بعد أن عجزت أميركا في تحقيق أهداف عدوانها على سورية بصيغتها الأولى المتجسدة بوضع اليد على كامل سورية، وتحويلها مستعمرة أميركية، كما هي حال ممالك ومشيخات الخليج، لجأت إلى الخطة ب البديلة والتي رأت فيها إنقاذاً للعدوان وتحقيقاً لأهدافه الاستراتيجية مع خفض سقف مستوى الإنجازات والمكتسبات.
لقد اتجهت أميركا بخطة التقسيم التي اعتمدتها إلى إنشاء دولة في الشمال والشمال الشرقي السوري، تؤمن عملياً الفصل بين مكونات محور المقاومة في الشرق (إيران)، والغرب (سورية وحزب الله)، وتقطع الطريق على العراق الذي يتأهب للانضمام الى هذا المحور مهما وضعت العراقيل والعوائق في وجهه.
لكن سورية وحلفاؤها نجحوا أيضا في إسقاط الخطة البديلة ووضعوا اميركا في مأزق الفشل المؤكد خاصة وأن إسقاط الخطة تلك لم يستلزم وقتا ًكبيراً لإنتاجه، ففي الوقت الذي استلزم إسقاط الخطة الأصلية (خطة السيطرة على كامل سورية) حوالي 40 شهراً، عملت فيها اميركا بثلاث استراتيجيات أو خطط (الاخوان – البدرية – داعش)، لم يستلزم إسقاط خطة تقسيم سورية الى دولتين أكثر من أربعة أشهر (من نيسان الى اب الحالي). والدولتين هما كما بات معلوما حسب الخطة الأميركية دولة جنوبية عربية عاصمتها دمشق ودولة شمالية شرقية وعاصمتها حلب وتكون مستعمرة أميركي ويكون خط البوكمال عفرين خط الفصل بينهما.
مع صمود سورية، وتحركها المجدي ميدانياً، وإسقاط الخطة الأميركية التفتيتية، ومع الإقرار الأميركي بالعجز عن التعويض سياسياً، والعجز عن فرض الخطة عسكرياً في الميدان، مع هذا العجز المزدوج اتجهت أميركا الى حرب الاستنزاف، وبكل وقاحة صرح مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط بقرار أميركي بإطالة أمد الصراع في سورية لمنع النظام، على حد قوله، من النجاح في المواجهة والانتصار.
و مرة أخرى تُفَاجأ أميركا بالرد، الرد الذي جاء هذه المرة استراتيجياً وعملانياً ميدانياً على حد سواء، ردٌّ تمثل بوضع مخرجات لقاء مثلث طهران العسكري موضوع التنفيذ العملي، وظهور مثلث "رأس" الدفاعي المشكل من روسيا وايران وسورية ، حلف صدم اميركا وجعلها تتخبط باحثةً عن رد يقطع الطريق على هذا الحلف الذي وصف مسؤولوها مخاطره أنها تتعدى الميدان الى ما هو ابعد في السياسة و الاستراتيجيا ، خاصة بعد ان اعلن و لأول مرة عن التعاون الصيني السوري و بشكل علني يوجه رسالة الى من يعنيه الامر بان الصين تتأهب للانضمام الى هذا الحلف فضلا عن العراق التي فتحت اجواءها للطيران الروسي القادم من مطار همدان الإيراني ليقصف الإرهاب في سورية .
مع هذا التحول الصاعق أدركت اميركا ان حرب الاستنزاف التي تخطط لها في سوريا لتمرير الأشهر الثلاثة لا بل الأشهر الخمسة المتبقية من العام ومن ولاية أوباما، ان هذه الحرب التي تريدها لمنع انتصار سورية وحلفاؤها انما هي حرب ستفشل وان من ارادت استنزافهم عرفوا كيف يسقطوا الخطة ويتابعوا معركة حلب بما تفتضيه المعركة من عمل ومتابعة.
و كانت الخطة الأميركية للرد عل تلك المتغيرات ، هي خطة اميركا الكردية و التي تقضي كما يبدو بالتراجع عن خطة التقسيم الى دولتين كما ذكرنا و اعتماد خطة انشاء كيان كردي في الشمال الشرقي السوري في منطقة يقطنها 700 الف سوري كردي و معهم و يحيط بهم اكثر من 3 ملايين سوري عربي ، و تمكين الأقلية الكردية بدعم أميركي و حماية أميركية علنية و مباشرة من وضع اليد على المنطقة و تنفيذ تطهير عرقي فيها لمصلحة الاكراد و تهجير العرب بشكل خاص من الحسكة و المناطق العربية الأخرى مستعيدة بذلك خطة تقسيم فلسطين و إحلال الصهاينة مكان العرب فيها .
ان اميركا تكرر الان في الشمال السوري اذن تماما ما حصل في فلسطين وهذه المرة بأداة كردية فهل تنجح؟ وهل يكون للأكراد دولة منفصلة عن الدولة الأم انفصالا كليا كما حصل في جنوب السودان او انفصالا مقنعا كما حصل في كردستان العراق.
لا شك ان الاكراد السوريين ليسوا جميعا مؤيدين او ملتزمين بالمشروع الأميركي التقسيمي الانتحاري، وان الفئة التي انخرطت في هذا المشروع تكاد لا تصل الى الأكثرية المطلقة منهم وتمثلت في حزب العمال الكردستاني المعروف بتاريخه وعلاقاته المشبوهة والذي انخرط في المشروع واتخذته اميركا مطية وأداة تنفيذية بيديها هو من يتولى التنفيذ، لكن هذا المشروع يفتقر الى مقومات النجاح ويواجهه عقبات وصعوبات لا يستطيع أصحابه تخطيها.
وبداية يجب ان يذكر أصحاب الطموحات الاجرامية ان عالم اليوم ليس عالم مطلع القرن العشرين وانا من استطاع فرض إسرائيل في غفلة من زمن لا يستطيع فرض إسرائيل كردية في سورية، في ظروف تغيرت وموازين قوى اختلفت وان هناك من إمكانات المواجهة وقدرات اجهاض المشروع ما لا يستطيع أصحابه تجاهله او تخطيه. فمحور المقاومة مع ما يملك من قدرات عسكرية رفدها بقدرات اضافية من حلفاء دوليين صادقين في طليعتهم روسيا واخرون لن يسمحوا بتمرير هذا العدوان الاجرامي على امن المنطقة ووحدة أقاليمها.
ويبقى ان نقول ان المشروع الأميركي الجديد هو مشروع عارض غير قابل للنجاح او البقاء لأسباب موضوعية وإقليميه ودولية ويكفي ان نذكر منها:
1. رفض الدولة السورية المركزية لمشروع هذه الدولة التي أسقطت كل المشاريع التي تستهدفها، وبقيت قوية بذاتها، وتحالفاتها، قادرة بذلك على حماية مصالحها الوطنية، ووحدة أراضيها.
2. رفض معظم أهالي المنطقة السوريين لهذا المشروع الانتحاري، فلا الأكراد يجمعون، ولا العرب يقبلون بتهجيرهم وسلب أرضهم على الطريقة الصهيونية، ولذلك فإن أي إنجاز يحققه "الأسايش" في لحظة من الزمن هو إنجاز ظرفي لن يكون مستقراً، وسيجهض بأسرع مما يتصور أصحابه، فلينتظر هؤلاء مقاومة تنشأ وتعمل الى جانب الدولة المركزية، لمنع انتهاك وحدة سورية.
3.رفض إقليمي، وبشكل خاص من إيران وتركيا، اللتين تريان في دولة كردية في الشمال السوري مساً بأمنهما القومي المباشر وبالأمن الإقليمي العام.
4. صعوبة في تسويق الفكرة دولياً لأكثر من اعتبار مصلحي الواقعي.
و على هذا نرى ان مشروع كردستان السوري ليس مشروع كيان سياسي قابل للحياة و رغم انه كان جزءا من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي اشهرتها اميركا في العام 2006 فانه يبقى في ظروفه الان غير قابل للتحقق و للإنجاز و سيكون في ظرفه الان طفرة عابرة شاءتها اميركا في مرحلة ما قبل الانتخابات و احتاجها الديمقراطيون لتكون ورقة اقتراع تعزز حظوظ مرشحتهم الى الرئاسة بعد ان فشلوا في سورية في مشروع السيطرة و مشروع التقسيم ثم خدعة حرب الاستنزاف فكان هذا بمثابة فعل ترضية لن يدوم اثرها لكن الأخطر فيها ان مصير الأداة التي استعملت بيد الأميركي و انقلبت الى خنجر يطعن به ارض الوطن السوري ان مصير هذه الأداة لن يكون مقاعد حكم و سلطة كما يعده الأميركي بل سيكون في مكان اخر يستجيب لتعريف الانتحار .