لاحظت أن بعض صحافتنا في المغرب تترجم من الصحف الإسرائيلية أو تنقل عنها مقالات عن المغاربة اليهود، وغالبا ما تكون هذه المواد ذات حمولة إيديولوجية لم يعد يؤمن بها حتى أصحابها، فتُقدم إلى القراء المغاربة دون عناء تمحيص للمعلومات والمصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية، وهي متحيزة وغير موضوعية، وما يزيد الطين بلّة الأخطاء في الترجمة.
وآخر هذه المقالات كان بعنوان: The tragedy of the ‘Egoz’ and the story of Moroccan Jewry’s return to Israel (مأساة -إيكوز- وقصة عودة اليهود المغاربة إلى إسرائيل)، نشرته صحيفة The Jerusalem Post، يوم 26 يناير الماضي بمناسبة مرور 56 سنة على غرق هذه السفينة التي كانت مثقلة بمهجرين سريين يهود إلى إسرائيل.
يتضمن عنوان المقال واحدة من الأساطير التي استندت إليها الحركة الصهيونية في اجتثاث يهود العالم من فوق أرض أوطانهم، ومنها المغرب، وتهجيرهم إلى إسرائيل بعد أن وعدتهم بـ -أرض تفيض عسلا ولبنا-، وهي أسطورة العودة (عودة اليهود المغاربة)؛ أي إن اليهود شُتتوا بفعل فاعل من وطنهم، واغتصابهم لفلسطين وتشريد شعبها هو -عودة-.
إن أسطورة الشتات هذه وغيرها من الأساطير دحضها المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند؛ فاليهود لم يُطردوا، كما يقول ساند، ولم يتعرضوا للشتات، فوجودهم على ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط يجد تفسيره في كون الديانة اليهودية كانت ديانة تبشيرية شأنها شأن المسيحية والإسلام.
هذه الدراسة محاولة لتسليط الضوء على السياق التاريخي لغرق السفينة -إيكوز- وأسباب الحادث، والنتائج المترتبة على ذلك. وللرد على الادعاءات الصهيونية التي يروج لها البعض عن قصد أو غير قصد.
غرق السفينة (إيكوز)بعد حل (كاديما) تولى جهاز الموساد الإشراف الفعلي على عملية تهجير المغاربة اليهود سراً. واتخذت شبكة الموساد السرية، التي كان يرأسها ألكس جاتمون (Alex Gattmon)، من الدار البيضاء مقراً لها. وقد كان عناصرها يصولون ويجولون في المغرب طولا وعرضا.
أطلق الموساد اسم (ميزجرت) (מסגרת)، وتعني -الإطار-، على هذه المرحلة التي بدأت في 1957 واستمرت حتى غرق السفينة بسيز(Pisces) في شهر يناير 1961. وهُجِّر خلالها حوالي 30.000 يهودي. وقد خلدت شبكة الموساد جريمتها بِتَبَاهٍ في كتاب ضخم.
وعن موجة الهجرة السرية خلال هذه الفترة جاء في إحدى قصاصات وكالة المغربي العربي للأنباء أنه لوحظ في الأسابيع الأخيرة (في صيف 1960)، ولا سيما بعد إغلاق المدارس بمناسبة العطلة الصيفية، تقاطر عدد من اليهود المغاربة على الناضور وعبورهم إلى مليلية بمختلف الوسائل القانونية والمحظورة، ويفهم من الدوائر المطلعة أن الأمر يعني حركة منظمة لتهريب اليهود المغاربة إلى الجزء المحتل من فلسطين العربية.
وقد علم أن السيارات الكبرى والصغرى تأتي مشحونة باليهود من: فاس، مكناس، وحتى من مراكش، والدار البيضاء، فتنزلهم قرب بحيرة بوعرق ومن هناك يجدون في انتظارهم قوارب أعدتها المنظمات الصهيونية لنقلهم إلى مليلية بحرا؛ حيث يمتطون منها السفن إلى فرنسا، أو إيطاليا للذهاب بعد ذلك إلى فلسطين.
وفي ليلة السابع من الشهر الجاري، لاحظ سكان الدواوير المجاورة لبحيرة بوعرق أربعين من الشبان اليهود يمتطون بعض القوارب، فأعلموا رجال الدرك الملكي الذين وجدوا بعد حضورهم أن القوارب ذهبت في اتجاه مليلية. وفي الليلة التالية أبحر منهم عشرون آخرون، وساروا في نفس الاتجاه.
واتهمت الوكالة قنصل فنزيلا الشرفي بمدينة مليلية، وهو يهودي يسمى السرفاتي بنحايم إبراهيم، بالتورط مع الموساد في تهجير المغاربة اليهود، فقد كشفت التحريات الموثوق بها، وفقا للوكالة، أنه يهيئ جوازات سفر مزورة لأولئك، وأنه يمر بكثرة ما بين مليلية والناضور، ويتجه إلى الحسيمة، ومليلية. ولم تستبعد الوكالة أن يكون ذلك القنصل يقوم بتهريب أموال اليهود مستغلا صفته القنصلية مثلما يقوم في مليلية بتزوير الجوازات ومنحها لهم؛ لأن صلته بالصهيونية العالمية والأوساط المتصهينة بالمغرب أمر لا مراء فيه.
خلال هذه الفترة استأجر الموساد سفينة (إيكوز) لتهجير المغاربة اليهود بعد أن أدخلت عليها تعديلات، فقامت السفينة بعدد من الرحلات قبل أن تطوح بها عاصفة هوجاء ليلة 11 يناير 1961، وفقا لصحيفة -العلم-، التي ذكرت أن السفينة كانت ترفع علم هندوراس، وتحمل 40 يهوديا مغربيا (الصحيح: 44)، وتتألف هيئة بحارتها من خمسة إسبانيين (الصحيح: ثلاثة)، ولم ينج سوى ثلاثة من البحارة، ومن بينهم قائد السفينة.
وذكرت مجلة Paris Match أن قائد السفينة، فرنسيسكو موريا، البالغ من العمر 38 عاما، فر مع مساعديه في القارب الوحيد الذي كان بالسفينة. وقد روى في شهادته تفاصيل الرحلة وغرق السفينة.
وفي الفجر، استقبل قارب إسباني الفارين الثلاثة وأطلق إشارة إنذار. وعندما وصلت طائرة من القوات الجوية الملكية البريطانية من جبل طارق إلى مكان وقوع الحادث كان قد فات الآوان، ولم تعثر على أثر للسفينة، وكانت جثث الغرقى تطفو فوق الماء.
ومن اللافت للانتباه أن المجلة وضعت لمقالها عن (إيكوز)، وهو غفل من التوقيع، عنوانا: (Toujours la tragédie de l exodus) ، فيه ربط تعسفي للحاضر بالماضي، فغرق (إيكوز)، وفقا لهذا العنوان، هو استمرار لمأساة (الخروج) ، أي للعبودية والاضطهاد.
وقد ارتبطت فكرة الخروج في الوجدان الغربي باليهود، فهم دائماً في حالة خروج (ودخول) من فلسطين (أرض كنعان) إلى مصر، ثم من مصر إلى فلسطين، ثم من فلسطين إلى بابل، ومن بابل إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى أرض الشتات، وهكذا. وساهم كل هذا في تحويل اليهود إلى مقولة غير زمانية وفي اختزالهم إلى بُعد واحد.
ابتلعت أمواج البحر العاصف السفينة بعد إبحارها من مدينة الحسيمة بساعتين، فقضى كل ركابها ولم يعثر إلا على نصفهم، هذا النصف كانت له قصة سنختم بها هذه الدراسة.
اتهم المؤرخ الإسرائيلي من أصل مغربي إيغال بن نون إسرائيل بأنها هيأت الأسباب للحادث لتستثمره في الضغط على المغرب لفتح الباب على مصراعيه للتهجير.
فإسرائيل، وفقا لهذا المؤرخ، ارتكبت عدّة حماقات؛ فالباخرة لم تكن في حالة جيدة وكانت محمّلة بما يفوق سعتها، كما أنهم كانوا يعلمون، عندما توجهت الباخرة من الجزيرة الخضراء إلى الحُسيمة، أن حالة البحر لم تكن جيدة، ومع ذلك فقد سمحوا لها بالإبحار. ولم تكن تتوفر على قوارب نجاة، ولا وسائل اتصال ملائمة... إذاً فقد كان الوضع مهيئا تماما لحدوث مأساة... ومع كل أسف، يوضح بن نون، فتقارير الاجتماعات التي عقدت في القدس داخل مكتب وزيرة الخارجية غولدا مائير تبين أن كل المشاركين عقدوا العزم على التخطيط لوقوع أمر جلل في المغرب بحيث يدفع حكومة المغرب إلى ترك اليهود يرحلون.
ألقت شبكة الموساد التي كانت تتولى تهجير المغاربة اليهود، في الكتاب المومأ إليه، بمسؤولية غرق إيكوز على السلطات المغربية التي أخافت اليهود باختياراتها الدبلوماسية التي تناصر القضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ولاسيما التقارب مع مصر الناصرية، وهذه الخيارات، هي التي جعلت السلطات المغربية تمنع اليهود من الهجرة، وتحجب عنهم جوازات السفر، مما جعلهم يشعرون بعدم الأمان ويرغبون في الخروج من المغرب، مهما كان الثمن، وبأي وسيلة. وقد وصف روبير أصراف في كتابه -محمد الخامس واليهود المغاربة- الخيارات الدبلوماسية للمغرب المستقل بـ -دوار عالم ثالثي-.
كان غرق (إيكوز) نهاية مرحلة في تهجير المغاربة اليهود، وبداية أخرى.
فقد كان لهذا الحادث ما بعده بفعل الأصداء الدولية التي خلفها نتيجة الحملة التي شنتها المنظمات الصهيونية وإسرائيل ضد المغرب واتهامه باحتجاز المغاربة اليهود، وبلغ الأمر حد التهديد.
استغلت شبكة الموساد بالمغرب هذا الحادث المأساوي، وأطلقت علمية دعائية سمتها (بازاق)؛ فوزعت منشورا باسم المغاربة اليهود ترفع فيه من معنوياتهم وتحثهم على الهجرة إلى إسرائيل. ووفقا للمنشور، فإنه بعد ألفي عام سنحت فرصة ذهبيّة لعودة اليهود إلى أرض الآباء والأجداد، وأنّ الإسلام يعارض معاداة الساميّة، ولكن هناك أناسا في المغرب قرروا مطاردتنا وإذلالنا، وستكون نهاية هؤلاء مريرة مثل العماليق وهامان وهتلر وإيخمان.
نسخة من المنشور الذي وزعته شبكة الموساد بالمغرب يوم 9 شباط 1961
كان الموساد يرمي من وراء هذه العملية إلى استفزاز الشرطة المغربية، ودفعها إلى الرد بقسوة واعتقال أكبر عدد من اليهود، لكي يُحدث صدمة في العالم من بطش النظام في المغرب، الأمر الذي يؤدّي إلى حملة تعاطف دوليّة مع اليهود. وبالفعل اعتقلت الشرطة المغربية شبانا ضبطوا وهم يعلقون المنشور، وقد ادعت شبكة الموساد، في كتابها المذكور، أن بعضهم مات تحت التعذيب.
تداعيات غرق (إيكوز):كان من النتائج المباشرة لغرق السفينة (إيكوز) رفع السلطات المغربية القيود بشكل كامل ونهائي عن التهجير؛ فعلى إثر هذ الحادث انطلقت في الخارج حملة إعلامية ضد المغرب اتهمته بأنه -يحتفظ باليهود رهائن-. وبالفعل نجحت هذه الحملة التي حركتها الدوائر الصهيونية في إجبار السلطات المغربية على السماح بتهجير المغاربة اليهود. وقد تزامنت هذه الضغوط مع وفاة الملك محمد الخامس، وتولي الحسن الثاني الذي كان في حاجة إلى سند في صراعه المرير على السلطة مع المعارضة اليسارية ورموز الحركة الوطنية. ووفقا لصاحب كتاب (The Alliance Secret)، فإن المغرب الذي كان في حاجة إلى المساعدة الاقتصادية الأمريكية وكذلك العسكرية، لم يكن بالتأكيد ليتحمل استعداء الرأي العام الأمريكي.
وهكذا شرعت السلطات المغربية في رفع القيود تدريجيا عن تسليم الجوازات ابتداء من شهر غشت 1961، ثم رفعت هذه القيود رسميا ونهائيا في 1962، وذلك بعد مفاوضات سرية مع مسؤولين من الجمعية العبرية لمساعدة المهاجرين (Hebrew Immigrant Aid Society)، المعروفة اختصار بـ (HIAS)، بمساعدة رئيس خلية الموساد بالبيضاء ألكس غاتمون.(AlixGattmon)
وعلى إثر هذا الاتفاق انطلقت ما يمسى بعلمية (ياكين)، وهي المرحلة الثالثة من تهجير المغاربة اليهود. وهكذا زادت وتيرة التهجير منذ 1961. وعزت صحيفة -العلم- ذلك إلى تهاون بعض المسؤولين رغم أنها أوضحت أمامهم سبل الاهتداء، والوسائل التي تستعملها شبكة تهريب اليهود المغاربة وحتى الطرق الرئيسية التي يمرون منها. إن استعمال الصحيفة لفظ -تهاون-، لوصف موقف المسؤولين المغاربة من التهجير السري، استبدال لبق لـ -تواطؤ-، و-بيع- المغاربة اليهود، وهذا ما تؤكده الوثائق والمصادر.
ونددت صحيفة -العلم-، لسان حزب الاستقلال، بالأحكام المخففة في حق من وصفتهم بالخونة اليهود الفارين. وعبر كاتب المقال عن اندهاشه لتفاهة العقوبة وبساطة الجزاء، رغم فداحة الجريمة، جريمة الخيانة للبلد الوطن الأم، التي تستوجب أقصى حكم على الأقل إن لم يكن الإعدام. وعزا الواقع المخجل الذي جعل المحاكم تقف مكتوفة الأيدي أمام شبكة الصهاينة، هو أنها لا تجد أي مادة في القانون المتداول بين يديها لتطبيقها على هذه الشبكة المجرمة طبق خيانتها وخلو القانون من النص يجرد الهيئة من كل سلاح قد تقارع به محامي المتهمين. وإذا كانت هذه المادة، وفقا للكاتب، لا وجود لها في القانون المعمول به أيام العهد البائد (الاستعمار)، وإذ يعذر المحاكم في هذا التساهل السافر، فإنه بالمقابل لا يجد معذرة للدولة في هذا الصدد، وطالب بإصدار مرسوم يحدد عقوبة المهربين واليهود الفارين، طبق جريمة الخيانة المقترفة.
ها أنا ذا أفتح قبوركمذكرت مجلة Paris Match، التي سكتت عن أسباب غرق إيكوز، أن الغرقى الذين انتُشلت جثثهم، وعددهم 22 غريقا، دفنوا في المقبرة اليهودية بالحسيمة على شاطئ البحر، بعد أن انتدبت الطائفة اليهودية في تطوان حاخامها الأكبر للصلاة عليهم؛ فبعد الحثوة الأولى من التراب قرأ الحاخام كلمات حزقيال: (...) ها أنا ذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي، وآتي بكم إلى أرض إسرائيل (...)، سفر حزقيال (37: 12).
وبالفعل، فتحت هذه القبور بعد 32 سنة لنقل رفات الغرقى إلى فلسطين المحتلة لدفنها هناك. وقد استجاب المغرب لطلب كيان الاحتلال الصهيوني بعد حملة ضغط ووساطات، استمرت من 1983 إلى 1992، تولاها سام بن شطريت، رئيس الفيدرالية العالمية لليهود المغاربة ممثل عائلات الضحايا، وسخرت فيها إسرائيل شخصيات سياسية عالمية، وحتى الأمم المتحدة.
فهل أبرمت صفقة أخرى بِيع فيها اليهود أمواتا بعد أن بِيعوا أحياء؟