عنوان هذه المداخلة مثير. اخترناه بشكل متعمد لعامل الصدمة التي قد يثيره عند القارئ. فهناك من يعتقد أن الولايات المتحدة قدر علينا أن نتحمله إلى يوم الدين. لكن في المقابل هناك من يعتقد، ونحن منهم، أن قدر الولايات المتحدة قد لا يختلف عن قدر الإتحاد السوفيتي أي أنها مهددة بالتفكك والإنحلال ليس بالضرورة في المستقبل البعيد بل ربما في المدى المنظور. وهذه وجهة النظر بدأ ترويجها حتى في الولايات المتحدة نفسها.
ولكن قبل المباشرة بتحليل عوامل التفكك للولايات المتحدة تقضي الأمانة الفكرية الإعتراف بالموقع الريادي للولايات المتحدة. فالولايات المتحدة استطاعت الوصول إلى موقع السيطرة بفضل قوّتها العسكرية المتفوّقة التي يساندها اقتصاد متين المبني على التفوّق العلمي والتكنولوجي. أضف إلى ذلك تمكّن الولايات المتحدة من ممارسة هيمنتها الثقافية في العالم بسبب جاذبية إنتاجها السينمائي والتلفزيوني ومويسقتها التي تستهوي الشباب، وسياراتها السريعة والجميلة، وأخبارها الرياضية، وأزيائها المريحة، ووجبات الطعام السريع، وكل ما يمكن أن يدّل على إشباع الرغبات والشهوات التي تروجّها الثقافة الاستهلاكية التي تمتلكها الولايات المتحدة والتي يجب أن نقرّ بجاذبيتها لدى شرائح واسعة في مجتمعات العالم. و أخيرا لا بد من الاعتراف بأن الولايات المتحدة تستفيد من الهجرة إليها فهي التي تشجّع استقطاب أصحاب الأدمغة والكفاءات والمهارات وتغذّي وتنمّي القدرات البشرية المبدعة أكثر من أي بلد آخر في العالم. كما أنها استطاعت إعطاء الإنطباع أن مؤسساتها السياسية والتشريعية والقضائية أمثلة يمكن تعميمها في كافة البلدان لأنها تمثل مجموعة قيم يتجاوب معها الناس وتمثّل طموحاتهم.
غير أن الأمور بدأت تتغير بوتيرة سريعة حيث تماسك الولايات المتحدة أصبح موضوع نقاش عند بعض النخب. في هذا السياقعقدت حلقة نقاشية في واشنطن منذ بضعة أسابيع بعنوان هذه المداخلة بالذات شارك فيها عدد من الشخصيات المرموقة كالقاضي السابق في المحكمة العليا ساندرا دي اوكونور (اول إمرأة تجلس في تلك المحكمة المرموقة والتي مازالت تحافظ على حد كبير من مصداقيتها). افتتحت اوكونور الحلقة التي ناقشت التنافر المتزايد بين الأميركيين والذي وصل إلى درجات عالية من التناحر لم تشهده الولايات المتحدة على مدى تاريخها. أما الأسباب التي ذكرت في تلك الحلقة النقاشية فطابعها ثقافي حيث شدّد المشاركون على دور الفردية المتجذّر في كل أميركي مما يجعله (ها) متمسّكا بآرائه (ها) وإن كان على حساب فقدان احترام الرأي الآخر والوصول إلى الإقتتال.
ولكن هناك عوامل عديدة أخرى تساهم في تفكيك أواصر المجتمع الأميركي والتي سنعرضها بشكل سريع. نشير هنا إلى بحثنا المفصّل الذي نشرناه في مجلة "المستقبل العربي" في آب 2004 حيث أبرزنا هشاشة الإقتصاد الأميركي وتداعياته السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الأمنية! في ذلك السياقشدّدنا على ظاهرة عسكرة المجتمع الأميركي نتيجة لتزايد الفجوات بين الطبقات الإجتماعية والنزاعات الإنغلاقية داخلها.نشير هنا إلى الدراسة الهامة التي أعدّها أستاذ علوم الإجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز وليام دومهوف الذي فصّل تمركز الثروة في الولايات المتحدة لأكثر من 20 بالمائة من الثروة بيد أقل واحد بالمائة من السكّان. والطبقات الثرية تعيش في مجمّعات محمية من قبل شركات أمنية خاصة وخلف أسوار ورقابة إلكترونية ولا تختلط مع سائر شرائح المجتمع.
وهذه الفجوة المتزايدة تتلازم مع تكاثر حملة السلاح في الولايات المتحدة. ونذكّر القارئ أن دستور الولايات المتحدة يضمن حمل السلاح لجميع مواطنيه وأن أقوى لوبي في الولايات المتحدة هو الجمعية الوطينية للبندقية (National Rifle Association). أي بمعنى آخر يستطيع المواطن الأميركي الذي يحمل السلاح أن يتمرّد على السلطة المركزية. والجدير بالذكر أن الميليشيات العنصرية البيضاء والميليشيات المناهضة للسلطة الإتحادية تتكاثر وتتعاظم وإن لم تصل حتى الآن إلى النقطة التي تهدد فيها بشكل مباشر السلطة المركزية. غير أنها تشكّل قنابل موقوتة جاهزة للإنفجار في "الوقت المناسب".نضيف إلى ذلك المرتبة المعنوية العالية لدى المواطن الأميركي للقوات المسلّحة الأميركية. فهاجس الأمن مسيطر على العقل الأميركي وإن لم يكن ر مبررا بالوقائع. لكن العلاقات العضوية بين النخب العسكرية وشركات المجمع العسكري الصناعي جعلت من المؤسسة العسكرية المؤسسة الطاغية في تحديد المسار الإستراتيجي للسياسة الخارجية الأميركية وشن الحروب الخارجية التي دمّرت الإقتصاد الأميركي خاصة في عهد ولايتي بوش الأبن. وهذا ما أوضحناه في دراستنا السابقة المشار إليها أعلاه.
يبقى تحديد "الوقت المناسب" للإنفجار وهذا يعود إلى المدى الذي وصل إليه تفتّت المجتمع الأميركي تحت وطأة الأزمات الإقتصادية والإجتماعية المتصاعدة. هذه الأزمات الإجتماعية المتصاعدة تكمن أسبابها في تفكيك أسس دولة الرعاية عبر مراجعة إلتزامات الدولة المركزية وحتى إلتزامات الولايات تجاه المواطنين في تأمين الرعاية الصحية والتعويض عن البطالة وعن نهاية الخدمة. لايمكننا تحديد أفق زمني ولكن المؤشرات تشير أن ذلك الزمن لن يكون بعيدا. هناك عدد كبير من الولايات قامت بتخفيض الخدمات الصحية مما يؤكد المسار الذي نشير إليه. فعلى سبيل المثال نشير هنا أن المقيمين بولاية وسكنسن في شمال الوسط الولايات المتحدة أقاموا مسيرات احتجاج على قرارات حاكم الولاية التي ترمي إلى تخفيض الخدمات المقدمة. الطريف في هذا الموضوع أن المحتجّين رفعوا يافطات تطالب المصريين بمؤزارتهم في مطالبهم في إسقاط حاكم الولاية! فالتجربة المصرية على ما يبدو أثارت اهتمام العديد من الأميركيين!
وطبيعة الأزمة المزمنة التي تواجهها الولايات المتحدة هي بنيوية ونظامية والتي قد تؤدي إلى تفكيكها إن لم تقم النخب الحاكمة بمراجعة جذرية لبنيتها السياسية والإقتصادية. فكما أشرنا في عدد من الأبحاث فالإقتصاد ليس إلاّ السياسية ولكن بلغة الأرقام. والبنية الإقتصادية في الولايات المتحدة مرآة للبنية والنظام السياسي القائم. فالقرار السياسي على كافة المستويات من الحكم وفقا لما يعتبرونه "دولة المؤسسات" يؤثر به مجموعات الضغط التي تقود الحراك السياسي عبر تدخّلها في تمويل الحملات الإنتخابية للحزبين اللذين يتحكمان بالحياة السياسية. أشرنا مؤخرا أن تقديرات الحملة الرئاسية القادمة قد تصل تكاليفها إلى ما يوازي 750 مليون دولار لكل من المرشحين. هذا يعني أن الشركات الكبرى وخاصة تلك التابعة للمجمع العسكري الصناعي والمؤسسات المالية هي التي ستموّل تلك الحملة بشكل يجعل المرشح/المنتخب خاضعا لإملاءاتها ومصالحها. الحياة السياسية في الولايات المتحدة أصبحت خاضعة لسيطرة رأس المال. هناك دراسات عديدة في هذا الموضوع تؤكد وتبرهن ذلك ولا داعي لسردها لضيق المساحة. نشير على سبيل المثال وليس الحصر أعمال الباحث الأميركي الراحل شالمرز جونسون والباحث والمعلّق غريغ بالاست والباحثة الإقتصادية نعومي كلين.
الهشاشة في البنية السياسية معالمها صعوبة التمثيل الحقيقي لفئات الشعب. فالمفارقة تكمن في أن المرشح يكون في بداية حياته السياسية ساعيا لتحقيق مطالب محقة لفئات واسعة من المجتمع. غير أن وصوله لمجلس الممثلين أو الشيوخ يخضع لشروط المموّلين بشكل عام مما يجعل الفجوة تتزايد بين الشيخ أو النائب من جهة والفئات الشعبية التي يزعم تمثيلها. فإفساد الأجندة السياسية التي تتحكّم بها المجموعات الضاغطة أفسدت صحة العملية الإنتخابية. ولا بد للقارئ أن يعي أن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تملكها شركات لا يزيد عددها عن العشرة. أي أن تمركز ملكية وسائل الإعلام بيد الشركات التابعة للمجمّع العسكري الصناعي يساهم بشكل مباشر في تكوين الرأي العام والتوجهات السياسية. وبما أن المحكمة الدستورية العليا أقرّت أن المال هو وسيلة للتعبير وأن الدستور يضمن حرية التعبير أصبح المال مسيطرا على صناعة القرار السياسي.
غير أن صعود الإعلام البديل كالمدوّنات في الشبكة العنكبوتية والتواصل عبر الفاسبوك والتويتر ساهم في تكوين رأي عام مضاد تبلوّر في إقامة ما يُسمّى بحزب الشاي الذي يضمّ الغاضبين على سياسات الإنفاق المفرطة للدولة الإتحادية وما تسببه من هدر لأموال المكلّفين الذين يدفعون الضرائب. إن تنامي الشعور الغاضب تجاه الحكومة الإتحادية وإنفاقها يساهم في تنمية النزعات الإنفصالية في عدد من الولايات الأميركية. فالمرشح الجمهوري للرئاسة النائب رون بول يكتب في مدوّنته على الشبكة العنكبوتية أنه يحق للولايات الإنفصال عن الدولة الإتحاجية. من جهة أخرى هدّد مؤخرا أكثر من مرة حاكم ولاية تكساس ريك بري بالإنفصال إن لم تكف الحكومة الإتحادية عن التدخّل بشؤون الولايات. وهناك بعض استطلاعات للرأي العام تفيد أن 21 بالمائة من الأميركيين يعتبرون أنه يحق للولايات الإنفاصال إذا ما اقتضت مصلحتها بذلك. ففي آخر المطاف الوحدة فعل تعاقدي يمكن إلغائه في أي لحظة أسوة بالعقود الأخرى! وإذا أراد القارئ المزيد من المعرفة عن المزاج الأميركي فما عليه إلاّ قراءة تلك المدوّنات. لم تصل النزعات الإنفصالية إلى نقطة اللارجوع إلاّ أنها موجودة وفي تنامي مستمر مما يثير التساؤل حول "وحدة" الدولة الإتحادية!
أما أسباب تنامي ذلك الشعور أو الرغبة بالإنفصال فهي عديدة. أولا نذكر تراجع الرابطة القومية المبنية ليست على تاريخ مشترك بل على المصلحة المشتركة وخاصة ذلك الوهم الكبير المُسمّى ب"الحلم الأميركي". ذلك "الحلم" الذي يعطي لكل فرد في الولايات المتحدة إمكانية تحقيق طموحاته في حياة مرفّهة. ومن علامات تلك "الرفاهية" الإستهلاك المفرط عبر تزويد المواطن منذ صغره بثقافة الإستدانة واستعمال بطاقات التأمين التي تمكّنه من امتلاك آخر السلع وإن كان دخله لا يُمكّنه من ذلك. فالمواطن الأميركي يعمل إذا جاز الكلام من المهد إلى القبر لمصلحة المصارف والمؤسسات المالية التي تُوزّع تلك البطاقات والتي تجني منها فوائد ربوية. فبعد إفلاس المصارف الكبيرة لأسباب لا داعي تردادها هناك خطر إفلاس مزدوج: إفلاس الدولة وإفلاس المواطن!
وضعف الرابطة القومية أو الوطنية يعود من بين عدة أسباب إلى نظرة الأميركيين للتاريخ. فوجود الدولة الأميركية كان في الأساس انقطاعا عن تاريخ اوروبا وحروبها المدمّرة. فالتاريخ له مدلول سلبي والإهانة الكبيرة التي يمكن توجيهها للآخر هو اتهامه بأنه من "التاريخ" أي من الماضي الذي لا قيمة له. فالشعب الذي لا يعترف بماضيه لا يمكن أن يكون له مستقبل! وكيف يمكن للمواطن الأميركي أن ينظر إلى تاريخ بلده المبني على الإبادات الجماعية للشعوب القاطنة في القارة وإلى استعباد الزنوج من إفريقيا لبناء وتشغيل مزارعهم وإلى استغلال الصينيين في بناء سكك الحديد إلاّ بالريبة والخجل؟ فتاريخ هذه الدولة مبني على دم وجماجم الآخرين. والقارئ الذي يريد المزيد من التفاصيل فيمكنه أن يستعين بمؤلفات الصديق الأستاذ منير العكش ك"أميركا والإبادات الجماعية" و"تلمود العم سام" ومؤلفه الأخير "أميركا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنكليزية".
كما أن النظرة المشكّكة بالعمل الفكري والمثقفين يعود إلى التركيز على "العمل" و"الإنجاز" وليس على التحليل. يشير الصديق الدكتور اسكندر عبدالنور في دراسة مفصلية حول العقل الأنكلوسكسوني الذي يعتمد الذرائعية والنزعة التفكيكية والتركيز على الجزئيات والتخصّص أن النظرة الشاملة للأمور غائبة وأن التوجه المعرفي لذلك العقل غير عقلاني ويحبّذ الروحانيات. لذلك نرى تعدّد الكنائس في الولايات المتحدة نوعا وكمّا وكأن تعدّدها كفّارة للخطيئة الجماعية! كما أن الإرتكاز على العهد القديم في تحديد سلّم القيم وإن تناقض مع العلم يؤكد حالة الإرتباك الفكري والروحي. فالرئيس بوش وفريق كبير من الجمهوريين المنتمين إلى الفئات التبشيرية يؤمنون بنظرية الخلق كما جاء في العهد القديم وينبذون النظرية العلمية لتكوين العالم كما أنهم ينبذون نظرية التطوّر. على كل حال اللجوء إلى الروحانيات هو بديل عن الرابطة القومية والوطنية فمن لا يؤمن معهم ليس منهم!
أما على الصعيد الإقتصادي فالتراجع واضح. العمود الفقري للإقتصاد الإميركي مبني على الإستهلاك. والإستهلاك يرتكز على الإستدانة. والإستدانة أساسها إمكانية الفرد في تسديد الدين. وتسديد الدين يتطلّب تدفّق الدخل وبالتالي وجود الوظائف. فاذا ذهبت الوظائف ذهب الدخل فذهبت إمكانية التسديد فتزداد الإفلاسات للمواطن وللمصارف ويتراجع الإستهلاك وبالتالي الإقتصاد. وتراجع الإقتصاد يُغذّي البطالة التي تُغذّي بدورها تراجع الإستهلاك فتكتمل الحلقة المفرغة. وهذا هو الحال الذي تعيشه الولايات المتحدة في هذه الأيام. فالبطالة مازالت مرتفعة وقد تفوق الأرقام الرسمية التي تحددها بحوالي 10 بالمائة. فقياس ذلك المعدل يقوم على احتساب المطالبين بتعويضات البطالة التي ينتهي صرفها بعد حوالي سنة منذ بدء البطالة. من جهة أخرى هناك من ييأس من الوقوف في طوابير الضمان الإجتماعي للحصول على تعويضات البطالة. أضف إلى ذلك هناك البطالة المقنعة التي تزيد من الأرقام الفعلية. والرقم الذي تنشره الحكومة رقم إجمالي لا يأخذ بعين الإعتبار البطالة على صعيد الولاية أو على صعيد الشرائح الإجتماعية. فهناك ولايات وصلت البطالة إلى ما يقارب 20 بالمائة. أما البطالة عن الأفارقة الأميركيين فقد تصل إلى 30 بالمائة.
هذه الأرقام متداولة بشكل منتظم والنتيجة تزايد مستمر في القلق حول المستقبل. وهذا القلق يغذّي النزعات العنصرية والغرائز البشعة. فهنالك من يُحمّل مسؤولية التدهور الإقتصادي على دفق الهجرة الوافدة من أميركا اللاتينية. وهناك من يُحمّل المسؤولية على سياسية الإنفاق الإفلاسية للحكومة الإتحادية. فالحروب التي خاضتها إدارتي بوش واوباما كلفت الخزينة الأميركية ما بين 3.2 و4 ترليون دولار إضافة إلى العجز السنوي الذي تجاوز التريليون دولار. أرقام مذهلة ومستمرّة في التصاعد! وهناك من يرمي اللوم على المؤسسات المالية العملاقة التي تجني الربح من اقتصاد افتراضي منفصل عن الواقع. وهناك من يعتبر الصين المسؤولة عن سرقة الوظائف التي استوطنت هناك. جميع هذه الأسباب تتفاعل وتخلق مناخات غير مستقرّة خاصة وأنها ترى بشكل واضح عجز القيادات السياسية في مقاربة ومن ثم معالجة الوضع الإقتصادي الإجتماعي المتدهور.
إضافة إلى التراجع المستمر في الوضع الإقتصادي الذي يمكن تفصيله في بحث منفصل هناك تحوّلات اجتماعية حاصلة قد تؤدي إلى تغيير الخارطة الديمغرافية في الولايات المتحدة. وفقا للإحصاءات المنشورة من قبل السلطات الأميركية فإن معدّل النمو السكاني في تراجع أي أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة الشيخوخة. ويعود ذلك الأمر إلى تدنّي خصوبة المرأة إلى أقل من 2.1 بالمائة الحد الأدنى لتجديد عدد السكان وذلك وفقا لآخر إحصاءات مكتب تعداد السكان الأميركي (2011). والتعويض عن النقص في الزيادة الطبيعية للسكان هو في الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة. في هذا السياق نجد أن معظم ولايات الجنوب الغربي للولايات المتحدة شهدت هجرة وافدة من أصول لاتينية (أو اسبانية) خاصة في الولايات الكبرى كالتكساس واريزونا ونيو مكسيكو وكولورادو وجنوب كاليفورنيا. تشير الإحصاءات أن سكان المدن الكبرى في تلك الولايات أن السكان المنحدرين من أصول اسبانية سيصبحون الأكثرية قبل نهاية العقد. كما أن المدن والقرى الحدودية مع المكسيك شهدت تراجع اللغة الإنكليزية لمصلحة اللغة الإسبانية.
كل ذلك جعل سامويل هنتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضرات، يراجع تحذيره من خطر المواجهة مع الحضارة الإسلامية حيث قال أن الخطر الذي يهدد الولايات المتحدة ليس الصراع مع حضارات أخرى بل فقدان الهوية الأنكلوساكسونية البروتستنتية البيضاء. لا يخلو كلام هنتنغتون من الغمزات العنصرية خاصة أن تاريخ الولايات المتحدة حافل بالصراعات الدامية مع الجاليات الكاثوليكية في القرن التاسع عشر. ونشير هنا أن الرئيس الكاثوليكي الوحيد الذي اخترق الحصار الأنكلوساكسوني البروتستنتي هو جون كنيدي الذي اغتيل قبل نهاية ولايته وأن المرشح الأكثر حظا من بعده كان جون كيري في مواجهة جورج بوش في معركة إعادة انتخاب الأخير.غير أن معسكر بوشلجأ إلى أساليب ملتوية لإقصاء كيري عن الرئاسة. كل ذلك يدّل أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة التناقض الإجتماعي الحاد إن لم يكن هناك من مراجعة في القيم لإستيعاب التحوّلات الحاصلة على الصعيد الديمغرافي. وليس هناك من دليل أن ذلك قد يحصل إذا ما نظرنا إلى السجال المرّ الحاصل حول الهجرة الوافدة الذي يسيطر على الخطاب السياسي في الحملات الإنتخابية القادمة.
وهناك عوامل أخرى تساهم في تفتيت النسيج الإجتماعي الأميركي كتفتيت الوحدة الأساسية لأي مجمتع ألا وهي الأسرة. الإحصاءات تشير أن أكثر من 51 بالمائة من الأسر الأميركية تفتقد إلى وجود الأبوين أي أن الأسرة الأميركية اليوم تتكوّن من إما الأم (وهذا أكثر الحالات) أو من أب دون وجود الشريك الآخر. فالطفل ينشأ في بيئة لا يعرف وجود الوالدين والتداعيات لذلك الأمر كبيرة حيث تصبح الروابط العائلية الأساسية غير ذي أهمية.
من جهة أخرى هناك ثقافة العنف المكوّن الأساسي لشخصية الأميركي. فالأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية والمباريات الرياضية وألعاب الفيديو تحبّذ بل ترفع إلى أقصى الدرجات من الترحيب في الثقافة الأميركية. هناك دراسات عديدة حول ثقافة العنف وليست الحوادث الدرامية لإقدام تلاميذ على قتل زملائهم إلأّ خير دليل على تأثير ثقافة العنف في تكوين الشخصية الأميركية. هذا يعني أنه مع عسكرة المجتمع الأميركي وإمكانية حمل السلاح والنزعة التمرّدية على السلطة المركزية لأسباب تاريخية وحاضرة وتأليه ثقافة العنف والتراجع الإقتصادي والإجتماعي وتنمية الغرائز العنصرية البشعة ، كل تلك الأسباب تشكّل عناصر تفجير وتفتيت المجتمع الأميركي.
يبقى تحديد الوصول إلى نقطة الإنفجار. لا يمكننا القول أن الولايات المتحدة وصلت إلى تلك النقطة بل تقترب منها على وتيرة متسارعة خاصة وأن النخب الحاكمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، عاجزة عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسديد الثغرات وإعادة بناء البنية التحتية والثقافية للولايات المتحدة. ولنا في ذلك الأمر حديث ولكن في مكان ووقت آخر.