ليس جديداً ولا مستغرباً الدعم والحماية الأميركية للكيان الإسرائيلي، وليس جديداً الإذلال الإميركي المتعمد للعرب والمسلمين.
فمنذ القدم وقفت الولايات المتحدة الإميركية إلى جانب إسرائيل في اعتداءاتها وانتهاكاتها للمواثيق والأعراف الدولية، تارة بالدعم العسكري وأخرى بالدعم الإقتصادي ، وطوراً بتعطيل عمل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، إن لجهة تنفيذ القرارات الدولية أو وقف صدورها بالتهديد باستعمال الفيتو بوجه أي قرار دولي يحمل معنى العقوبة أو الإدانة لأفعال إسرائيل الإجرامية . فهي تعتدي تقتل وترتكب المجازر وتحتل وتغتصب أراضي الغير ، وتعتدي على الحقوق منتهكة الشرائع الدولية تحت غطاء الشرعية الدولية المرتهنة للقرار الأميركي ، والذي يمارس بدوره جرائمه واعتداءاته على الشعوب والأمم ، متدخلاً في شؤون الدول معتدياً عليها تحت غطاء الشرعية الدولية وبحجة تنفيذ قرارات مجلس الأمن .
والعالم كله ومعه العالم العربي والإسلامي يقف متفرجاً وخائفاً ومتملقاً ، دون أن يحرك ساكناً أو يعلن موقفاً ، رافضاً حتى المطالبة بتحقيق حقوقه المسلوبة ولو باستناده إلى الشرعية الدولية ، سواء بالدفاع عن نفسه بكل وسائل القوة العسكرية منها والإقتصادية أو بالمطالبة بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة . ولن يكون آخر الإنتهاكات للقانون الدولي القرار الأميركي بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، " وربما تلحق به دول أخرى "، هذا القرار الذي شكل خرقاً واضحاً وعلنياً لقاعدة عامة من قواعد القانون الدولي والذي يعتبر سابقة تهدد بفوضى عامة تصيب المنتظم الدولي ، (إن كان قد بقي شيء من هذا المنتظم ) وتهدد بتقويض دعائم الإستقرار العالمي والسلم والأمن الدوليين .
ولخطورة هذا القرار سوف نتحدث عن شرعية القرار الأميركي بشكل خاص ومبدأ الإعتراف بشكل عام ، من وجهة نظر القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أولاً ، وثانياً في آثار وتداعيات هذا القرار على السلم والأمن الدوليين .
أولاً : في شرعية القرار الأميركي من وجهة نظر القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة
إن الأحداث التي شهدها العالم في الفترة الممتدة بين الحرب الكونية الأولى والحرب الثانية ، شهد العالم معها بلورة تطور القانون الدولي المنظم لعلاقات السلم والحرب بين الأمم المتمدينة ، وشهد أيضا في نفس الوقت ميلاد وتأكيد التزام عام على الدول بعدم الإعتراف بأية مكاسب أو تغيًرات إقليمية يتم التوصل إليها عن طريق الإستخدام غير المشروع للقوة ، واعتبار أي مكاسب أو تغيرات تتولد عن العدوان توصم بالبطلان ، حتى أن بعض الإتجاهات الفقهية تقول بأن الإعتراف بالتغييرات الإقليمية وما يترتب عليها من آثار في مثل هذه الأحوال يعد مساهمة في "جريمة الحرب العدوانية" ، وهذا الوصف درج عليه الفقه منذ وقت طويل كما كرسته لجنة القانون الدولي في نص المادة 19 من مشروعها المتعلق بالمسؤولية الدولية ، إذ اعتبرت العدوان إحدى صور الجرائم الدولية . (1)
وإن لم يأت ميثاق الأمم المتحدة بحكم صريح _ في نصوصه _ يقضي بعدم الإعتراف بأية مكاسب إقليمية تحصل عليها دولة أو دول ما ، من تصرفات منافية لأحكام الميثاق بوجه خاص ولأحكام القانون الدولي بوجه عام ، فإن عدم النص المباشر، لا يعني أن الأمم المتحدة قد أبعدت قاعدة عدم الإعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة ، بل التأمل في مضمون مبادىء الأمم المتحدة من ناحية ، وما جرى عليه العمل في أجهزتها من ناحية أخرى ، يوحي بأن هذا المنتظم قد جعل قاعدة عدم الإعتراف قاعدة عامة من قواعد القانون الدولي . وقد قضت المادة الأولى من الميثاق بأن تتخذ الهيئة التدابير المشتركة والفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم .. كما نصت الفقرة الرابعة من المادة الثانية على أن " يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو إستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة " .
كما نصت الفقرة الخامسة منها على أن " يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق ، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزائها عملا من أعمال المنع أو القمع ".
ومن هذه النصوص يمكن رؤية التزام الجماعة الدولية بعدم الإعتراف بأي تصرف يأتي مخالفاً لبنود هذا الميثاق ، حماية لحقوق المجموعات المعتدى عليها، وبعدم الإعتراف بأي آثار تنجم عن مثل هذه التصرفات العدوانية . وقد أكد هذا المبدأ الإعلان الصادر عن الجمعية العامة المتعلق بالعلاقات الودية والتعاون فيما بين الدول الصادر سنة 1970 والذي جاء فيه : " أن أية مكاسب إقليمية تم الحصول عليها عن طريق استخدام القوة أو التهديد باستخدامه لا يمكن الإعتراف بشرعيتها " .
وفي أعقاب عدوان 1967 على مصر وسوريا والأردن أصدر مجلس الأمن في 22 تشرين أول 1967 قراره الشهير تحت الرقم 242 مقرراً في ديباجته " عدم قبول الإستيلاء على أقاليم الغير عن طريق الحرب .. " وأن إرساء السلام العادل في الشرق الأوسط يقتضي " .. سحب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأقاليم المحتلة إبان النزاع الأخير " . وهذا القرار الصادر عن مجلس الأمن يأتي تأكيداً لمواقف الأمم المتحدة بضرورة سحب إسرائيل لقواتها من الأراضي العربية المحتلة ومنها القدس، وهو بالتالي نتيجة طبيعية لعدم مشروعية الوسيلة التي تم بها الإحتلال ، وعلى إسرائيل أن تلتزم بردها (2) .
والجدير ذكره أنّ المشروع الألباني جاء متميزاً بمطالبته إدانة الولايات المتحدة ، وبريطانيا على المساعدات التي قدمتها كل منهما لإسرائيل ، وعن الإشتراك المباشر في أعمال العدوان .
وقد أسفرت المناقشات القائمة أنذاك على إصدار توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 يوليو سنة 1967 تحت الرقم 2253 أعلنت فيه بطلان كافة الإجراءات التي اتخذتها اسرائيل بهدف تحويل المركز القانوني لمدينة القدس ، وهو موقف أكده مجلس الأمن في تاريخ لاحق سنة 1971 بموجب قراره رقم 298 جاء فيه أن هذه الإجراءات " باطلة تماماً ولا ترتب أي أثر " . ويراعى أن الأمم المتحدة قد أعلنت في توصية لها في أعقاب حرب سنة 1948 مشروعاً ( لتقسيم فلسطين ؟؟؟؟) الصادر سنة 1949 تحت الرقم 303 قررت فيما قررت فيه _" أنّ مدينة القدس تمثل كياناً قائماً بذاته "Corpus Separatum ".
وعلى أثر حرب حزيران سنة 1967 وضم إسرائيل للجزء العربي من المدينة المقدسة أعلنت العديد من الدول التي لها قنصليات في المدينة أنها لا زالت تعتبر القدس كياناً قائماً بذاته . كل هذا يفصح عن عدم اعترافها بالإجراءات الإسرائيلية لضم شتى المدينة .
كذلك أصدرت الأمم المتحدة قرارا متعلقا ، بسحب الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان لسكان الأراضي المحتلة ، جاء فيه أن " الجمعية العامة .. تعلن أن السياسات والممارسات الإسرائيلية تشكل انتهاكات خطيرة لميثاق الأمم المتحدة لا سيما لمبدأي السيادة والسلامة الإقليمية ، و لمبادىء وأحكام القانون الدولي المتعلقة بالإحتلال ، كما تشكل عائقاً في سبيل إقامة سلم عادل ودائم .
" وتؤكد من جديد أن جميع التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتغيير الطابع المادي للأراضي المحتلة لأي أجزاء منها أو لتكوينها الديمغرافي أو هيكل مؤسساتها أو مركزها ، هي تدابير باطلة ولاغية " .
" وتكرر ندائها إلى جميع الدول ، وإلى المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة ، بعدم الإعتراف بأي تغييرات أحدثتها إسرائيل في الأراضي المحتلة ، والى تجنب القيام بأية أعمال ، بما فيها الأعمال الداخلة في ميدان تقديم المعونة ، يمكن أن تستخدمها إسرائيل في مواصلة انتهاج السياسات والممارسات المشار إليها في هذا القرار " . (3)
ويستفاد مما تقدم أن الأمم المتحدة تقرر عدم شرعية التغييرات والتصرفات الإسرائيلية الناجمة عن عدوانها على الدول العربية الثلاث ، وبطلان كل التصرفات التي اتخذتها إسرائيل ، بمناسبة احتلالها لهذه الأقاليم باعتبارها أعمال مخالفة لقواعد القانون الدولي ، وتأكيداً منها على مبدأ الشرعية القائم على سيادة القانون الدولي لكي يحل محل مبدأ الفاعلية القائم على أن الأمر الواقع ( الإحتلال) يصحح التصرفات الباطلة .
ثانياً : آثار وتداعيات هذا القرار على الأمن والإستقرار الدوليين .
هذا العرض لواقع القانون الدولي ومواقف وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالأعمال الإسرائيلية غير المشروعة، وتحديداً التأكيد على مبدأ عدم الإعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة ، يعلن أن الأفعال ألأميركية المساندة والداعمة لإسرائيل وبالأخص القرار الأميركي المتعلق بالقدس ، هو مخالفة للمواثيق الدولية وللقرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس الأمن ، كما يشكل تحدياً للشرعية الدولية وللمجتمع الدولي . والذي يفرض على المجتمع الدولي إدانة هذا القرار بموقف فعلي وعام ، خاصة أن الأمر الواقع الذي تحاول اسرائيل أن تفرضه على القدس وعلى العالم هو صادر عن أعمال عدوانية واحتلال غير مشروع، لا يمكن أن يغير بالمبادىء القانونية والشرعية القائمة على سيادة القانون الدولي ، إذ أن الخطأ لا يولد الحق، وليس للمخطىء أن يستفيد من خطئه المتمثل بالإعتداء على الحق الفلسطيني والمتمثل بالسيادة على القدس والأراضي المحتلة . وبالتالي فإن هذا القرار قد بني على باطل وما بني عل باطل فهو باطل ولا يلزم أحداً ولا يغير من طبيعة الحق العربي بالسيادة على القدس .
وهذا الموقف الأميركي من الخطورة بمكان يجعل الشرعية الدولية محكومة لمواقع القوة ، ويشجع الكثيرين ممن لديهم أطماع توسعية والذين يملكون القوة اللازمة للقيام بالعدوان على من هم أضعف منهم ، ضاربين بعرض الحائط حقوق الشعوب المستضعفة ، باعتبار ما يملكون من قوة ذاتية أو مساندة من بعض الدول الكبرى ، والقيام بفرض الأمر الواقع على الأقاليم التي احتلوها عن طريق القوة أو أي وسيلة من وسائل القهر المادي التي لا تصلح على أي نحو لأن تكون سنداً معترفاً به لتوليد الحق .
إن الموقف الأميركي يعد سابقة سلبية ، فيما لو تكرست في المجتمع الدولي ، بحيث تحكم العلاقات فيما بين الدول وسائل استخدام القوة غير المشروعة وغير القانونية ، وتصبح العدالة الدولية محكومة بتدابير العنف ، مما يعيد المجتمع الدولي إلى أيام الفتح والإحتلال والإستعمار .
وهذا يهدد الإنتظام الدولي العام ، القائم على مبادىء التفاهم الدولي واحترام سيادة الدول والسلم والأمن الدوليين ، هذه المبادىء التي تشكل ضابطة للسلوك العام للدول التي التزمتها وعملت الأمم مجتمعة على تكريسها فيما تعاقدت عليه في انضمامها إلى الأمم المتحدة .
إنّ الخروج الأميركي على الإرادة الإجتماعية للمجتمع الدولي ، المتمثلة في عدم الإعتراف بالأوضاع غير المشروعة المفروضة بالقوة والعدوان ، يشكل تهديداً لإطار العلاقات الدولية ، ولمبدأ احترام حقوق الشعوب . وإن تصرفها يعد مخالفاً للنظام العام الدولي ، الذي يفرض عليها العمل على إزالة التعدي المتمثل بالإحتلال الإسرائيلي ، من خلال فرض جزاء عليها يتمثل أضعفه بعدم الإعتراف بالإعمال غير المشروعة المرتكبة من قبل إسرائيل ، للضغط عليها للقيام بتنفيذ القرارات الدولية وإعادة الحقوق لأصحابها ، الذين ترتكب في حقهم أسوأ المجازر وأبشعها، بدلاً من اعطاء إسرائيل الدعم والمساندة والتأييد كجوائز تشجيعية على ما ارتكبته وما سوف ترتكبه في المستقبل .
إن المجتمع الدولي بمجموعه مسؤول عن التصدي لهذا القرار الأميركي ، لما قد ينتج عنه من تداعيات وآثار تهدد السلم والأمن والإستقرار العالمي والإقليمي . كما أنّ على الدول العربية والإسلامية التصدي لهذا الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل، والذي يعبر عن عدم احترام وإستخفاف بحقوق ومشاعر العرب والمسلمين ، الذين آن لهم أن يدركوا أن عدوهم الأول هو الولايات المتحدة الأميركية قبل إسرائيل ، التي لولا حماية ومساندة الولايات المتحدة لها والتخاذل العربي لم تكن موجودة حتى يومنا هذا .
المقال من عام 2007
.....................................................................
(1) للتوسع أنظر د. محمد سعيد الدقاق ، عدم الإعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة ،ص 26 .
(2) المجلة المصرية للقانون الدولي ، المجلد 24، 1968 ، ص 302 .
(3) أنظر في نص هذا القرار : المجلة المصرية للقانون الدولي ، المجلد 31 ، 1975 ، ص 432 وما بعدها .
مصادر :
- د. محمد سعيد الدقاق، عدم الإعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة .
- محمد طلعت الغنيمي ، الغنيمي الوسيط في قانون السلام ، منشأة المعارف بالإسكندرية ، 1982.
- د.محمد المجذوب ، القانون الدولي العام ، الدار الجامعية ، المكتبة القانونية .