في الأحاديث السابقة، تناولنا بالمناقشة والتحليل، معضلتين رئيسيتين، عانى منهما الفكر القومي ولا زالت إسقاطاتهما مستمرة حتى يومنا هذا. كانت الأولى هي الموقف القومي السلبي من الدولة الوطنية، أما الأخرى، فهي ارتباك مفهوم الأمة واقتصار عناصره على عامل واحد هو اللغة. وأكدنا على أن بقية العناصر: كالتاريخ والثقافة المشتركة تحيلان إلى الأفراد الناطقين بالعربية.
في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم، بدأ تشكل حركة قومية جديدة، أكدت حضورها الشعبي والرسمي في النصف الثاني من الأربعينيات بعد إعلان تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي. تبنت هذه الحركة فكرة الوحدة والحرية والاشتراكية. لكن هذه الشعارات بقيت فضفاضة وغير واضحة.
وكما كانت الحركة القومية، في مرحلتها الأولى، أثناء مقاومة الأتراك، وفي المرحلة التي أعقبتها، رهينة لتجاذبات اللحظة التاريخية وتوتراتها، فإنها وقعت أيضا رهينة لتوترات لحظة أخرى في التاريخ العربي. تمثلت هذه اللحظة التاريخية، في مرحلة الصعود الكاسح لحركة التحرر الوطني في المنطقة العربية وفي العالم الثالث بأسره، من جهة. ومن جهة أخرى، في مضي الصهاينة حثيثا، في تنفيذ مشروعهم الاستيطاني وتصاعد حركة الهجرة اليهودية لفلسطين.
أدى انشغال الحركة القومية، بهذين الحدثين، إلى أن تنهمك في تقديم أجوبة سياسية وتحريضية تجاه مسألة الاستقلال، والتصدي للمشروع الصهيوني. وكان عليها في اللحظة ذاتها، أن تتصدى للتنظير الستاليني، فيما يتعلق بمسألة مناهضة الاستعمار، والموقف من تشكيل وطن قومي لليهود في فلسطين، وموقف الشيوعيين العرب المتماهي مع ذلك التنظير. وكان ذلك التنظير متأثرا إلى حد كبير، بتحالف الاتحاد السوفياتي مع بريطانيا والولايات المتحدة، ضد النازية خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
وقد انطلق هذا التنظير من تصور ماركسي أرثوذكسي، يرى في التطبيق الرأسمالي خطوة متقدمة على طريق الارتقاء بالحضارة الإنسانية، وأنه مرحلة ضرورية وحتمية للتحول نحو المجتمع الصناعي. وعلى هذا الأساس، التقت هذه القراءة مع التصور الرأسمالي في أن الاستعمار يسهم في نقل العالم الثالث إلى عالم الصناعة والتطور. وقد وضعت هذه الرؤية الأساس الأيديولوجي لستالين، لعدم الاعتراض على الاحتلالات الغربية للبلدان العربية، والاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني في فلسطين. فذلك من وجهة نظر الماركسية الأرثوذكسية، سيختزل مرحلة تاريخية، ويعجل في خلق مجتمع صناعي متطور، تنبثق عنه طبقات تهيئ الظروف لخلق الثورة البروليتارية الاشتراكية.
انشغل القوميون العرب، بالتصدي لهذه التنظيرات، ومواجهة الشيوعيين العرب في تلك المرحلة، الذين وجدوا في الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان والجزائر عاملا مسرعا لنقل هذه البلدان للنظام الديمقراطي. وقد دحضت الحركة القومية، هذا الموقف الآيديولوجي، وأوضحت أن الاحتلال الأجنبي، لا يهتم مطلقا باستثمار أمواله في بلدان العالم الثالث. وأن جل ما يهمه هو نهب المواد الخام، وبخاصة النفط والفحم والحديد، والمواد الأخرى التي غالبا ما يكون التنافس عليها حادا، في البلدان الصناعية المتقدمة. وأن المحتل يعمل على حسم الصراع الاقتصادي العالمي لصالحه. وفوق ذلك كله، فإن هذه الرؤية تقوم على أساس غير إنساني وغير عادل.
ما يهمنا في هذه القراءة، ليس قراءة التنظيرات الستالينية في مرحلة التحالف مع الغرب أثناء الحرب الكونية الثانية، ولكن أثرها على فكر الحركة القومية في تلك المرحلة. فانهماك قادة الحركة بالرد على هذه الأطروحات أدى إلى تعطل متابعة الصياغة النظرية للفكرة القومية، التي كان للأستاذ ساطع الحصري شرف السبق في منهجتها.
وكان الرد الطبيعي على الاحتلال الأجنبي والمشروع الصهيوني، هو بروز مطلبي الاستقلال والوحدة، وغلبتهما على مختلف العناصر الأخرى اللازمة لمشروع النهضة. وهنا أصبح التوجه القومي مرة أخرى، أسيرا لتوترات اللحظة وتجاذباتها، كما كان ديدنه دائما، منذ انطلاق مشروع النهضة العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
بقي الفكر القومي، في حركته رهينا للواقع السياسي الذي فرض على الأمة. ولم يتمكن من تحقيق مراجعة نقدية للفكر الذي انطلق منه. بقيت عناصر الأمة التي طرحها فيلسوف القومية العربية، الحصري، كما كانت دون تقييم أو تطوير. وقد كان من المفترض أن تجري إعادة صياغة العناصر التي تصنع الأمة، لتصبح متسقة مع التاريخ، ومعبرة عن حركته.
بالإمكان على سبيل المثال لا الحصر، ربط التاريخ والثقافة المشتركة، بأرض مشتركة، تدمج الأقوام التي عاشت لآلاف السنين، على الأرض العربية، وتربطها بعرى يصعب فصمها. وقد أثبتت تجارب التاريخ وجود أمم عديدة، لم ترتبط بلغة مشتركة، كما هو الحال، مع الصين والهند. كما أثبتت وجود أمم عديدة، تجمعها لغة واحدة، لكنها لم تجعل منها أمة واحدة. كما هو الحال مع دول أمريكا اللاتينية، التي يتحدث عدد كبير منها اللغة الأسبانية، دون أن يتأسس لديها شعور بانتماء لأمة واحدة. والحال هذا، ينطبق على الولايات المتحدة التي يتحدث غالبيتها باللغة الإنجليزية، ومع ذلك خاضت حرب استقلال، قادها الرئيس جورج واشنطون للتخلص من الهيمنة البريطانية.
في تعريف القومية، لدينا معضلة لا تزال مستمرة. فالتعريف الذي يطرح من قبل قادة الفكر القومي، وفي مقدمتهم الأستاذ الحصري، أنها عاطفة، ونزوع باطني نحو بشر. وهي كما يراها مؤسس حزب البعث الأستاذ ميشيل عفلق حب قبل كل شيء.
هنا يصدمنا سؤال منهجي عن شرط الانتماء للأمة، هل هو الوعي، والإرادة. أم أن هناك خصائص موضوعية تجعل من هذا الفرد عربيا، شاء أم أبى ومن الفرد الآخر صينيا، أو هنديا؟ هذا السؤال رغم جوهريته، غريب حين يوجه لأمم استكملت وحدتها القومية، ولكنه في منطقة تتعرض لتحد استعماري مستمر، وتعشعش فيها، وفي جنباتها هويات ما قبل تاريخية يبدو منطقيا وصائيا. ويظل حتى يومنا هذا بحاجة إلى إجابة، بما يجعل من الملح التمييز بين الإرادة والإرادوية.
فكرة المواطنة، كما هي مشخصة في الدولة المدنية، بقيت مغيبة في الدولة الوطنية العربية. وقد عكس ذلك نفسه في تغييب مماثل لها في النظرة القومية للأمة. وتلك معضلة سنتناولها مع محاور أخرى، كالعلاقة مع الأقليات التي تنتمي جغرافيا إلى الأمة، وقضية الوحدة. في محطات أخرى قادمة.