أكدت مجريات الأحداث الأخيرة أنه بعد مخاض عسير جداً تمت ولادة اتفاق أمريكي روسي معاق ومشوه في التاسع من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، تم توقيعه بين الوزيرين لافروف وكيري، ونتذكر بشكل دقيق كيف خرج الوزير لافروف وتحدث في أروقة الأمم المتحدة إلى الإعلاميين معتذراً على التأخير.
نعم هذا الاتفاق قبلته روسيا وقبلته الحكومة السورية بالرغم من التفاصيل التي أصرت عليها الولايات المتحدة، والتي جعلت منه إلى حد كبير مشوها لما فيه من محاولات فاضحة لحماية التنظيمات الإرهابية تحت ستار دعم المعارضة المعتدلة التي لم تشرح الولايات المتحدة، حتى اللحظة، مالذي تعنيه هذه الكلمة في القانون الدولي. وشوهته لأنها كانت تقصد التعدي على السيادة السورية واستقلال قرارها السياسي، والأكثر من ذلك انتهاك حق الشعب السوري، وقتله وتعذيبه وتجويعه وحصاره وتهميشه بالكامل وإعطاء الكلمة في المنابر الدولية لمجموعات معارضة لا تملك على الأرض أي وزن سوى وزن العتاد والسلاح الذي يمرر لأذرعها المسلحة على امتداد الجغرافيا السورية. كل هذا بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان وتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية للشعب السوري، وهنا يكمن السبب الرئيس في استماتة الولايات المتحدة أمام منع روسيا من نشر تفاصيل هذا الاتفاق مع أنهم، ونقصد هنا الأمريكان وبكل صفاقة نشروا أجزاء منه بما يخدم مصالحهم، وبعد عدد من الأحداث الميدانية غير المتوقعة من قبل أمريكا، وآخرها قصف الموقع العسكري السوري في دير الزور، وقصف ما يسمى بالمساعدات الإنسانية إلى حلب التي اشتعلت كالبارود عندما قصفتها طائرة أمريكية بدون طيار سعيا من الولايات المتحدة إلى أن تستر عورتها بعد ما استطاعت روسيا كشف كل ملابسات هذه الخديعة النكراء لتسليح الإرهابيين وإعادة انتشارهم تحت ظل الهدنة التي لم يلتزم بها أحد من مجموعاتهم الإرهابية، وتحت شعارات المساعدات الإنسانية الكاذبة قولاً وفعلاً. لنصل إلى المرحلة الأشد حزما والأكثر خطورة بعد نشر روسيا لنص الاتفاق المبرم بشأن سورية، وبعد خروج كل من الطرفين الروسي والأمريكي عن الأعراف التي تضبط العلاقات الدبلوماسية من خلال تصريحات نارية وفيها الكثير من الوقاحة من قبل موظفي الخارجية والإدارة الأمريكية، ما استدعى الرد بالمثل من قبل موظفي الخارجية الروسية ووصل الحد فيها إلى فضح الكثير من عيوب موظفي الإدارة الأمريكية بالدلائل والإثباتات القاطعة على انعدام الحس البشري أو الأخلاقي عند موظفي هذه الإدارة التي استخدمت كافة وسائل وأسباب التشهير بروسيا وبقيادتها بشكل معيب على دولة تعتبر نفسها تمثل التقدم والرقي والحضارة. ليأتي بعدها التسريب الذي حصل حول محادثات جرت، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، بين كيري ومجموعة من ممثلي المعارضات السورية، وكانت الفضيحة الأكبر عندما ظهر كيري يشكو من التحايل الروسي عليه، وأن دبلوماسيته ترفض قرارات أوباما وطريقة التعامل مع تطورات الأحداث، وكأنه يستجدي بعض المعارضين السوريين، فيقول فجأة بقصد أو بغير قصد، ولكن حالته يمكن أن تؤكد أنه خرج عن طوره من كهنه وغيظه، فقال لمن معه من السوريين أنه يجب أن يشارك الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية القادمة للعملية السياسية في سورية، فهل لأحد أن يتخيل لحظة الصمت الذي انفجر صمتاً بعد ماتفوه به كيري وهو في حالة من الهستيريا التي رافقته في الحفرة التي سجن بها إبان الحرب على فيتنام، وعرض من بعدها للمحاكمة جراء الوحشية التي كان يتعامل بها خلال تلك الفترة والتفنن في ذبح وقتل الفيتناميين، الذين لقنوه ولقنوا بلده درساً قاسياً، فلعلهم سيعتبرون من دروس اللعنة السورية التي سحقت خلال فترة ست سنوات من الحرب الإرهابية عليها عدد من الحكومات والكثير من الساسة الذين هربوا من هول خيبتهم وفضيحتهم في التآمر على سورية ظلماً وعدوانا، وعدهم لا داعي له هنا، فصورهم في مخيلة أبناء الشعب السوري الذي ذبح أبنائهم على يد هؤلاء. مع ذلك تبدو الخلافات الحادة القائمة بين روسيا والولايات المتحدة على طريقة التعامل مع الملف السوري وكأنها تسير نحو انعطافة جديدة، وقد يكون من شأنها تسعير الوضع في سورية أكثر مما هو عليه، وهذا يتضح تماما من حالة الهيستيريا التي تصيب الشخصيات الرسمية الدبلوماسية والسياسية الأمريكية عندما يتم طرح الملف السوري على الطاولة في أي محفل دولي. وما قد يزيد الوضع تعقيداً هو زيادة حدة الاتهامات بين موظفي الخارجيتين في البلدين، حيث ذهب نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إلى حد بعيد من الانتقاد للسياسية الأمريكية، فقد قال أن موسكو وواشنطن تمران في مرحلة خلاف حاد من حيث المفهوم حول سورية، وأكد في تصريحاته يوم 2016.10.03 لوكالة "نوفوستي" أن واشنطن لم تبلغ موسكو حتى الآن بتعليق التعاون معها بشأن سورية، لكنه انتقد بشكل حاد ممثلي الإدارة الأمريكية واصفاً تصرفاتهم بالهستيرية كلما فتح الملف السوري للنقاش واعتبر تصريحاتهم على أنها سياسة ابتزاز، وهجم بحدة على الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة سمانتا باور واصفاً إياها بشكل غير مباشر ومبطن ولكن مفهوم جداً لقاء وقاحتها في التعبير والتجريح وتوجيه الإهانات إلى روسيا وقياداتها باستهزاء، على أنها كالعاهرة التي تحاضر في العفة. رغم كل ذلك أتت القيادة الروسية على نفسها وصرحت غير مرة أنها مستعدة لمتابعة التعاون والحوار مع الولايات المتحدة لأجل إيجاد صيغة للتعامل مع التطورات الراهنة ، والحفاظ عل اتفاق التاسع من أيلول والاستمرار بتطبيقه، من جهة أخرى لم تعط روسيا المجال لأحد باستثمار تعقيدات المرحلة، فقطع الممثل الدائم لروسيا الاتحادية لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين الذي تسلمت بلاده رئاسة مجلس الأمن للشهر الحالي، الطريق على مشروع قرار تقدمت به فرنسا وإسبانيا بشأن فتح كوريدور إنساني لإنقاذ المحاصرين في حلب، وهذا ما قد يزيد حدة التوتر والتعقيدات كون هاتين الدولتين لايمكن أن تطرحا مثل هذا المشروع المشبوه بدون علم الولايات المتحدة كما من قبله المساعدات الإنسانية السابقة والتي كانت تنقل أسلحة ومعدات حربية للمسلحين والمجموعات الإرهابية في حلب، وشهد العالم كيف تفجرت واحترقت على مبدأ "طير وفرقع يابوشار" فكيف لها أن تحتوي على غذاء من المفروض أن يشتعل وينفجر بلطف في الأمعاء وليس كالبارود في الشاحنات. وعلى المنقلب الآخر يستمر الجيش العربي السوري في التقدم على جبهة حلب ويدعو المسلحين للإنسحاب من شرقها مقابل ضمانات، دون أن يكترث لمايجري على الساحة الدولية من كباش سياسي بشأن سورية، وهذا هو أحد أهم أسباب الهستيريا التي تصيب الولايات المتحدة وحلفائها جراء الانتصارات التي يحققها الجيش السوري وحلفائه على المجموعات الإرهابية التي تعد الأمل الأخير للولايات المتحدة للمناورة مع روسيا في حال حققت أي تقدم أو انتصار بات شبه مستحيل على الأرض، رغم أن أردوغان وجيشه يسرحون ويمرحون في بعض أجزاء الشمال السوري وهم لايدرون أي منقلب سينقلبون، لذلك لن نضيع الوقت بالحديث عن هذه الجزئية اليوم. خلاصة القول لم تكن الولايات المتحدة محشورة في الزاوية في تاريخها الدموي الذي تتقدمه العنجهية والغطرسة كما هو عليه حالها الآن ، الحكمة في هذه المرحلة تتلخص في أن تعقد الآمال على استمرار صمود الشعب السوري في ظل الانتصارات والتقدم الكبير الذي يحققه الجيش العربي السوري وحلفائه على كافة مساحة الجغرافيا السورية في مواجهة الأذرع الإرهابية التابعة المسلحة للولايات المتحدة وحلفائها، وأيضا على قدرة السياسية الخارجية الروسية على المناورة، في ظل هذه التعقيدات والتشابكات والاستفزازات الخسيسة، التي حاكتها الولايات المتحدة في محاولة منها لجر القيادة الروسية إلى الوقوع في المحرّم ولشدها على عنق روسيا التي تسعى بكل قواها لتحقيق الأمن والاستقرار في سورية والمنطقة بعد دحر الإرهاب إلى غير رجعة، أو إعادته إلى مواطنه وبلدانه التي ترتعب حكوماتها منه ومن عودته إلى شوارعها، وهذا جزء كبير من الابتزاز الأمريكي لحكومات هذه الدول، وهنا يبقى الأمل الأخير على الرئيس فلاديمير بوتين وحكمته في مساعدة الإدارة الأمريكية والرئيس أوباما بالذات، الحاصل زوراً وبهتانا على جائزة نوبل للسلام، في إيجاد مخرج من الحفرة التي وقعوا فيها بشر أعمالهم بما يكفي ماء الوجه في خروج آمن لدولة ضحكت على العالم بأنها عظمى، ليذهب بعدها بحكم الواقع عالم القطب الواحد إلى غير رجعة، وهذا ما يقض مضجع الإدارة الأمريكية ويجعلها تتخبط كالديك الرومي المذبوح في عيد الفغران على غير العادة. المصدر: وكالة “سبوتنيك” الروسية |