رسم البريطانيون والفرنسيون خرائط تقاسم المنطقة العربية في معاهدة سايكس بيكو 1916. وقد تولوا بأنفسهم لاحقاً رسم الحدود التفصيلية بين الكيانات التي صارت من نصيب كلٍّ منهما.. لذا نجد أنّ القول الفصل في "مؤتمر العقير" 1922 هو في المحصّلة للسِر برسي كوكس ممثل الحكومة البريطانية في الخليج العربي وقتها. لقد خط حدود كيانات الاقليم بالقلم الأحمر على اللون الأصفر الذي يمثل رمال صحراء العرب وأمصارها، بما فيها المناطق الحدودية بين العراق والسعودية، وبين الكويت والسعودية، بحضور ممثلين عن سلطنة نجد والمملكة العراقية وإمارة الكويت.
صراعات المنشأ بين العراق والسعودية
قامت المملكة العراقية عام 1921، حين نُصِّب الأمير فيصل الأول ملكاً على العراق بعدما طرده الفرنسيون من دمشق. وقتها كانت سلطنة نجد هي ما يحدّ العراق من جهة شبه الجزيرة العربية، وهي بطور التمدد والتوسع، فكان عبد العزيز آل سعود يطالب ضمناً بوضع أراضي قبيلة شمّر العراقية تحت حكمه كونهم بالأصل امتدادا لشمر حائل أيام إمارة آل الرشيد التي أسقطها آل سعود.. أو إعادتهم إلى داخل حدود سلطنته، وهذا ما كان يصعب تحقيقه عملياً. وقبل ذلك كانت غارات "إخوان الجهاد" على حواضر العراق وقبائله لا تنقطع، فالإخوان لا يعترفون بالحدود في غزواتهم لنشر سلطانهم وتعاليمهم بحد السيف، وكانوا لا يخفون عدم طاعتهم للتهدئة، برغم تحذيرات عبد العزيز على اعتبار أنّ للضرورة والدولة أحكاماً قد لا تتفق مع أحكام الجهاد والهجرة، خاصة وأن المنطقة بمجملها تحت حماية ووصاية البريطانيين الذين لا يمقتون شيئا أكثر من التمرّد على خطوطهم الحمر. وكان عبد العزيز استخدم طاقة الإخوان في احتلال الحجاز وطرد الشريف حسين منها وضمها إلى سلطانه، وبعدها استثمرهم في حرب اليمن ضد الأدارسة والإمامة واحتل نجران وجيزان، وبعدها أراد تقليم أظفارهم حتى لا يثيروا عليه، بأفعالهم المشينة، غضب القبائل التي يغزوها، والأهم، لا يثيروا غضب البريطانيين، الحكام الفعليين لكل كيانات الخليج من العراق إلى عُمان، وبالتالي لا يتطاولوا عليه وهو الذاهب للتتويج ملكاً لبلاد مترامية، ولمملكة من صميم وظائفها توفير الأمان لأهلها ولكل حجاج ومعتمري الحرمين الشريفين. فكانت معركة "السبلة" التي انهزم فيها إخوان الجهاد أمام الحلف القبلي المشايخي السعودي عام 1929. وقتها كان ما يزال العداء الهاشمي السعودي على أشدّه، بسبب استحواذ آل سعود على الحجاز دار أشراف بني هاشم، وبسبب توجّس آل سعود من حكم الهاشميين لدولتين مجاورتين هما العراق بمليكها فيصل بن الحسين شريف مكة المنفي منها نتيجة سياسة الابتلاع السعودي، والأردن بمليكها عبد لله بن الحسين.. وأيضاً بسبب الدور القيادي والطاغي لنوري السعيد، وهو كان أحد رواد الثورة العربية الكبرى وأحد النافرين من آل سعود، والعون المخلص للشريف حسين بعد أن ضاق ذرعا بالعثمانيين. وكان من أشد معاوني الملك فيصل في سوريا وثم العراق الذي صار داره المأمون، فهو المهندس الفعلي للسياسة العراقية المتماهية مع الهيمنة البريطانية منذ عام 1921 وحتى يوم 14 تموز/ يوليو 1958، حين قيام الجمهورية العراقية، بانقلاب عسكري مشهود غيّر وثوّر الدولة والمجتمع، وفتح الأبواب على مصراعيها لتحوّلات دراماتيكية ومفارقات، أكثرها محزن وأقلها سعيد
.. وهذا التشخيص لا يلغي النمط السعودي في تفاعله مع المتغيرات، والذي اختار أن تكون أميركا بمثابة راعية ووصية وقدوة له ("تفاهمات" عبد العزيز مع روزفلت 1945، على ظهر المدمّرة الأميركية كوينسي)، بمثل ما كانت بريطانيا بالنسبة لنوري السعيد. هذا الأخير كان يعرف قدر جيرانه فكان يصغّرهم لانعزالهم وتحاسدهم، ويكبر في نفسه ولو استطاع لجعل من بغداد عاصمة الأمة من جديد، بالدعوة للهلال الخصيب من الكويت إلى العقبة أولاً، وبالاتحاد العربي ثانياً. وعندما ضاق الخناق راح يداعب الرؤيا بما تيسّر له من الخطوات، فكان الاتحاد الهاشمي وحلف بغداد
الجمجمة والعقال
جمجمة بلا عقال وعقال بلا جمجمة. هذا هو حال العراق والسعودية طيلة فترة النشأة، وطيلة اللاحق من الفترات. فعندما يكون العقال تشديد وتقييد وتلثيم للجمجمة، ينزعه العراق عنه ليجعلها حرة وثّابة في سبيل أفق أكثر اتساعاً وكثافة. فكان "ناكراً للذات"، يقبل بالهاشميين ملوكاً عليه لأنهم أرادوا دولة عربية كبرى تنفض عن نفسها غبار التتريك. وكان يدعو إلى اللُحمة، فيقول بضم إمارات الساحل المتصالح إلى السعودية، وضم الكويت له، حتى يُبطِل مفعول الحراك الإيراني الطامع بتفريس الخليج كله، منكراً عليه عروبته، مطالباً بضم البحرين وما حولها من جزر له.
ولم تكن الوهابية كراية، صالحة فكراً وممارسة لجذب محيطها والتماهي مع تطلعات جيرانها. العكس هو الصحيح: كانت نافرة بعسرها وقساوتها وقسريتها في مكان وزمان لا يحتملان المزيد من النفرة والقسر، فكانت متصادمة وقطّاعة طرق، تفتك بمن يضعف أمامها. ذهب الهاشميون ضحية كما ذهب من قبلهم آل الرشيد. ولولا الصدّ البريطاني الطامع بالتفرد بالإقليم جملة وتفصيلاً وبالقطعة، ليسهل ترويضه كله، لكان آل سعود قطعوا أوصال آل الصباح وآل ثاني وآل نهيان وحتى آل بو سعيدي في عُمان.
كان الطبيب العراقي عبد الله الدملوجي بمثابة وزير خارجية للسلطان عبد العزيز آل سعود، وكان مبعوثه الشخصي عندما كان بحاجة لتكوين جهاز حكومي وليس قبليا. وقد حاول استمالة واستقدام الكفاءات العراقية ليكونوا رافعة لدولته، كما فعل الكثير منهم مع الملك فيصل، كنوري السعيد وجعفر العسكري وحكمت سليمان وناجي السويدي وابراهيم الراوي وغيرهم.. لكن افتقار السلطان ثم الملك عبد العزيز للرؤية المتفتحة عروبياً وإسلامياً، جعل الأمر مستحيلاً، بالرغم من كون النظام الملكي في العراق لا يناقض النظام الملكي السعودي من ناحية الدوران في فلك الدول الغربية الاستعمارية.. فكان نوري السعيد متفهماً لسياسة "سدّ الفراغ" الأمريكية، وتحمّس لقيام حلف بغداد 1955.
بعد قيام الجمهورية في العراق، كان الموقف السعودي متأرجحاً بين سعادته غير المعلنة لاختفاء الحكم الهاشمي من العراق بسبب العداوات الأسرية القديمة، وأيضاً لتقزّم الحكم الهاشمي في الأردن، وهذا ما يفسر عدم الاستجابة السعودية لتزويد الاردن بالوقود بعد انقطاعه من العراق، وكيف أنّ الأمريكان قاموا بالمهمة ومن نفط الظهران تحديداً دون موافقة السعودية.. وبين حزنه وخشيته من انتشار عدوى الثورة إلى كيانات الخليج. وهو سرعان ما اغتبط بعد اشتعال الأزمة بين حكومتي قاسم وعبد الناصر، بسبب طرح قاسم موضوع المطالبة بالكويت بعد استقلالها عن بريطانيا 1961.
الأقربون أولى.. بالخوف
قبل الحرب العراقية ــ الإيرانية، كانت صورة صدام حسين في عيون ملوك وأمراء آل سعود هي لرجل طموح مقلق. كان صدام في السبعينات يريد طمأنة السعودية سعياً منه لاحتواء مخاوفها، فهو يدرك أن نهجه بالتقارب مع الاتحاد السوفياتي والشيوعيين في الداخل ومعاداته الصريحة لأمريكا وبريطانيا (بتمييز لها عن فرنسا التي كان صدام صديقا حميماً لرئيسها شيراك)، يجعلها تتوجس منه، حتى أنه قال في إحدى خطبه لو أنّ السوفيات احتلوا شبراً من السعودية فإن العراق سيكون أول من يقاتلهم، وهو يعني أن اتفاقية التعاون الاستراتيجي والعسكري مع الروس ليست ضدهم. وكانت مواقف صدام الصريحة ضدّ التمدد الإيراني في الخليج واضحة، فالعراق كان يحرض دول الخليج للتصدي لهذا التمدد، خاصة بعد احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث 1971. وكان الاهتمام السعودي الملفت بزيارة صدام الرسمية للمملكة عام 1975، وهو ما يزال نائبا للرئيس، دليلا على تهيّب السعودية، وكان حينها الملك فهد ولياً للعهد، وكان يحار في طرق إظهار الود. وقيل حينها أن وزارة الدفاع السعودية وزّعت عشرات الآلاف من صور صدام للعامة ليرفعوها عند مرور موكبه. أيامها كان لحزب البعث فرع سعودي، وكان النظام العراقي بنهجه اليساري المعلَن، يستقطب بعض المعارضين السعوديين، ومنهم خبير النفط والروائي السعودي الفذ عبد الرحمن منيف الذي عمل كمستشار في مكتب الشؤون الاقتصادية التابع لمجلس قيادة الثورة، وقد استقال من وظيفته لإدراكه بأنّ أوضاع العراق ستتغير وسيكون صدام أكثر قرباً من السعودية وأكثر تفرداً بالحكم.
بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران 1979، ومن ثم اندلاع الحرب بين البلدين 1980، تغيّر الوضع. فصدام صار الحاكم بأمره في العراق، ولاحقاً أصبح فهد ملكاً، والاثنان في خندق واحد، كما يجد ذلك صدام على أقل تقدير، لأنه يرى بـ "تصدير الثورة الإيرانية" شمول كل دول الخليج والمشرق العربي برياحها. ومن هذا الباب ازداد التعاون الخليجي ـ العراقي، وخصوصاً السعودي ـ العراقي، وجرى دعم العراق مادياً ومعنوياً، بالقروض تارة وبالدعم اللوجستي تارة اخرى. وكان العراق يقول حينها بأنّه يقاتل نيابة عن الأمّة العربية وأن العراق هو حارس البوابة الشرقية لكل العرب.
بعد انتهاء الحرب 1988 وخروج العراق مثخناً بالجراح على الرغم من تظاهره بالانتصار، وبأن إيران تجرعت كأس السمّ، عادت الخشية وأجواء الخوف والهواجس المدعومة بتسريبات أمريكية، وتحريضات لعدم مطاوعة صدام ومساعدته على تجاوز أزمته الاقتصادية وعلى جدولة ديونه، بحجة مجهوليّة نواياه، وأنّه يشكل تهديداً للسعودية ودول الخليج. ومع الانخفاض المريع لأسعار النفط (5 دولارات للبرميل)، ومع تعمّد دول الخليج اتباع سياسة إغراق السوق، ازدادت حدة التوترات بين العراق والسعودية والكويت. وقبلها نجح صدام في استثارة مخاوف الكويت والسعودية، وبالتالي إمكانية استجابتهم لطلباته المحددة بالدعم المالي واللوجستي المتعلق بإعارة العراق جزيرتي وربة وبوبيان، وربما تبنّي المشروع النووي الذي سيشكّل سلاح ردع بوجه التجاوزات الإيرانية أو الإسرائيلية. لذلك كان انبثاق "مجلس التعاون العربي" المكون من العراق ومصر والأردن واليمن ومنظمة التحرير 1989 ، وايضا انبثاق الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990 ، حيث كان لثقل العراق وزخمه دور قيادي في تلك المجريات، مما يعني أن الكويت والسعودية كان يمكن أن يتساوما مع صدام لولا الدفع الامريكي باتجاه التصلب بل والمطالبة باسترداد القروض. ثم حدث ما حدث بعد ذلك، من عملية احتلال الكويت في 20 آب / أغسطس 1990، ثم حرب الخليج الثانية التي استنزفت كل دول الخليج وعرضت مدخراتها للخواء، وكان المستفيد الأول والأخير هم أصحاب نظرية الحروب مزدوجة الأهداف والنتائج، والحروب بالوكالة، أمريكا وإسرائيل، أما الخاسر الأكبر فشعوب المنطقة وفي مقدمتهم الشعب العراقي. مرّت حرب الخليج الثانية وحوصِر العراق لأكثر من عقد من الزمن، ومع ذلك بقي متماسكاً بوجه المخاطر.. لكن قصر نظر قادة الخليج وتحديداً آل سعود، جعلهم يعضّون أصابع الندم عندما جندوا أرضهم وأموالهم وسلاحهم تحت قيادة امريكا ومن حالفها لاحتلال العراق وتحطيم دولته.
انقلاب السحر على الساحر
فتحت السعودية والكويت أرضها وسماءها وبحرها لجيوش الغزاة لاحتلال بلد عربي مسلم. احتلال وتدمير جمجمة العرب خدمة لأعدائهم.. احتُلّ العراق عام 2003، وقتل مئات الألوف من شعبه وتهجر وتعوق وترمل وتيتم الملايين من أهله، ودمرت ثرواته وبنيته التحتية.. وظهر زيف شعارات وادعاءات آل سعود جلية للسعوديين قبل غيرهم وتحولوا بنظرهم إلى شياطين. فظهر التطرف بأبشع صوره كردّ فعل بالضد من حكم آل سعود، بل وبالضد من كل المتواطئين معهم، وصار اليأس العنيف عبثياً، لا يدين بشيء، نقمة عمياء. وبعد أن فعل الأمريكان وجحافل حلفائهم ما فعلوا بالعراق، وبعد أن صارت إيران تتقاسم الهيمنة عليه، يصرخ عادل جبير وثامر السبهان كما صرخ من قبلهم وزير الخارجية سعود الفيصل قائلا: لماذا تهدي أمريكا العراق إلى إيران على طبق من ذهب؟
هل يصرخون فعلاً خوفاً على العراق وشعبه من أطماع المحتلين، أم خشية على أنفسهم. لقد وصل الأمر إلى بناء سور مزدوج على طول الحدود العراقية ـ السعودية. ورغم ذلك، فإن قذيفة هاون واحدة يطلقها أحدهم على مخفر سعودي حدودي يجعلهم يترحّمون على صدام، وبمجرد رشقة واحدة بالصواريخ تجعلهم يلعنون الساعة التي جعلتهم أسرى.. على الرغم مما بذلوا وسفحوا من المليارات.
جمال تقي - باحث من العراق، مختصّ بشؤون الخليج العربي