التراث ذاكرة الشعب والأمة، وكل ذاكرة، لا بد أن تكون يقظة، تتلمس حضورها من خلال تعلقها بجذر الماضي باتجاه إغناء الحاضر والمستقبل.
وفي فن المسرح لا بد أن تكون الذاكرة محملة بالدلائل والبراهين التي تعمق حِسَّنا وإدراكنا بأهمية هذا الفن ووجوده بين الناس، وفي محيط عربي واضح، حتى يسهل علينا فهمه، واستيعابه، ومعرفة أبرز مؤشراته.
وقد توجه للاهتمام بهذا الجانب كثرة من الباحثين العرب والأجانب، ويقف د. فاروق أوهان، علما من الأعلام البارزة التي درست تراث المسرح العربي، وعمقت الصلة به، ولاسيَّما أن هذا الباحث عمل في ميادينَ وجوانبَ مختلفة تتعلق بالمسرح؛ فقد كتب وأخرج وأسهم في التمثيل، والنقد المسرحي، إلى جانب إسهاماته في الفنون الموازية للمسرح؛ الأمر الذي يجعلنا نعدُّه (رجل مسرح).
ومن هنا تكمن أهمية كتابه: (آفاق تطويع التراث العربي للمسرح- دراسة في البحث عن هوية للمسرح العربي).
وقد اعتمد د. فاروق أوهان على: (الشواهد المكتوبة، المقرونة بالفعل والتطبيق - الحركية من الفنون المشهدية) الأمر الذي جعله ينتقل من روايات تمثل أمام ملكٍ مَّا، إلى المقامات، وإلى السير والملاحم، وإلى التعازي الحسينية، وإلى المَدَّاح في (الحلقة)، وإلى (خيال الظل) الذي ابتكره ابن دانيال، وصولاً إلى مسرح الدمى، وإلى المسرح العربي الراهن الذي استفاد من التجارب الماضية كافة، وصولاً وتفاعلاً مع التجارب المسرحية العالمية الذي ليس بوسعه الاستغناء عنها، أو تجاهل وجودها في حركة المسرح العالمي الذي يضج بالتجدد، من دون سلب الهوية الخاصة التي يحملها التراث المسرحي العربي.
وكمؤشر على هذا التفاعل يشير الباحث إلى أنَّ الفنانَ المسرحيَّ العراقي الراحل إبراهيم جلال: “اقتنص من سومر وبابل المظاهر القديمة، فطوَّعها لخط المسرح الأوروبي، مثل مسرحية (الطوفان)، كما أخذ من العصر العباسي فأخرج مسرحيات مثل: (المتنبي)، و(مقامات أبي الورد)، ويضيف: “أما قاسم محمد فقد اعتمد التراث المكتوب من العصر العباسي مازجاً إيَّاه بهموم الحياة الآنية؛ مثل: (كان ياما كان)، و(بغداد الأزل بين الجد والهزل)، و(طال حزني وسروري)، و(الخيط).
ويرى المؤلف أنه: “برزت مؤثرات مسرح القسوة في أعمال جواد الأسدي، ولكن قسوته كانت قسوة التعازي”، وقد رصدها د. أوهان بـ: نغمة بسيطة رقيقة وسهلة، تنمو وتتقد، وتتهيج إلى حد النشيج والانفعال بكل عناصر الجسد والحركة، ثم صمت وهدوء، كما في لوحة الخبز في (رأس المملوك)، ولوحة الطوفان في (الخيط من فضة).
إلا أننا نعتقد بإفادة د. جواد الأسدي من روافد عدة؛ محلية، وعربية، وأجنبية، إلى جانب خبراته وتجاربه وآفاق ونمط تفكيره غير المحصورة، وغير المنعزلة أو الساكنة في منطقة معينة أو فكرة جامدة.
إن الأسدي أقرب إلى المخرج منه إلى المخرج الفنطازي. إنه الحالم بالأبعاد: أبعاد الرسالة التي يؤمن بها، ويسعى إلى إيصالها بشتى السبل، الأمر الذي يجعله يشير كل شيء يخدم أهدافه في إيصال رسالته إلى المتلقي.
ويعرض المؤلف لمسرحيات ومسرحيين ساروا في المسار نفسه من حيث الاهتمام بالتراث، ومن أبرزهم: سعد الله ونُّوس، وفواز الساجر، وعبد الكريم برشيد، والطيب الصديقي، والفريد فرج، ومحمود دياب، وعلي سالم، ونجيب سرور، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وريمون جبارة، وزياد الرحباني، وروجيه عساف. ولعل انتشار رقعة الانتباه إلى معطيات التراث العربي، واستثماره في المسرح، يعطي مؤشرات واضحة إلى عمق واتساع ودراية الباحث بالرقعة الجغرافية الواسعة التي برزت فيها عروض المسرح العربي، وانتباهه إلى جوانب معمقة، وأثيرة في التراث العربي - أدركها المسرح، وحولها إلى فعل درامي؛ حتى أصبح هذا النمط اتجاها واضحا في مسيرة المسرح العربي.
ويرجع د. فاروق أوهان إلى النبع الأول للمسرح العربي، إذ يجده في حكايات الملك دبشليم مع وزرائه وحاشيته كما أوردها الفيلسوف بيدبا في “كليلة ودمنة” علماً بأن هذه الحكايات، شأنها شأن (ألف ليلة وليلة)، تختلف الآراء بشأن انتمائها العربي، إلاَّ أن معظم الآراء ترجح هذا الانتماء انطلاقاً من أن ما ورد فيها يحمل سمة عربية واضحة. ويعتقد د. أوهان أن: “شخصية الفيلسوف بيديا، هي شخصية خيالية، يحتجب الكاتب وراءها، كما يفعل كل من (الهمذاني) و(الحريري) في (المقامات) اتقاء لشرور السلطة، واختفاء (ابن المقفع) بحجة أنه المترجم لحكايات (كليلة ودمنة) لا كاتبها، وهذا توار ثانٍ يبعده درجة أخرى عن الأذى”، ومثل هذه الأسباب تبدو منطقية ومعقولة إيماناً بأن العنصر الأقوى يحتاط لما يعزز موقعه، ويؤكد دوره فيه. و(كليلة ودمنة) تحمل الكثير من الإيحاءات التي تومئ وتدين قوى الظلم المتمثلة بالسلطة من دون أن تحددها، أو تعلن عن وجودها على نحو واضح.
فهناك حذر من (الغراب) مثلاً، وذلك بعده “المراقب والناقد” إلى جانب كونه “نذير شؤم” كما تراه الميثولوجيا، ويمكن أن يكون رمزاً لفئة من البشر يتعذر على المرسل -مؤلفاً، أو مخرجاً، أو ممثلاً - الإشارة إليه بوضوح.
كذلك نجد (شهريار) في (ألف ليلة وليلة) هو: “الزوج، العشيق، القاتل، وهو الليل، الوقت، العمر، السيف البتار الذي لا يوقفه إلا صياح الديك، مفرج الهموم، معلناً إقبال الفجر، الكاشف للأسرار الكامنة بين طيات الظلام من جهة، والمنهي لفقرة من فقرات المماطلة الطويلة من جهة أخرى”.
ومثل هذه الشخصية، ذات الأبعاد المختلفة، تجد انتباهاً من الأدباء والفنانين انطلاقاً من أنه يمكن تحويلها إلى رمز لإسقاطات متعددة.
ويفرق المؤلف (بيدبا) عن (شهريار) محدِّدا خصائص (بيدبا) الفيلسوف: “كراوٍ في جنس (كليلة ودمنة)، فإنه على درجة مغايرة من الاختلاف؛ فهو، هنا، ليس نديماً لشخص الملك وحده، وإنما لمجلسه ومن فيه، وهو موجود داخل القصر في قاعة المسامرة، وليس راوياً مشخِّصاً في ساحة عامة كما في جنس (المقامة)” إن د. أوهان يعرف، جيداً، خصائص كل كتاب من هذه الكتب التراثية، ويتقن مدى أهمية الإفادة منه في الفن المسرحي، إلاَّ أنه يأخذ جانباً محددًا من أبعاد حكاية (بدر البدور) الواردة في (ألف ليلة وليلة)، كما قالته مسرحية (كان يا ما كان) لقاسم محمد، لا كما قالته الحكاية التي لا تدعو إلى استخدام العقل مجرداً، وإنما استخدامه للعمل المثمر والحكمة والخروج من الأزمات بذكاء؛ فهذا ما تقوله الحكاية بأبعادها، وهو ما ذهب إليه شكسبير نفسه (الملك لير) وحكمة إحدى بناته، وعمق حبها، ويقظة ذهنها. كلا الحكايتين - كما يقول - المؤلف: “من الشهنامة”. ومثل هذه الملاحظة تجعلنا نجد في التراث الإنساني ملكاً مشاعاً أمام كل الشعوب، وليس من عنديات شعب بذاته، موجه لشعب بعينه”.
وينتقل المؤلف إلى (المقامات)، ويجيب عن سؤال طرحه سابقاً، وقد جاء فيه: “هل المقامة فعل مسرحي دون بعد انحساره؟ أم إنها حكايات تستعد للخروج من ثوبها؟” ويخلص إلى استنتاج يقول: “إن فن المقامات (المسرحي) هو إحدى محصلات فنون الكدية التي كشفها لنا الجاحظ في (البخلاء) والإصفهاني في (الأغاني)، إلاَّ أن هذه المقامات - “في التحليل البنائي - تعود إلى المستويات المتعددة...” وهذه المستويات هي مصادر الإبداع لكونه حمال أوجه متعددة القراءة والمشاهدة.
أما السِّير والملاحم فهي “حكايات أصلية، جَذْرها تاريخي، وفعل الضمير فيها جمعي”، ويتميز بـ”الاتساق والخصوصية”.. فـ”السيرة العنترية خيالية لا تمت للتاريخ بكل تفاصيلها، إلاَّ أنها تتحدد بالإطار الفلسفي الوارد حول مشكلتي اللون والأبوة الحقة؛ فأم (عنترة) مملوكة ملونة، وابنها، إذن، لن يكون حرًّا، ما لم يحقق للعائلة والقبيلة انتصارات تؤهله للعتق” ويرى د. أوهان: “هذه الأفكار تنطلق من فلسفة الفكر الوثني الجاهلي التي تتعلق بفرز الطبقات الاجتماعية حسب اللون، في حين أن الأمر يختلف في السيرة (الهلالية)؛ فقد جاء تميز البطل باللون الداكن (الأسود) دلالة على اختلافه وتميزه عن غيره، وذلك من خلال سمات الرجولة والبطولة، تمشيًّا مع ما جاء به الإسلام الذي ينفي التمييز بين الناس مهما كانت أشكالهم خلال اللون والجنس”، ومثل هذه الصفات تشكل ظاهرة المسرح. أما “فعل المداح في الحلقة” فقد تحول الممثل إلى “مداح شعبي”، ومثل هذه الصفة لا يمكن أن تلتصق بالممثل وحده، وإنما بكل شخص يريد من (فنه) تحقيق هدف مادي، وتبرز هذه الظاهرة في شعر المديح، أكثر منها في فن المسرح. الشاعر يمثل في مديحه. نعم؛ بمعنى أنه يشوه حقيقة، ويظهر عكسها. في حين يتوجه الشاعر الصادق إلى نبع الكلمة، إلى نبل توجهها، ومثل هذا يختلف، تماماً، عن رقص (العيالة) المعروف في الإمارات العربية؛ إذ يتم “استخدام الخيزران والعصي لتكون بديلة عن السلاح الحقيقي”.
(العيالة)، هنا، يمكن أن نعدها استعراضاً للحركة الموازية للموسيقى والألحان، وإذا تضمنت فعلاً دراميًّا، عندئذ، يمكن أن نعدها فنا مسرحيًّا له طقوسه واستخدامه في أكثرَ من عرض مسرحي ليشكل، بعدئذٍ، خصوصية يتسم بها مسرح الإمارات من دون سواه. ويقول المؤلف: “إنَّ الراوي والمداح والحكواتي القصاص، هم أجداد الرواة المعاصرين لنا، توارثوا المهنة كما توارثنا نحن الحكايات والسير، فنقلوا لنا التاريخ دون أن يزعموا أنهم مؤرخون”، وينقل المؤلف عن ماسينيون قوله: “لقد كان القرن 12هـ، الثامن الميلادي هو عصر القصاصين، وكانت السمة العامة للعصر تقتضي من كل زاهد أن يغدو قصاصاً...”.
إن القصاص ناقلُ أخبار وأحداث وبطولات، وقد يكون حكيماً، ويمكن أن نعده مذياعاً يحمل الخبر والحكمة والطرفة. فهل نعد مثل هذا الجهاز النقال ممثلاً؟ وإذا سلمنا بالأمر، فإنَّ هذا الدور قد انتفى وجوده أصلاً بسبب وجود المذياع؛ البديل الأغنى والأهم والأكثر تحضراً. لكنَّ فنَّ الممثل ما زال قائماً. إذن الممثل غير القصاص.
أما حرفة المخايلة التي عرف بها (الكحال - ابن دانيال الموصلي) فأهم ما فيها وأكثر ما يهمنا في تجربتها هو أنها كانت “المتنفس السياسي ضد الغزاة عند تعرضه لأنماط من شخصياتهم بالهجاء؛ مما كان سبباً في حرق مسرحه على يد سلطان مصر المملوكي (تشاقمان) عندما أحست السلطة بخطر هذا المسرح عام 1451م، تماما كما أحس (نابليون) بخطورة مسرح (خيال الظل)، أيضاً، وتأثيره في الأوساط الشعبية في مصر، فقام بمنعه هو الآخر”.
ومثل هذا التوثيق يشير إلى الدور المهم الذي يؤديه فنُّ المسرح في مواجهة الغزاة، بوصفه فنًّا لا يبتعد عن قضايا الناس، ولا يسليهم على نحو مجرد.
وفي عرض المؤلف لمسرح الدمى يشير إلى: (الدمى القفازية، والسلكية، والخيطية)، وأن هذا المسرح يقف: “عند حدود الكوميديا والهجاء مستعيناً بفن (الفارس)”، ونحن نرى أن الدمى قد تستخدم، أحياناً، لتكون رموزاً ودلالات يراد بها التخفي، وإعلان حالة أو مشهد ضمن حالات يريد بها فن المسرح أن يبوح، أن يومئ، ويعد المؤلف: (السامر) “الشكل البدائي من حالات التمسرح” -و”التمسرح” تعني هنا الإعداد المسرحي - بمعنى أن السامر الذي عرف في التراث الشعبي يعد نفسه لفن المسرح، وليس هو في بنيته وجوهره مسرحيًّا.
وفي انتقالة د. أوهان إلى المسرح العربي المعاصر، يصف (توفيق الحكيم) بكونه: “أول من اهتم بالفضاء المسرحي...” وأنه: “فصل أدوار الحاكي، المقلد، المقلدة، المداح، أثناء العرض المسرحي”.كما أن استخدام روجيه عساف للحكاية جاء من خلال عد مسرح الحكواتي الحكاية: “تنقل المعرفة من مكان إلى آخر” بمعنى أن المعرفة ملك مشاع للجميع.
وينتهي المؤلف إلى مناقشة وعرض عدد من البيانات والتجارب المسرحية العربية؛ ليوصلنا في النهاية - ونحن نخلص من قراءة هذا الكاتب - إلى أننا قد أحطنا بجوانب شاملة وبارزة ومؤثرة وموثقة لمجمل معطيات المسرح العربي.