت في التطوّرات الميدانية في كل من سورية والعراق، وفي إخفاقات حكومة الرياض في اليمن والتصدّع داخل مجلس التعاون الخليجي، وفي تراجع قدرات الولايات المتحدة في رسم وتنفيذ سياسات تضمن هيمنتها في الإقليم وفي العالم وصعود محور مناهض لها. كما أن الانتصارين يعكسان زيادة الوعي الشعبي العربي بيقين التحوّلات وقدراته على التفاعل معها لمصلحة الحق العربي.
لذلك فإن هذين الانتصارين لهما دلالات عدّة.
الدلالة الأولى هي أن النصر أتى بفعل تراكمي لكل من الشعب في فلسطين فيما يتعلّق بمقاومة الاحتلال للقدس وللمسجد الأقصى، وفي لبنان بفعل تضافر جهود المقاومة اللبنانية والجيش اللبناني في التصدّي لجماعات التعصّب والتوحش والغلو التي كانت تهدّد السلم الأهلي. وتضافر جهود المقاومة والجيش اللبناني أكّد صحّة المعادلة الذهبية التي حكمت المواجهة مع العدو الصهيوني، أي الشعب والجيش والمقاومة رغم محاولات بعض القوى اللبنانية من التنصّل منها. كما أن توافق أكثرية اللبنانيين والالتفاف حول الجيش اللبناني كان أقوى من محاولات بعض القوى للنيل من الجيش ومن المقاومة.
الدلالة الثانية هي صحّة جدوى خيار المقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني. لقد اعتقدت حكومة العدو أنها تستطيع العربدة بحرم الأقصى بسبب التواطؤ الرسمي لبعض الدول العربية المهرولة للتطبيع دون أي مقابل. كما أن حكومة الكيان توهّمت أن الانقسام الفلسطيني والتنسيق الأمني يسمحان لها بالتمادي في موضوع الأقصى. غير أن الشعب الفلسطيني وفي مقدمّتهم أهل القدس مصممون على التصدّي لممارسات الكيان وبالتالي للمواجهة. فهناك انتفاضة تعمّ فلسطين المحتلّة رغم محاولات الاستخفاف بها وتسميتها ب "هبة" محمودة ولكنها غير ذي جدوى. فالشعب الفلسطيني ابتكر وسائل جديدة للتصّدي منذ أكثر من ثلاثين سنة. فمن انتفاضة الحجارة إلى استشهاد الجبّارين الثلاث سلسة ابداعات في المواجهة سواء بالسكاكين أو بالدهس أو بالمواجهة المدروسة التي خطّط لها الشهيد البطل باسل الأعرج، إلى المظاهرات الصاخبة ليلا ونهارا في شوارع القدس، فكل ذلك أدّى إلى استنهاض جماهير غفيرة في فلسطين وفي الوطن العربي. فتظاهرات أهل اليمن تحت القصف، والمسيرات في شوارع عمّان والنواحي الأردنية، والحراك الشعبي في تونس والمغرب والجزائر، والوقفات التضامنية في لبنان والكويت والبحرين، على مدار الأحداث، شكّلت قوّة ضاغطة أربكت الحكومات المطبّعة والمهرولة للتطبيع.
من جهة أخرى هذه السلسة من الابداعات للشعب الفلسطيني التي ينجزها على الأرض أفراد توحي بأن مجمل هذه العمليات الفردية ظاهريا هي في الحقيقة منتوج لعقل جماعي يختلف بالشكل والمضمون على التخطيط التقليدي. ما استطاعت هذه الجماهير من تحقيقه في القدس يدلّ على أنه أكثر من ظاهرة عفوية بل خطة مدروسة لا يستطيع العدو والعملاء من تحديد ملامحها إلاّ ربما بعد إنجازها. مرّة أخرى يتبيّن أن العدو الصهيوني أوهن مما تعتقد النخب العربية، بل هو أو أوهن من بيت العنكبوت مقابل العقل والتصميم والايمان العربي.
الدلالة الثالثة هي أن كافة المشاريع التي تحاك لإنهاء القضية الفلسطينية وهمية ولا ترتكز إلى أي أرضية موضوعية. فلا يكفي أن تلتقي حكومات عربية مع الإدارة الأميركية وحكومة الكيان الصهيوني لفرض معادلات لا يريدها لا الشعب الفلسطيني ولا الجماهير العربية. فكل مشروع يتم صوغه في الأروقة الدولية وبعض العواصم العربية يصطدم برفض الشعب الفلسطيني وصموده وتصدّيه للاحتلال بكافة الوسائل المتاحة.
الدلالة الرابعة هي تلازم الانتصارين مع الإنجازات للجيش العربي السوري وحلفائه في سورية والتلاقي الميداني العربي والإسلامي في سورية والعراق في دحر جماعات التعصّب والغلو والتوحّش. فالحرب الكونية على سورية والدعم الذي قدّم لجماعات التعصّب والغلو والتوحّش كان لمعاقبة سورية كدولة وشعب وحكومة وقيادة على دعمها لخيار المقاومة. فكل الإنجازات للجيش العربي السورية وحلفائه تصبّ في خانة تثبيت خيار المقاومة.
الدلالة الخامسة هي في مشاهدة العلم الفلسطيني في القدس وفي المسجد الأقصى وما يعنيه من إلغاء موضوعي لادعاءات العدو بأن القدس موحدة وعاصمة أبدية للكيان الصهيوني. وإذا كان إسقاط الهدف الصهيوني في توحيد وتهويد القدس هزيمة صهيونية فإن تراجع حكومة الكيان بسبب التحرّك الشعبي يعني أن القوة السياسية للكيان في حال تراجع استراتيجي.
إن الانتصارين لن يكتملان إلاّ بتوحيد الموقف المقاوم على الساحة الفلسطينية وبالمصالحة الوطنية في كل من سورية والعراق. فالفتنة أشد من القتل ولا بد من القضاء عليها وعلى من يغذّيها. أما على الصعيد الفلسطيني فإن السلطة والفصائل مدعوون للالتحاق بالشعب الفلسطيني وليس العكس. فالشعب هو فعلا المعلّم كما هو الضمانة. فهل تعتبر النخب الحاكمة؟.
والدلالة السادسة هي أن الانتصارين هما لتضافر القوى الوطنية والقومية والإسلامية في تكريس البوصلة الحقيقية للعمل السياسي وعدم الوقوع في فخ الصراعات الجانبية أو التجاذبات الطائفية أو المذهبية. فلا تناقض بين القوى طالما فلسطين هي قبلة الحراك الشعبي على أن يترجم بواقع سياسي يعكس الواقع الميداني.