من العدالة أن نعطي لكل ذي حق حقه، من الجحود أن ننكر - عند الاختلاف - كل ما قدمته لنا الدول الحليفة في أشد اللحظات التي مرت بأمتنا سواداً، ومن هنا كان من الواجب علينا الإقرار بما قدمته روسيا للشقيقة سوريه، كما سبق وقدم الإتحاد السوفيتي للعرب الكثير.
ورغم أنه يحلو لبعض غلاة النيوليبراليين والتيارات الظلامية وعملاء الأنظمة العربية المندسين وسط هذه الجموع أن يقارنوا بين الاتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا وأمريكا من حيث حجم المساعدات والمعونات والمعاهدات وأنواعها ويجيرون النتيجة النهائية لصالح زعيمة الاستعمار العالمي "امريكا" .
ورغم وضوح مدى خطأ وتهافت هذه المقارنات الساذجة، إلّا أنه من المفيد الدخول في مناقشة تؤدي إلى ترسيخ أفكارنا، ليس بغرض اختبار مدى صحتها فقط، ربما بغرض ممارسة لذة تمزيق تلك القطع التي تستر عورة المذكورين سابقاً.
مبدئياً، وكما نعلم جميعاً، لاتوجد في السياسة عداوات ولا صداقات دائمة، توجد مصالح دائمة، الفارق بين العلاقات التي تقوم علي قاعدة المصالح المتبادلة وتلك التي تقوم علي تحقيق مصالح أحد الطرفين هو ما يميز بين علاقات "الصداقة" وعلاقات "التبعية".
أنت صديق طالما تحقق علاقتنا مصالح مؤكدة لبلدينا، وأنت تابع إذا آلت هذه العلاقات إلى نتائج تحقق مصلحة طرف واحد فقط.
عندما تقدم لي المصانع والخبراء وتتولي تعليم طلابنا وتدريب علمائنا في جامعاتك وتقدم لي السلاح بل وتشارك معي بالخبراء والضباط والجنود والطيارين وبكامل معداتهم وأسلحتهم في حروب مفتوحة ضد اعداء مشتركين لنا . وعندما ترفض التدخل في الشأن الداخلي لبلادي - الا بناءا علي طلب رسمي من السلطة الشرعية في بلادي - وعندما تساهم في أنشاء الجامعات والمدارس والمستشفيات والمعاهد البحثية مع بناء قصور الثقافة بالتوازي مع بناء المصانع تسمي هذه ب "علاقات الصداقة " أو "علاقات التحالف".
وعندما تبيع لي أسلحتك الخردة والمتخلفة وتبيع لعدوي أحدث أسلحتك المتقدمة التي لم يستخدمها حتى جيشك وعندما تبيع لي مصانعك المتخلفة كثيفة الاستهلاك للطاقة وذات الآثار البيئية المدمرة، وعندما تصدر لي كل أنواع السموم البيضاء من المخدرات العادية والتخليقية ومعها المبيدات والتقاوي المسرطنة، وعندما تحرم بلادي من الانتفاع بخيرة عقولها بالاغراءات المادية حيناً وبالقتل والتصفية الجسدية أحياناً وعندما تسعى إلى دفن نفاياتك النووية والصناعية في أرض بلادي، وعندما تقيم قواعدك العسكرية فوق ذات الارض لحماية مصالحك وأستثماراتك النفطية، وعندما تتدخل عسكرياً لتدمير بلادي وإعادتها للقرون الوسطى إذا فشلت أدواتك وعملائك في تحقيق ذات النتيجة ..
يسمي هذا بـ "علاقات التبعية".
كما نعلم ،ورثت روسيا الدور السياسي لكنها لم ترث الدور الامبراطوري للأتحاد السوفيتي ، هذا الدور الامبراطوري كان مغلفا" بأسباب عقائدية لكنه كان يخفي في طياته مصالح حقيقية ومشروعة لهذه الامبراطورية "الاشتراكية" الأن تحولت روسيا من تغليف المصالح بشعارات عقائدية الي ممارسة دورها دفاعا" عن مصالحها بشكل صريح وبلا مواربة .
لاينكر الا جاهل أو جاحد أن روسيا مارست دور الصديق والحليف مع الشقيقة سوريه بكل شرف ونزاهة .. دور الحليف هذا لن يستمر الي الأبد طالما تحققت علي الأرض عدة نجاحات ونتائج وثمرة لهذا الحلف الاستراتيجي الذي ربط الدولتين - مع دول وقوي اقليمية وسياسية اخري - وجاء الوقت الذي تتحول فيه الحرب الي استعمال وسائل اخري غير السلاح الذي تم هزيمته علي الارض .
لاينكر الا جاحد أو جاهل أن المساهمة الروسية في هذه الحرب - مع أسباب أخري طبعا" أولها تضحيات الضباط والجنود والشعب العربي في سورية ذاته - كانت السبب الرئيس في صمود سورية ثم انتقالها الي مرحلة تحقيق انتصارات باهرة بدأت بتحرير حلب وتطهيرها من البؤر الارهابية ولن تنتهي الا بتطهير سورية كلها من رجس هذه الجماعات .وعندما تتغير قواعد اللعبة خارجيا - بفعل ثورة 30 يونيو ضد حكم الاخوان في مصرومحاولة الانقلاب علي اردوغان في تركيا وفوز دونالد ترامب في امريكا .
هنا يتوجب علي الحليف اذن ينتقل الان من مواقعه العسكرية الي مقعده في وسط الطاوله وسيطا" مقبولا" - من خصوم وأعداء طالموا وصفوه بالعدو وبأنه يمارس أحتلالا" عسكريا" - قبل أن يكون مقبولا" ومطلوبا" من سورية ذاتها ..
أيهما أفضل للعب دور الوساطة ؟؟
أمريكا التي ترتبط مصالحها مع الحفاظ علي بقاء العدو التاريخي للامة العربية "اسرائيل" والتي تحمي وجوده بمجموعة أنظمة غارقة في التبعية حتي النخاع مثل أنظمة الخليج وغيرها .أمريكا العدو الرسمي لأمتنا العربية أم أوروبا التي تمارس ذات الدور ولكنها تابعة للامريكان هل نقبلها كوسيط ؟؟
أم روسيا التي أرتبطت مصالحها ووجودها في الوطن العربي والشرق بوجودها في سورية التي ترتبط معها بمعاهدات وتحالفات ظهرت نتائجها علي أرض المعركة ذاتها بأعتراف العدو قبل الصديق .. روسيا هذه هل نرفضها كوسيط ؟؟
الوسيط في المفاوضات الدولية ليس سمسارا" عقاريا" ، فهو يمارس الوساطة وكلا الطرفين يعلم أن الوسيط قادرعلي حماية تنفيذ ما يتم الوصول اليه من نتائج للمفاوضات التي يشارك فيها بهذا الدور تكريسا" لعودته بقوة الي هذا المسرح توطئة لمصالح اقتصادية قادمة لاشك .. هذا الوسيط أيضا" يستطيع - عبر ممارسة قوته الحديدية والحريرية ان يدفع الاطراف الي قبول اتفاقات لم يكونا ليقبلا بها لولا علمهما بما تحت يد هذا الوسيط من اوراق للعب علي الارض .. هذا الوسيط مازال يمارس مع سورية دور الحليف لكنه في المفاوضات وعلي طاولتها من حقه طرح مسودات لمشروعات ومن حق الاطراف قبولها او رفضها او تعديلها .. وفقا لموازين القوي علي الارض .. هذا الحليف أخيرا" لم يقرر الانتقال الي كراسي المشاهدين او المراقبين وما المانع ان يصل به موقعه كوسيط الي قرار سريع بالعودة الي خندق انطلق منه مترددا وعاد اليه مسرعا واثقا ؟
ليس سرا" أن ما يعلن عنه في الحروب - والمفاوضات أحد أشكال الحرب كما نعلم - هو أقل بكثير جدا مما تخفيه أضابير العلاقات بين الدول . من حق الوسيط -بل من واجبه - أن يطرح مسودات مشروعات ويضع جدول أعمال ونقاط للمفاوضات ، ومن حق الأطراف - بل من واجبهم - القبول أو الرفض وفقا" لمعادلات وموازين القوي علي الأرض .
وكل ثقة في أن روسيا التي تتهيأ للعودة بقوة الي المسرح العالمي بالاشتراك مع قوي عالمية أخري كالصين واليابان ، هي الوسيط الأنسب بالنسبة لسورية - رغم هذا المشروع المرفوض من سورية ومن كل القوي القومية والتقدمية - وهذا الدور لن يخذل دور الحليف بكل تأكيد.
لاتسارعوا بأدانة صديق حليف قدم لنا الكثير والأجدي خوض حرب لفضح العدو الذي قدم للمرتزقة السلاح ولهؤلاء العملاء الذين قدموا لذات المرتزقة كل أنواع الدعم المالي .
تعلموا أن توجهوا سلاحكم ورصاصاتكم الي العدو الحقيقي في الوقت المناسب .