التحرّك الأميركي يتواصل لإعادة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحت حجّة السعي الأميركي لإعلان دولة فلسطينية، وهو سعيٌ نحو المجهول، إذ لا يوجد موقف أميركي واضح من حدود هذه الدولة المنشودة أو عاصمتها أو طبيعة سكانها (أو مصير المستوطنات) أو مدى استقلاليتها وسيادتها!. فالمبادرة العربية التي أقرّتها قمّة بيروت، وكذلك هو الموقف الفلسطيني، يطالبان بدولة فلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 وبأن تكون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضية اللاجئين، فأين هو الموقف الأميركي من ذلك، وما هو مقدار الإلتزام العربي والفلسطيني بالحد الأدنى من المطالب العربية والفلسطينية؟!.
أيّ منطقٍ هذا الذي يعطي لواشنطن ولمجلس الأمن حقّ إقرار محكمة دولية عقب جريمة اغتيال رفيق الحريري في لبنان بالعام 2005، ولا يعطي هذا المنطق نفسه الحقَّ بتشكيل لجنة تحقيق دولية في جرائم إسرائيل المستمرّة منذ العام 1948؟!. فممنوعٌ على منظّمات الأمم المتحدة حتّى حقّ الإدانة اللفظية لمجازر إسرائيل في الأراضي المحتلة، فكيف بالتحقيق الدولي بهذه المجازر؟!. ثمّ أيّ حكومات في المنطقة أو العالم ترضى لنفسها أن تكون منفّذاً عملياً للسياسة الإسرائيلية، تفعل ما تريده تل أبيب من صراعاتٍ طائفية وإثنية.. لا ما تفرضه مصالح دولها وأوطانها؟.
إنّ إسرائيل هي المستفيد الأوّل ممّا يحدث في المنطقة العربية طالما أنّ الواقع الفلسطيني تحديداً والعربي عموماً هو على حاله من التشرذم والصراعات وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والبرامج والمؤسّسات، ومن أولوية مصالح الحكومات على الأوطان. فالفوضى في الحقّ لا يمكن لها أن تغلب الباطل المنظّم.
أليس واقع خدمة المصالح الإسرائيلية هو السائد الآن في عموم أزمات المنطقة وحروبها الأهلية الداخلية؟! أليس أساس المشكلة على الصعيد الفلسطيني هو إخراج الصراع العربي/الإسرائيلي من دائرته العربية الشاملة وجعله الآن قضية "مسار فلسطيني/إسرائيلي" متعثّر ويحتاج إلى "تنشيط"؟!.
ثمّ متى كانت القدس قضيّةً خاصّةً فقط بالفريق الفلسطيني المفاوض بينما هي مدينة مقدّسة معنيٌّ بها وبمستقبلها، في ظلّ محاولات تهويدها لخمسين عاماً، عموم المسلمين والمسيحيين في العالم؟!.
بداية المشكلة كانت حينما قام الرئيس المصري السابق أنور السادات بتوقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية في العام 1979، متراجعاً عمّا كانت عليه مصر من موقف مبدئي بعد حرب العام 1967 بأنّ "القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء، والضفّة وغزّة قبل سيناء" .. فهكذا كان موقف جمال عبد الناصر الذي رفض الإغراءات الأميركية والإسرائيلية باسترجاع سيناء مقابل تخلّي مصر عن دورها والتزاماتها في الصراع العربي/الإسرائيلي.
ثمّ تكرَّس هذا النهج الانفرادي في التسويات مع إسرائيل من خلال توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظّمة "التحرير" الفلسطينية، حيث أثبتت الأعوام الماضية أنّ ما جرى "إنجازه" ليس هو الاعتراف بحقّ وجود "الوطن الفلسطيني" بل بقيادة منظّمة "التحرير" الفلسطينية، التي تحوّلت عملياً إلى قيادة لسلطة فلسطينية على الشعب الفلسطيني المقيم فقط بالضفّة العربية المحتلّة، أي "سلطة" على جزء من "الشعب" وليس على "أرض"، فالأرض الفلسطينية ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. فأين هو الوطن الفلسطيني بعد حوالي 25 عاماً من اتفاق أوسلو ومن المراهنة على المفاوضات برعاية أميركية!؟ أين هو في الحدّ الأدنى من تمثيل كل الشعب الفلسطيني الموزَّع الآن بين "ضفّة وقطاع"، وبين "فلسطينيّي الداخل والخارج"، وبين "لاجئين ومهاجرين في الشتات"، وبين ضحايا "النكبة" ومهجّري "النكسة"؟!.
ولعلّ رؤية ما حدث في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لحروبٍ ومناخات انقسامية داخلية في العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما يتحقّق على الأرض العربية هو خدمة المشاريع الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلات طائفية ومذهبية متصارعة، تكون فيها "الدولة اليهودية" هي الأقوى وهي المهيمنة على باقي الدويلات. فالهدف هو تكريس إسرائيل "وطناً لليهود" بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار "الأوطان" الأخرى في المنطقة.
أمّا "الوطن الفلسطيني"، بالمفهوم الإسرائيلي، فممرّه من خلال القبول ب"الاستيطان" و"التوطين" معاً. أي وطن فلسطيني ممزّق أرضاً وشعباً تنخر جسمه المستوطنات، وتوطين للفلسطينيين في الدول المقيمين بها الآن وإلغاء حقّ عودة اللاجئين. ولا أعلم من بدأ باستخدام هذه الكلمات المتصلة بأصولها اللغوية (وطن – توطين – استيطان) لكنّها الآن مطلوبة معاً في مطبخ التسويات السياسية للقضية الفلسطينية.
"مصالح إسرائيل" ليست سائدة بالمنطقة العربية فقط، بل الأمر هو كذلك في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. فكثيرٌ من سياسات واشنطن وحروبها الأخيرة كانت من أجل "مصالح إسرائيلية" لا "مصالح أميركية"، وحينما تحاول أي إدارة أميركية تحقيق مصالح "أميركا أولاً"، كما حاولت إدارة أوباما، تضغط القوى الصهيونية داخل أميركا فيتمّ "تصحيح" الأولويات والقرارات لكي تتوافق مع الرؤى الإسرائيلية!.
الأمَّة العربية تحصد الآن مزيجاً من نتائج سياسات حكّامٍ ومعارضين، ومن نموٍّ كبير لدور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.
فما يحدث داخل أوطان الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالةٌ هامّة على نوع وحجم القضايا التي عصفت لعقودٍ طويلة، وما تزال، بالأرض العربية. وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين بعض المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
وبناءً على ذلك كلّه، يتواصل المشروع الإسرائيلي الساعي لتفتيت ما هو مقسّمٌ أصلاً عربياً، كما حصل في السودان، وكما جرت محاولات إسرائيلية في لبنان في القرن الماضي، وكما تفرزه تفاعلات الأحداث الجارية حالياً في سوريا واليمن والعراق وليبيا، لإقامة دويلات دينية وإثنية تبرّر وجود "الدولة اليهودية" التي ستتحكّم في مصائر هذه الدويلات، وترث "النظام العربي المريض" كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي)، في مطلع القرن الماضي، "النظامَ التركيَّ المريض".
إنّ المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً ممارسات وأساليب سليمة ترفض استخدام العنف، وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسطي جديد"، وعلى الدعوة لديمقراطيات "فيدرالية" تُقسّم الواطن الواحد ثمّ تعيد تركيبته على شكلٍ "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. ولا يخرج الحاكم الأميركي الآن، دونالد ترامب، عن هذه الرؤية للمصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما، ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسّسات القائمة فيه.
فما زال هدف "التغيير الجغرافي" في خرائط البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل "التغيير السياسي" الذي طمحت له بعض الشعوب العربية. لكنْ أيُّ نظامٍ ديمقراطي يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروبٍ أهلية وتدخّلٍ عسكريٍّ خارجي؟!.
طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود "مشاريع" أمريكية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة "الشارع العربي" لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي "مشروع عربي" يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها.