لا يُجادل أحدٌ - يومَنا هذا - في ما لِوَسائل الإعلام مِن تأثير هائل في تشكيل أفكار الناس وأذواقهم، وحتى ألسنتهم ولغاتهم، كما لا يجادل أحد في ما قدَّمتْه تلك الوسائل للغة العربية الفصحى من انتشار في طبقات مختلفة مِن المجتمع، بما يَرفع من مستويات وأذواق المتلقِّين، قُرَّاءً ومُشاهِدِين ومُستمِعين.
لكن من ناحية أخرى، نلحظ أن هذا التأثير المُتزايد لوسائل الإعلام، يَستبطِن جوانب سلبية لا يجوز إغفالُها أو التهوين من شأنها؛ فبينما يقتضي المنطق أن تؤخذ اللغة عن أهلها، كحال جميع العلوم، نجد أنَّنا في عصر السرعة والفَضائيات، لم نعدْ نجد الوقت - أو قل: الاهتمام - لاستِلهام الفَصاحة من مصادرها، باعتبارها علمًا ككلِّ العلوم؛ وإنما نكتفي باللغة اليومية التي يَصنعها الإعلام ويُطوِّرها بشكل عفوي، هو في الغالب يُضِرُّ بقواعد اللغة أكثر مما ينفعها، بل إنَّ التأثير يصل أحيانًا بسلبياته إلى أهل اللغة أنفسِهم، فيَستسلِمون للواقع المتغلِّب، تحت شِعار (خطأ مشهور، خير من صواب مَهجور)!
هذا الوضع المختلُّ دَعاني إلى وقفة من خلال هذه الأسطر، لتسليط الضوء على الواقع اللُّغوي للساننا العربي، الذي يُعاني ظلم أهله وجفاءهم وتجاهلهم، في عصرٍ نجد فيه كل أمم الدنيا، من كُبراها إلى صُغراها، تعتزُّ بلسانها الحامل لهُويتها وثقافتها وتاريخها، وتعمل على نَشرِه والتمسُّك به في مواجهة العولمة الجارفة، وهل من مثال أجدر بأن نضربه من مثال "الكيان الصهيوني"؟ الذي يتفوق على كل دولنا العربية مجتمعةً في كل ميادين العلوم والاختراعات، وهو يدرس الفيزياء النووية باللغة العبرية، التي أحياها من تحت الرماد بعدما طواها النسيان قبل عشرات القرون!
أبعاد المشكلة إعلاميًّا:لا أريد التهويل من شأن الأزمة أكثر من اللازم، لكن المراقب لا يستطيع إلا أن يقف مندهشًا عند بعض المحطات، التي تُبرز خطورة الواقع، لعلها تكون صيحةً تجد يومًا من يستجيب؛ ففي وسائل الإعلام التي يكتظُّ بها فضاؤنا العربي، تتجلى مظاهر الأزمة في أوجهٍ عديدة، نرصد منها:
• الترجمة: لا خلاف بين المختصين في صواب ما قرَّره أبو عمرو بن بحر الجاحظ (163 - 255 هـ) قبل قرون، من ضرورة أن يكون المترجِم (أعلمَ الناس باللغة المَنقولةِ والمنقولِ إليها، حتى يكون فيهما سواءً وغايةً) [الحيوان: 1 / 76[، بيد أن الواقع الإعلامي بعيد مِن تحقيق الشرط للغاية، فأغلب الإعلاميين والمحرِّرين يُشترط فيهم إتقان اللغة الإنجليزية، بينما يُتساهل في جانب اللغة العربية، وذلك ما يعود بتأثير مباشر في نصوصهم - تحريرًا أو محاوَرةً - فتجد أحدهم يفكر بالإنجليزية ويَكتُب بالعربية، وهذا ما يُنتج لنا كل يوم مزيدًا من اللغة المهجنة، بألفاظٍ عربية، وتراكيب أعجمية، يصدق عليها قول الشاعر العربي:
له نسبُ الإنسيِّ يُعرف نَجرُه وللجنِّ منه شكلُه وشمائلُهْ
ولربما ضاق المقام عن ضرب الأمثلة، لظاهرةٍ تجلُّ عن الحصر والتمثيل، بَيْدَ أنني من باب الإشارة أضرب مثلاً بعبارة (هناك) التي تأتي للإشارة للبعيد أو المتوسط، ولكنها الآن قد استقر استخدامها بمعنى (يوجد)، والسبب أن مقابلها في اللغة الأجنبية (There) يدلُّ على المعنيين.
• إهمال الإعراب: إنَّ الإعراب هو حِلية اللغة العربية وميزتها الأساسية، وهو الفيصل في بيان المعنى المقصود، وبدونه تتحول الفصحى إلى لهجة بكل بساطة، فأبرز ما يميز اللهجة هو البناءُ والتخفُّفُ من الإعراب، استسهالاً وتسرُّعًا، وهذا - للأسف - ما يقع فيه كثير من الإعلاميين، حين يستثقِلون النطق بالإعراب والالتزامَ بالحركات والتنوين، ويلجؤون إلى تسكين الأواخر، وإسقاط تاء التأنيث، مما يَنبو عنه الذَّوقُ العربي السليم، ولا يَقتصر هذا على كلامهم في أثناء الحوارات، بل حتى في قراءة النشرات والتقارير، فتسمع أحدهم ينطق: (ولكن الوكالَة الدوليَّة للطاقَة الذريَّة لم تَرُدّْ على الاتهام)، بدلاً من: (ولكنَّ الوكالَةَ الدوليَّةَ للطاقَةِ الذريَّةِ لم تَرُدَّ..)، وفضلاً عن إسقاط تاء التأنيث، تلاحظ في العبارة لجوء المذيع إلى تسكين الفعل (ترد)؛ لأنه لم يعرف كيف يتعامل مع الفعل المضعَّف في حال الجزم!
ومن الغريب أن بعض المؤسسات الإعلامية العريقة، تُغَلِّب جانب شُهرة المذيع أو البرنامج، بدرجةٍ تسمَح فيها بتجاوزات رهيبة على قواعد اللغة البدهيَّة، فقد استمعت إلى أحدهم وهو يقول في تعليق مقروء: (.. ثمَّتُ أمرٍ غريب) بدلاً من الصواب: (.. ثمَّتَ أمرٌ غريب).
لا نقصد من هذا تقليلاً من شأن القدرات الإعلامية غير اللغوية، ولكنَّ التوازن يقتضي أن يستفيد هؤلاء الإعلاميون من دورات في اللغة، وأن تقدم لهم الملاحظات ويُلزموا بتطبيقها، بدلاً من اعتبار "المدقِّق اللغوي" مجرَّد ديكور أو مُستَشارٍ لا ضرورة للالتزام برأيه.
• أين حماة اللغة؟
رغم سوداوية الواقع، فلا يَزال في كل أرجاء الوطن العربي والإسلامي جنودٌ مُخلِصون من خبراء اللسان العربي، يَعكفون على البحث والتطوير، من أجل تيسير اللغة، ومواكبتها لعصر السرعة، وقد أنجزوا الكثير من القواميس في مختلِف المجالات، فهذا مكتب تنسيق التعريب في الرباط قد أصدر وحده ما يُقارب الأربعين معجمًا في مختلف العلوم، ولكن جهود اللغويين أيضًا لا تَخلو من صعوبات وتحديات جمَّةٍ، منها ما يتحملون هم مسؤوليته، ومنها يتحمله غيرهم، ومن أبرز تلك العقبات:
• ضعف التأثير: فالإصدارات التي أشرْنا إليها قبل قليل لم يسمع بها إلا القليل من الإعلاميِّين، ولم يستفد منها بعد ذلك إلا أقل القليل، وبهذا يَشعُر كثير من خبراء اللغة أن مُنجَزاتهم تضيع سُدًى، ولا تَجد تقديرًا ولا تأثيرًا يتَناسب مع الجهد الذي بذَلوه فيها، فلا المؤسَّسات الإعلامية تهتم باقتناءِ تلك المصنَّفات، فضلاً عن أن تُلزِم الإعلاميين لديها بالرجوع إليها، ولا الإعلاميون من تلقاء أنفسهم يسعَون إلى ذلك إلا في ما ندر، وهكذا يتعب الخبراء في اجتراح مصطلحات متجدِّدة، واتخاذ قرارات أسلوبية، تبقى حبيسة الأدراج والأوراق، فما الذي يشجعهم بعد ذلك على إنجاز المزيد؟!
• ضعف التمويل: فمنذ إنشاء المجمع اللغوي السوري (1919م) ومن بعده المجمع اللغوي المصري (1932م)، قدَّم الأعضاء العديد من المشروعات الكبرى، والتي كان يُفترض أن تخدم اللغة العربية المعاصرة، وتُخلِّصَها من التبعية ومن الجمود، ولكن الأحلام دائمًا تَصطدم بضعف التمويل، فتتوقف في المنتصَف، ومن تلك المشروعات مشروع المعجم العربي التاريخي، الذي اقترحه في ثلاثينيات القرن الماضي المستشرق الألماني أوجست فيشر (1865 - 1949) عضو المجمع المصري، ولم يظهَر منه بعد هذه العقود المتطاولة سوى جزء يسير، وما زال إلى الساعة فكرةً جميلةً يتمنى الجميع تحقيقها، ولعل المشروع الأخير للمركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات بعنوان: (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية) يكون بشير خير للمتفائلين.
• التأثُّر بالواقع اللغوي: أصبح الواقع اللغوي المساهم في انتشار الأخطاء، يضع ثقله على أعناق الجميع، حتى استسلم له الكثيرون من خبراء المجامع اللغوية، فصاروا يتسامحون في تقبُّل كل الاستعمالات التي يَشيع تداولها؛ حيث إنهم في كل دورة يرفضون بعض الاستعمالات، ثم في الدورة الموالية يتقبَّلونها بحجة الاستعمال، مما أشاع جوًّا من انعدام الثقة في قرارات المجامع، وكأن الاستعمال العامِّيَّ يمكن أن يقوم حجةً لدى أهل الاختصاص، وأحيانًا نجدهم يتقبلونها بنوع من التمحُّل، الذي لا يخفى على الباحث المختص، وأمثِّل لذلك بعبارة (بالكاد) الشائعة؛ فقد أجازها المجمع المصري تحت ضغط الاستعمال، محتجًّا بأنه (ما دام في اللغة كلمة "كؤود"، فلا بد أن يكون فيها الفعل "كأَد"، وهذا يَستلزم وجود المصدر "الكأْد"، فيصحح "بالكاد"، على أنها بتسهيل الهمزة) [القرارات المجمعية في الألفاظ والأساليب: الفقرة 8]، ولعمري إن سِيما التكلف لبادية على هذا الاستدلال.
وقد بلغ ببعضهم تأثُّره بالواقع اللغوي أن يحتج بالاستعمالات العامية التي يستخدمها الكُتَّاب المُعاصِرون، من أمثال الروائي المصري نجيب محفوظ [معجم الصواب اللغوي: د. أحمد مختار عمر وفريقه].
ما العمل؟إنَّ الحل في الجانب الأكبر منه يعتمد على الطرفين المذكورَين: الإعلاميين واللغويين، وإن كانت له مفاتيح أخرى في أيدي أصحاب القرار ورجال التربية والتعليم، بيد أننا هنا سنقتصر على موضوع المقال، ونرى أن الطرفين بوسعهما أن يصنعا للسان العربي ما لا يصنعه غيرهما، ولكن بشرطين:
أحدهما: الوعي بقيمة اللغة العربية، وحملُها كرسالة وهُويَّةٍ، بعيدًا عن الارتهان لعُقدة الأجنبي، وفي هذا الجانب يقع العبء الأكبر على الإعلاميِّين، الذين يُفرِط بعضهم في إقحام الكلمات والتراكيب الأجنبية، بمناسبةٍ وبغيرِها، ولا يكلِّف نفسه العناء ليجد العبارة العربية المناسبة؛ ولكن أيضًا لا نبرِّئ اللغويين، الذين صار بعضهم يَستسلِم للواقع كما ألمحنا سابقًا.
أما ثاني الشرطين، فهو التعاون والتنسيق بين الطرفين والفريقين، على أن يكون تعاونًا إلزاميًّا، تفرضه جهة القرار في الجانبين؛ فتلزم المؤسسة الإعلامية محرِّريها بأن يَعودوا إلى المعاجم الحديثة التي يُنجزها خبراء اللغة، من واقع اجتهادهم في تطوير اللغة وإحيائها، كما تكون المجامع اللغوية ملزمةً بتقديم الحلول اللغوية لما يطرَحه المُحرِّرون من إشكالات، من واقع رسالتهم الإعلامية السامية.