صفات عديدة يعطيها العروبيون للعروبة، بعضهم يطلق عليها "العروبة الحضارية" لاتصالها بالموروث الحضاري العميق للأمّة، والبعض الآخر "العروبة النهضوية" لارتباطها بالمشروع النهضوي للأمّة، والبعض الثالث يصفها "بالعروبة المؤمنة" تأكيداً على البعد الروحي للهوية القومية، والبعض الرابع يطلق عليها "العروبة الجامعة" في مواجهة الهويات المتناحرة، بعضنا يصفها "بالعروبة الديمقراطية" او "العروبة التقدمية" لابراز المضمون الديمقراطي للعروبة بعد ان ساد انطباع بانها مرادفة للاستبداد،ّ او ربطها بروح العصر بعد أن ظن البعض إنها مجرد حنين لزمن غابر.
بدون شك ، كل هذه الأوصاف صحيحة ودقيقة لكنني اريد اضافة وصف جديد للعروبة نطل من خلاله على كل وصف اخر لها وهو "العروبة الحوارية".
ففي أمّة متنوعة الأديان والمذاهب والأعراق، ومتعددة التيارات والأفكار والجماعات، لا يمكن لأي هوية أن تكون جامعة إلاّ إذا قامت على الحوار بين مكونات الأمّة، ولا يمكن أن تكون حضارية إلاّ إذا ارتكزت إلى حوار يحقق التراكم بين المراحل الحضارية التي مرّت بها الأمّة، والتي تعتزّ بأنها وريثتها جميعاً منذ أقدم العصور، ولا تكون "العروبة مؤمنة" إلاّ إذا كانت تفاعلا حواريا بين مشكلات الأرض وقيم السماء، لاسيّما في أرضنا العربية حيث نزلت رسالات السماء، ولا تكون "العروبة نهضوية" إلاّ إذا كانت متصلة بأُس نهضة الأمم والشعوب وهو الحرية ورأس الحرية الحوار...ولا تكون "العروبة ديمقراطية" اذا لم تنطلق من فكرة الحوار، ولا تكون "عروبة تقدمية" اذا لم تتصل بلغة العصر أي الحوار.
وحين نؤكّد مع البعض على أن العروبة هي هوية ثقافية "لكي نحصنها من هوس العرق والدم، ونجنبها مزالق العنصرية ومهاوي الفاشية، فإنما لنؤكّد على تلازم عميق بين الثقافة والحوار، فالأولى تتألق بالحوار، فيما الحوار يزدهر بالثقافة...
وبهذا المعنى لا يمكن "للعروبة الحوارية" أن تستقيم مع الإقصاء أو الإلغاء أو الاجتثاث أو بالطبع مع الاستبداد والغلو والتطرف والتوحش ولا مع الاحتراب الأهلي والحروب البينية بين ابناء الامة الواحدة، والذي يأخذ حيناً شكل "التخوين" باسم الوطنية، وحيناً آخر شكل "التكفير" باسم الدين.
أن "العروبة الحوارية" هي النقيض لكل نزعة إلغاء أو إقصاء او نحر باسم الدين، أو المذهب، أو الإيديولوجيا، أو حتى القومية إذا أخذت منحى عنصرياً.
بل بهذا المعنى لا تكتمل عروبة العربي، كفكرة تكامل وحدوي، وكهوية تنطوي على مشروع نهوض، إذا لم يكن العروبي حوارياً، أي قابلاً بوجود رأي آخر أو معتقد آخر، أو رؤية أخرى وقادراً على الحوار والتفاعل والتكامل معها...
وليس عروبياً، حسب هذا الوصف للعروبة، من لا يرى في غيره إلا السلبيات، ويتعامى عما فيه من إيجابيات، بل ان كثيرا من المصائب حلّت بعروبيين وغير عروبيين، أحزاباً وجماعات وأنظمة، حين وقعوا في أسر نهج التفرد بديلاً عن التشاور، وفي عقلية إلغاء الآخر بدلاً من منطق التكامل معه، فاحتدمت الصراعات البينية، واشتعلت الجبهات الداخلية، وتمزقت المجتمعات الوطنية...
وإذا كان متوقعاً من غير العروبيين أن يسقط في فخ التفرد وإلغاء الآخر، فليس مسموحاً لحملة راية العروبة الجامعة أن يسقطوا من حسابهم أي فئة أو جماعة مهما كانت بعيدة عن العروبة ورافضة للانتماء العربي بمعناه الواسع... فالعروبي مسوؤل عن كل أبناء الوطن العربي الكبير حتى ولو رفضوا العروبة كهوية لهم، فلا اكراه في الهوية كما لا اكراه في الدين. بل ان العروبة الحوارية هي عروبة الانسان والإنسانية منطلقها الانسان وغايتها المساهمة في الحضارة الانسانية.
الحوار هنا ليس وسيلة للتخاطب مع الاخر فحسب، بل هو بالنسبة لنا كعرب مسألة تصب في جوهر تماسكنا المجتمعي، بل في صميم هويتنا العربية الجامعة...
قد يبدو هذا الكلام مثالياً وطوباوياً، لكن كل بديل آخر عن الحوار قاد ويقود إلى حال من المأساوية والكارثية، بل الى الاحتراب الذي لا نهاية له...
الحوار، حتى ولو لم يؤدِ إلى نتيجة، هو أفضل من اللاحوار، لأنك في الحالة الأولى، اي الحوار، تحافظ على الواقع الراهن في أسوأ الاحوال، فيما تذهب في الحالة الثانية إلى ما يشبه الجحيم...
في ظلّ "العروبة الحوارية" تجد نفسك في حوار مع كل صاحب رأي آخر أو عقيدة أخرى أو مذهب آخر، بينما في غياب الحوار تجد نفسك في حروب مستمرة حتى مع أقرب الناس إليك...
الحوار سبيل المجتمعات إلى الوحدة، وهو طريقها إلى الحرية، وبه ترسم الأمم دروبها إلى المشاركة الحقيقية بين كل أبنائها ومكوناتها...
الحوار يمكّننا من أن نعمل سوياً حول كل ما نتفق عليه، كما يمكّننا من أن نعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف عليه... الحوار هو الذي يجعلك تعتبر أن رأيك صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرك خطأ يحتمل الصواب، كما قال يوماً الإمام الشافعي.
ألسنا أمّة "جادلهم بالتي هي أحسن"؟!.