في منزل فخم في مدينة الرقة يعود لأحد التجار السوريين الفارين من المعارك مطلع عام 2014، كان إبراهيم عواد البدري، المعروف باسم أبو بكر البغدادي، أي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يناقش مع نحو 30 من أبرز مساعديه وقادته العسكريين خطة اقتحام الموصل ومنها التحرك إلى مدن عراقية أخرى، مستغلاً فورة الغضب الشعبية تجاه سياسة القمع الطائفي لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي. لكن الأوضاع تغيرت على مدى السنوات الثلاث الماضية بعدما خسر التنظيم عدداً كبيراً من قياداته.
يسرد ضابط رفيع في وزارة الدفاع العراقية، انتقل أخيراً من بغداد إلى ولاية ماريلاند الأميركية حيث قاعدة "أندروز" الجوية التي تعد واحدة من أبرز غرف عمليات التحالف الدولي ضد الإرهاب، ما يصفه بالفرق الشاسع بين "داعش" 2014 و"داعش" 2017، إذ فقد التنظيم في أقل من عامين ثلثي قادته الميدانيين والشرعيين، من بينهم 20 قائداً شاركوا في جلسة "منزل الرقة" عام 2014 لاختيار البغدادي زعيماً للتنظيم. ويوضح الضابط نفسه أن أغلب القيادات الذين تمت تصفيتهم من خلال القصف الجوي، سواء بالطيران الحربي أو الطائرات المسيرة "درونز"، كانت توجد قاعدة بيانات كاملة عنهم تتضمن صورهم، وأسماءهم، وعائلاتهم، وتاريخهم. لكن من يتولون مهامهم حالياً داخل التنظيم، خلفاً لمن يقتل، لا تتوفر بالضرورة معلومات عنهم، إذ إنهم غامضون وأغلبهم شبان. ويقرّ الضابط بأنه "تنقصنا المعلومات عنهم، وتنقصهم الخبرة التي كان يتمتع بها القادة السابقون في التنظيم".
تحوّلات داخل العراق تجاه الملف السوري: أسباب داخلية وخارجية
ويكشف الضابط العراقي عن وجود موازنة تبلغ نحو مليون دولار شهرياً مخصصة للجانب الاستخباري وجمع المعلومات عن قيادات "داعش" الجدد في العراق وسورية. ويشرح أن جزءاً منها يذهب إلى عملاء محليين وافقوا على تزويد الأميركيين بالمعلومات، لكن ليس بشكل مباشر، بل عبر وسطاء فاعلين على الأرض. ويشير الضابط إلى أنه "يعود لهؤلاء الفضل في التخلص من أغلب القيادات العسكرية الفاعلة على الأرض"، بينما تخصص باقي أموال الموازنة على الرصد واختراق المكالمات الخارجة والداخلة لمناطق تنظيم "داعش" والتنصت عليها.
أبرز القيادات التي فقدها التنظيم
فقد تنظيم "داعش" 56 قائداً ميدانياً وشرعياً خلال العامين الماضيين. وتلقى أقسى الضربات في سورية والعراق عام 2016. وتعزو دوائر مقربة من التنظيم ذلك إلى "الخيانة"، وهو سبب كافٍ، من وجهة نظر التنظيم، لإيقاف التجنيد والبيعة العشوائية مقابل اعتماد أسلوب تنظيم القاعدة في العراق عام 2006، القائم على التزكية. بمعنى أن أي عضو جديد لا يمكن له الدخول إلى التنظيم من دون تزكية من عضو سابق. كما تم تفعيل ما عُرف بالجهاز الأمني، وهو كيان داخلي يختص بمتابعة ومراقبة أعضاء التنظيم من خلال عناصر أخرى في التنظيم يمارسون الرصد والمراقبة من دون معرفة الأعضاء الآخرين.
وخسر التنظيم الدفعة الأولى المكونة من 23 قائداً مهماً، بينهم نواب ومساعدون للبغدادي، عامي 2015 و2016، أبرزهم فاضل الحيالي، الملقب بأبي مسلم الخراساني، وأبو عبد الرحمن البيلاوي، وأبو مهند السويداوي، الذي كان التنظيم قد عينه "والياً للأنبار"، ورضوان حمدون أبو جرناس، والي نينوى، والشيخ عبد الباسط الأنصاري، وأبو زهراء المحمدي، والي الفلوجة، والمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، ونعمان منصور الزيدي، الشهير بابي سليمان الناصر لدين الله، وتارخان باتيراشفيلي، الشهير بأبي عمر الشيشاني، ومصطفى عبد الرحمن أبو علاء العفري، وأياد بشار السامرائي، الملقب أبو أنس، ويونس سالم حسين الجبوري، ويلقب أبو حمزة. كما قتل أيضاً أيوب شيحان الشمري، وإبراهيم الطويل المتيوتي، وحسن المصري الملقب بأبو الحارث، وصلاح مصطفى قره باش، وأبو علي الخليلي، وفارس يونس الجرجري، وحجي بكر سمير الخليفاوي، وصادق جعفر المشهور باسم صلاح الدين، ونبيل الجبوري المعروف باسم أبو سياف، الذي قتل عام 2015 بإنزال جوي أميركي في دير الزور، وفلاح الكردي ووسام نجم عبد زيد.
كما خسر التنظيم دفعة جديدة من قياداته خلال الأشهر الماضية لتكون بمثابة بداية زوال جيل "داعش" المؤسس وظهور الجيل الجديد المؤلف من قيادات الصفين الثاني والثالث. وهؤلاء في العادة غير معروفين للدوائر الاستخبارية الغربية والعربية. وبات زعيم التنظيم مع أحد عشر قائداً آخرين هم آخر من تبقى من الصف الأول الذين أسسوا ما عرف بـ"دولة الخلافة".
ومن أبرز تلك القيادات التي قتلت في الأشهر الأخيرة، وفقاً لما توفر من معلومات من مصادر داخل مناطق نفوذ "داعش" ومن تقارير استخبارية عراقية وغربية، المسؤول الإداري للتنظيم الشيخ حميد الشيشاني، وأبو إبراهيم التونسي، ومحمد سلطان القحطاني، وأبو محمد اليوزبكي، ومسؤول العمليات الخارجية في التنظيم أبو عبد الباسط العاني، وأحمد خلفان الجرجري، والشيخ رشيد الجزائري، وداود الجبوري، والشيخ حقي العامري، وحمادي سماق، وشيبان العاني "أبو إسحاق الأنصاري" المسؤول العسكري الأول للتنظيم في العراق بعد مقتل عمر الشيشاني العام الماضي، والدكتور صلاح عبد، وعمر مهدي زيدان الأردني، وأبو سليمان الحلبي، وأبو الوليد المشهداني.
ويركز الأميركيون، اليوم، على محاولة الإيقاع بمن تبقى من قيادات الصف الأول داخل التنظيم، وأبرزهم البغدادي زعيم التنظيم (عراقي)، وأبو سليمان ناصر (عراقي)، وأبو علي الأنباري (عراقي)، وشاكر وهيب (عراقي)، وأبو عبد الله الحربي (كويتي)، وأبو حمزة الديري (سوري)، ومحمد عبد الله النجدي (سعودي)، وحسين بلال بوسنيتش (بوسني)، وطارق بن الطاهر الحرزي (تونسي)، وأبو عبد الرحمن الشامي (سوري)، وعبد الكريم أوغلو (عراقي تركماني)، وعبد الرحمن حميد (شيشاني).
وتؤكد بغداد أن عملية انتزاع معلومات من عناصر التنظيم الذين يتم اعتقالهم خلال المعارك رغم قلّتهم مستحيلة.
ووفقاً لمسؤولين في وزارة الداخلية العراقية، فإن أعضاء التنظيم يعطون معلومات مضللة في الغالب، لذلك تبقى المصادر الاستخبارية هي الأهم في جهود التوصل إلى من تبقى من قيادات التنظيم.
ويقول العقيد الركن حسين العامري، من قيادة عمليات نينوى، وعاصمتها الموصل، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "مسألة القضاء على قادة داعش المؤسسين مهمة جداً". ويلفت إلى أن "القادة الجدد يفتقدون للكاريزما المطلوبة على الرغم من أن كثيرين منهم يعتبرون أكثر وحشية من القادة المؤسسين".
ويعترف العامري بوجود مشكلة في الحصول على صور القادة الجدد وتفاصيل حياتهم، على عكس الجيل المؤسس الذي عايشته أجهزة استخبارات غربية وعربية منذ عام 2001 من خلال تنظيم القاعدة في أفغانستان ثم في العراق عقب عام 2003.
وفي السياق، يقول الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة في العراق، أحمد السعدي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المشكلة الحالية القائمة في صفوف التنظيم ليست خلق أو صناعة قادة جدد لكن في نوعية القادة وخبرتهم، وهو ما لا يمكن الحكم عليه إلا بعد أشهر عدة من الآن".
ووفقاً للعامري، فإن "وجود قيادات جديدة، مثل طالب حسين ومحمد البغدادي وسعيد الطائي، على رأس العمل المسلح في العراق مثلاً، وفي سورية خليل الرحمن الطاجيكي وأبو طيبة البصري، سبب ارتباكاً استخبارياً لدى الجميع، إذ إن أسماءهم غير معروفة لا لبغداد ولا للتحالف الدولي ولا توجد صور لهم أو أي معلومات كافية عنهم، ولا نعرف هل هذه أسماؤهم الحقيقية أم مزيفة للتلاعب والتضليل. وقد يكون أحدهم قد زار بغداد أو جنوب العراق مرات عدة من دون أن يعرفه أحد، وهنا باعتقادي الخطورة الأكبر".
ويلفت إلى أن "قادة داعش المؤسسين كانوا معروفين للجميع وتاريخهم بالعمل المسلح طويل، لكن القادة الجدد يمكن وصفهم بالأشباح".
ويرى العامري أن "التحالف الدولي يركز على التخلص من القيادات المؤسسة للتنظيم أملاً بدفعه إلى التفكك لأجنحة وفصائل مختلفة بعد صعود قيادات شابة وضعيفة".
وفيما يؤكد أن "داعش" يواجه مأزقاً كبيراً، ليس لخسارته ثلثي الأراضي التي يسيطر عليها فقط، بل لفقدانه غالبية الخط الأول المؤسس، إلا أنه يعتبر أن التحالف الدولي هو الآخر في مأزق أيضاً. ويوضح العامري أنه بات على التحالف الدولي الآن "التعامل مع قادة مجهولين بإمكانهم التنقل في العراق وسورية، وقد يكون إلى أبعد من ذلك من دون أن يشعر بهم أحد، وهنا تكمن الخطورة وصعوبة مرحلة ستكون استخبارية أكثر من كونها عسكرية.