عندما أعلنت السلطة الفلسطينية نيتها التوجه إلى المحافل الدولية لا سيما الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، هدفت إلى الضغط على "إسرائيل" والولايات المتحدة لتسريع عملية المفاوضات والوصول قانونياً للدولة الفلسطينية، وبالتالي ليس واقعياً أو تعاقدياً كما رغبت واشنطن ربط السلطة بالمفاوضات وبنتائجها غير المعروفة سلفاً.
فالحراك الفلسطيني نحو المحكمة يثير العديد من الأسئلة حول الاستفادة والضرر من الخطوة، والذي بدوره يثير أسئلة مركزية عدة حول استيفاء السلطة الفلسطينية لشروط الانضمام إلى المحكمة، وهو أمر تدعي واشنطن عدم اكتمال شروطه، وكذلك ما فاعلية الإجراءات التي يمكن أن تتخذها المحكمة تجاه "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، وما المخاطر التي تواجه عمل المحكمة ؟
أولاً: شروط الانضمام إلى المحكمة يُعد نظام المحكمة اتفاقاً متعدد الأطراف بين الدول، والمعروف، فإن الدولة بموجب القانون الدولي العام، تتكون من الشعب والإقليم والسلطة، وهذه الشروط ليست متوافرة بالمعنى المطلق للسلطة الفلسطينية، لجهة الإقليم الذي لم تحدد حدوده المرتبط أساساً بالمفاوضات مع "إسرائيل" . ورغم ذلك فقد حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على اعتراف أكثر من مئة دولة، كما رحبت الجمعية العامة بإعلان المجلس الوطني الفلسطيني بتاريخ 15-11-1988 قيام الدولة الفلسطينية.
وفي العام 2012 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قبول الدولة الفلسطينية كدولة غير عضو في الأمم المتحدة بصفة مراقب، الأمر الذي حفّز المزيد من الدول الغربية على الاعتراف بها، وكان آخرها فرنسا . وفي أي حال، فقد وافق الأمين العام للأمم المتحدة على قبول طلب فلسطين الانضمام إلى نظام المحكمة، وهو أمر إجرائي تخطته السلطة الفلسطينية، وبات بإمكانها الاستفادة من مزايا الانضمام بدءاً من الأول من إبريل/ نيسان المقبل 2015 .
ثانياً: اختصاصات المحكمة والاستفادة الفلسطينية يحدد نظام المحكمة نطاق الاختصاص الزمني، والإقليمي والشخصي، والموضوعي . فقد نصت المادة (11) الفقرة ( 1) على أنه : "ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي" . ما يعني أن المحكمة تختص بالنظر في الجرائم التي ترتكب بعد دخول نظامها الأساسي حيز التنفيذ، أي أنه لا اختصاص للمحكمة على الجرائم التي وقعت قبل بدء النظام الأساسي . فالنظام الأساسي للمحكمة أخذ بالقاعدة العامة المطبقة في جميع الأنظمة القانونية في العالم والتي تقضي بعدم جواز تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعي.
وكذلك الحال بالنسبة للدول التي تصبح طرفاً في النظام الأساسي بعد نفاذه، فلا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ النظام بالنسبة لتلك الدولة . وبالتالي يمكن القول: إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو اختصاص مستقبلي فقط.
ويرتكز الاختصاص الإقليمي على مبدأ راسخ في القوانين الداخلية والدولية المتعلق بسيادة الدولة على أراضيها . ويقف الاختصاص الإقليمي مستقلاً أمام الاختصاص الشخصي، لتكون المحكمة الصالحة للنظر في قضايا جرائم المادة 5 عند وقوعها في إقليم إحدى الدول الأطراف، سواء أكان المعتدي تابعاً للدولة الطرف أم لدولة ثالثة، مع فارق جوهري عند وجود المتهم في دولة ثالثة، إذ إن هذه الأخيرة غير ملزمة بالتعاون مع دولة الإقليم، إلا بتوافر دولي كاتفاقيات التسليم أو المعاهدات المتعددة الأطراف.
أما الاختصاص الشخصي فمرده المسؤولية الجنائية للفرد التي لا تؤثر في مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي، وهذا ما قررته الفقرة (4) من المادة الخامسة، بنصها على: "لا يؤثر أي حكم في هذا النظام الأساسي يتعلق بالمسؤولية الجنائية الفردية في مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي" . فالدولة تبقى مسؤولة عن الضرر الذي يلحق بالآخرين نتيجة لأعمالها غير المشروعة، وتلتزم الدولة بالتعويض عن هذا الضرر على النحو المقرر في أحكام المسؤولية الدولية . وبحسب المادة (27 ) والمادة (28)، يمكن ملاحقة فئتين من الأشخاص: رؤساء الدول وأصحاب المناصب العليا، والقادة والرؤساء العسكريون المسؤولون عن أعمال مرؤوسيهم.
فوفقاً للمادة (27) فإن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون من دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية . فالشخص سواء أكان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، مسؤول عن جريمته، وصفته الرسمية لا تعفيه بأي حال من المسؤولية الجنائية، كما أن هذه الصفة لا تكون سبباً في تخفيف العقوبة عن الجرائم التي يكون قد ارتكبها في أثناء وجوده في منصبه . ووفقاً للمادة (28 فقرة أ) اعتبرت القائد العسكري أو من يقوم مقامه يكونان مسؤولين مسؤولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، والمرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين، في حال توافر شرطين :أن يعلم القائد أن قواته ترتكب أو توشك أن ترتكب إحدى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة . أو إذا لم يتخذ القائد العسكري جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع هذه الجرائم أو قمعها أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة.
أما الاختصاص الموضوعي وهي الأخطر والذي اختصرته المادة الخامسة بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانة، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان . وقد عرفت المادة السادسة جريمة الإبادة الجماعية أي فعل من الأفعال يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً.
أما المادة (7) فعرفت الجرائم ضد الإنسانية عبر تعداد الأفعال التي تشكل في حالة ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين عن علم بهذا الهجوم وهي :القتل العمد والاسترقاق والتعذيب والإبادة وإبعاد السكان أو النقل القسري والإخفاء القسري للأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم ورفض إعطاء معلومات عن مصيرهم.
أما جرائم الحرب، فنصت عليها المادة 8 وهي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس / آب 1949 . أما جريمة العدوان: فلم ينجح مؤتمر روما في تعريف لها.
فيما عرفها القانون الدولي وحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14-12-1974 فهو: "استعمال دولة ما، القوة المسلحة ضد دولة أخرى ضد السيادة وسلامة الأرض والحرية السياسية أو بأية طريقة أخرى" . أما ممارسة الاختصاص فتتم عبر مرجعيات حددها النظام، فوفقاً للمادة 14 لكل دولة طرف في الاتفاقية أن تحيل للمدعي العام إذا ما كان هناك أي جريمة دولية للنظر فيها، كما يجوز لدولة غير طرف أن تتقدم بذلك شرط إعلانها خطياً القبول باختصاص المحكمة . كما يمكن لمجلس الأمن إحالة القضية للمدعي العام لمباشرة التحقيق وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
كما للمدعي العام وفقاً للمادة 15 المباشرة عفواً بالتحقيق إذا توفرت لديه معلومات عن الجرائم المرتكبة،إن عبر دولة طرف أو غير طرف في الاتفاقية، علماً أن التحقيق مرتبط بموافقة الغرفة الابتدائية. ووفقاً لهذه الصلاحيات يمكن للسلطة الفلسطينية الاستفادة منها عملياً بمواجهة "إسرائيل" إلا أن ذلك دونه عقبات كثيرة .
ثالثاً: عقبات التحقيق والتنفيذ التي ستواجه السلطة الفلسطينية إذا سلمنا جدلاً بأن المحكمة ستسلك في قضية ما تقدمها السلطة الفلسطينية، فما الاحتمالات؟ لعلَّ الثُغر الأساسية في المحاكم الدولية ومنها المحكمة الجنائية الدولية، صعوبة تنفيذ أحكامها. إضافة إلى ذلك العقبة "الإسرائيلية" التي ستواجهها السلطة الفلسطينية بطبيعة الأمر . وهنا لا سبيل أمام المحكمة إلا اللجوء إلى مجلس الأمن لمباشرة التحقيق وتنفيذ الأحكام . وقد لجأت المحكمة في مناسبات عدة إلى ذلك كقضية درافور، وقضية الرئيس السوداني الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف، وكذلك سيف الإسلام في ليبيا.
وإذا كان هدف السلطة الفلسطينية الاكتفاء بالإدانة السياسية إذا تعذرت القضائية، فأيضاً دونها عقبات معروفة وبخاصة من الولايات المتحدة. علاوة على ذلك وبموجب المادة 16 يجوز لمجلس الأمن إيقاف التحقيق أو تنفيذ الحكم لمدة 12 شهراً، وتمديد ذلك أيضاً بنفس الشروط وفقاً للفصل السابع من الميثاق.
وبالمقارنة هنا لا يستطيع مجلس الأمن مثلاً إيقاف أو تعطيل قرار محكمة العدل الدولية بشأن أي قضية وفقاً للمادة 94 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فيما يستطيع ذلك وفقاً لنظام المحكمة الجنائية . كما أن نظام المحكمة يتيح التملص من المثول أمامها، عن طريق المحاكمة الوطنية أي أمام المحاكم "الإسرائيلية" وقد لجأت إليها "إسرائيل" في معرض تقرير غولدستون عام 2009 . أو عن طريق اللجوء للمادتين 17 و18 حول الموافقة على الدعوة بداية وموافقة الهيئة التمهيدية .
رابعاً: مخاطر الانضمام ومحاذيره إن قبول السلطة الفلسطينية بنظام المحكمة الجنائية يحتم عليها موجبات والتزامات . فإذا كان من الفوائد التي يمكن أن تجنيها السلطة الفلسطينية من إمكانية رفع الدعاوى بعد الحصول على الاعتراف بها كدولة، فينبغي عليها التدقيق والتبصر في حالات ستحاول "إسرائيل" جرها إليها ومن بينها، التوصيف القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة التي تبقى ضمن حماية اتفاقيات جنيف الأربعة ،1949 وقد فرضت "إسرائيل" بعد اتفاق أوسلو 1993 منحى "الأراضي المتنازع عليها" وبالتالي إخضاعها للمفاوضات الثنائية، وبالتالي عدم اعتبارها مسألة قانونية، وهذا ما يجب على السلطة تجنبه أو أخذه بعين الاعتبار، إضافة إلى مسائل أخرى من بينها، محاولة "إسرائيل" المطالبة بمحاكمة بعض الفلسطينيين أمام المحكمة بالاستناد إلى التوصيف الأمريكي وبعض الغربي بأن "حركة حماس" منظمة إرهابية، وذلك على السلطة تسليم المتهمين وفقاً للمادة 95 . إضافة إلى إمكانية سعي "إسرائيل" بدعم من الولايات المتحدة على استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف التحقيق أو التنفيذ وهو أمر معتاد في ظل المساومات في مجلس الأمن وطبيعة الضوابط التي تتحكم بقراراته . وكذلك رفض "إسرائيل" الاستجابة للمحكمة وعدم تسليم المتهمين، وفي هذه الحالة ما على المحكمة إلا الاستعانة بمجلس الأمن وهنا الفيتو الأمريكي جاهز للاستعمال كالعادة . خلاصة القول، إن ثمة محاذير على السلطة الفلسطينية التبصر فيها، وينبغي عليها التشبث بالحقوق القانونية التي اكتسبتها سابقاً ومنها، الإبقاء على توصيف "الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وبالتالي محاسبة "إسرائيل" على جرائمها وفقاً لاتفاقيات جنيف، لا سيما الرابعة منها وبخاصة المواد 7 و147 و148. والتمسك بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية العام 2004 حول الجدار العازل، وأهميته لجهة توصيف الأراضي المحتلة . والعمل على الانضمام للمنظمات الدولية المتخصصة، وتحفيز الدول للاعتراف بالدولة الفلسطينية بعدما تخطى عدد المعترفين بها المئة دولة . كلمة أخيرة ينبغي قولها، أن ليس ثمة سابقة دولية، إن تمكنت محكمة دولية أو مختلطة أو خاصة من الوصول إلى نهايات وردية بالنسبة لأصحابها.